مرة أخرى يجب أن نعطي التداخل بين الحالة الفلسطينية والحالة العربية مساحته من دون مطّ أو الغاء. الحالة العربية كلها تجد نفسها يومياً مضطرة لأن تدعو الى حلول مستندة الى قرارات الشرعية الدولية في كل المسارات العربية - الاسرائيلية، وتعنوِّن ذلك بأنها حريصة على حقوق الشعب الفلسطيني والمفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي تدق باب التسوية الثنائية بإيقاع متسارع على حدود 4 حزيران يونيو 67 "بتعديلات" وترتيبات أمنية وعلاقات ديبلوماسية وتقاسم مياه الجولان وتطبيع، ولكن الأهم في هذه الحالة العربية هو أن الأنظمة تتلمس أيضاً رأسها ومواقعها ومصالحها أمام شعوبها، وان لم يكن امام الشعوب فأمام الانتيليجنسيا التي تشكل في هذه البلدان مراكز ضغط فعلية. الشعوب تشعر بالوجع، وتتململ، والتململ بدأ يضغط على العواصم العربية، وأصبح مرئياً وملموساً. ثم أن الشرق الأوسط الجديد الذي بشَّر به بيريز، والذي يعني، بلغة واضحة، حلولاً تجعل من الدولة العبرية الدولة الاقليمية العظمى في منطقة الشرق الأوسط، جعل هذه العواصم تتساءل عن الشرق الأوسط القادم: هل هو شرق أوسط التفوق فيه للاقتصاد والتكنولوجيا الاسرائيلية، أو هو شرق أوسط آخر يحمي ما بيد الطبقات الحاكمة العربية ويصون مصالحها، ويسمح لها بتطوير بلدانها اجتماعياً واقتصادياً حتى تستطيع الأنظمة أن تبقى على قمة الهرم، ولا تجد نفسها أمام انفجارات كبرى كما وقع في مراحل سابقة، فضلاً عن تجاربها المرة مع الدولة العبرية. ولذا توجد الآن في الخارطة العربية فعلاً تباينات في الرؤية لكيفية ادارة الصراع بالوسائل السياسية والتفاوضية، ويوجد من يدفع الى ضرورة الانتقال الى ادارته على أساس قرارات الشرعية الدولية. ويدرك الفريق المؤثر في صنع القرار الفلسطيني، ان ابرز العقد أمامه هي تجاوز حالة الضعف الفلسطينية، من خلال محاولة بناء ائتلاف وطني على قواسم مشتركة. وبشفافية أقول، لا مخرج من عنق زجاجة سياسة الخطوة خطوة الأوسلوية وضغوط باراك لربط الانتقالي بالنهائي بما فيه العودة لاتفاق انتقالي مرحلي أوسلوي آخر اتفاق اطار Frame work مع مواصلة نهب الأرض وتدهور حياة البشر والعلاقة المأزومة بين الشعب وبين السلطة والمعارضة من مواقع متباينة... أقول لا مخرج إلا بسياسة القطع مع الخطوة خطوة و"خذ وطالب" والانتقال الى سياسة الشعب الموحد والخارطة الوطنية الموحدة على مفاوضات قرارات ومرجعية الشرعية الدولية. إن كثيراً من القوى الفلسطينية والعربية النافذة في صنع القرار، أو الضاغطة باتجاه تصحيح القرار، تلمس بحكم دروس التجربة اياها ضرورة إحداث نقلة في الحالة الفلسطينية، وهذه النقلة لا يمكن أن تحدث إلا بدفع القاعدة الاجتماعية السياسية الفلسطينية للعودة الى البرنامج السياسي الذي أخذت به منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية، أي البرنامج المرحلي الذي دعا ويدعو الى تسوية سياسية شاملة، في اطار 242، 338 و194، أي دولتان على أرض فلسطين التاريخية، دولة فلسطينية على أرض 1967 بحدود 4 حزيران يونيو عاصمتها القدس ودولة اسرائيل، وحل مشكلة اللاجئين على أساس قرار حق العودة الرقم 194 مقابل السلام مع الدولة العبرية، مع أخذ المستجدات بعين الاعتبار حتى نبني في مسار الصراع العربي - الاسرائيلي "سلاماً متوازناً قابلاً للحياة". وفي هذا السياق علينا أن نلحظ موقف الاتحاد الأوروبي الأكثر وضوحاً في استخلاصه ورؤياه وحلوله بحكم كونه جاراً على ضفاف بحيرة المتوسط وله مصالح استراتيجية كبرى في الشرق الأوسط. هذا الاتحاد الأوروبي يريد دفع الأمور مرة أخرى باتجاه الشرعية الدولية، حيث لا يوجد له دور سياسي بدون قرارات الشرعية الدولية. وهنا علينا أن نلحظ بيان قمة برلين في آذار مارس 1999، الذي دعا بلغة واضحة الى "حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بما فيه حقه في دولة مستقلة غير قابلة للاعتراض أو الفيتو"، وبيانه عن "الوضع الخاص للقدس الغربية والشرقية بأنها أرض محتلة استناداً لقرار الأممالمتحدة 181". ولكن كجواب مباشر عن التساؤل الكبير ان العمل التوحيدي المطلوب ليس استجابة لنداءات من هذه العاصمة أو تلك، وانما هو استجابة للضرورة الوطنية الفلسطينية والأمن القومي العربي في الوضع الراهن، لأننا أمام مفترق طرق: اما مواصلة سياسة الخطوة خطوة وما يترتب عليها من كوارث، وأما بذل الجهد بأقصى وتيرة ممكنة لانتشال الحالة الفلسطينية من تدهورها، ووضع أسانيد لوقف التدهور، تمهيداً للانتقال الى مفاوضات شاملة على أساس قرارات الشرعية الدولية. هذا مطروح، وذاك مطروح. وفي هذا السياق علينا أن نلحظ ماذا فعلت وتفعل الآن الدولة العبرية في مذكرة شرم الشيخ وتطبيقاتها الجارية، باراك أعلن انه إذا لم يقبل الطرف الفلسطيني بالتعديل الذي اقترحه، فإنه جاهز لتنفيذ الواي الذي وقعه نتانياهو كاملاً كما هو، نصاً وروحاً. التعبير "نصاً وروحاً"، يعني ماذا؟ يعني وضع "التبادلية" حرفياً أمام الفريق الفلسطيني، والتبادلية تعني أن بامكان باراك أن يعطل كل نبضة من نبضات إعادة الانتشار ان لم تقتنع الدولة العبرية بأن الطرف الفلسطيني أنجز كل ما يترتب عليه بموجب الشروط المقابلة. وهذا ساهم في إرعاب الفريق الفلسطيني المفاوض. ما هو التعديل الذي طلبه باراك؟ التعديل الأساسي هو الربط بين الانتقالي والدائم، ولذلك أصر باراك على اتفاقية اطارFrame work بسقف فبراير لعام 2000، وعلى أساس اتفاقية الاطار هذه تجري المفاوضات حول الوضع الدائم بأمل انجازها في أيلول سبتمبر العام 2000 رغم اعلانه في اللقاءات السرية مع عرفات ان الفترة الانتقالية الجديدة عملاً باتفاق الاطار ستأخذ بين 5-10 سنوات، والقضايا الكبرى: القدس، اللاجئين، الحدود... ستأخذ سنوات مديدة أخرى ولأكثر من عشية من السنين. أراد باراك مرة أخرى أن يتداخل الانتقالي بالدائم، وبلغة ملموسة العودة لسياسة الفترات الانتقالية، وفي مقابل ذلك قدم للفريق الفلسطيني ما سماه بسلة مغريات - تساهل بالتبادلية الخاصة بجمع السلاح، اسماء الشرطة، تخفيض عدد الشرطة، وبعض المرونة في موضوع الأسرى. أيضاً هناك نقطة ثانية تأتي في الدرجة الثانية أو العاشرة من الأهمية، لكن علينا أن نضعها في الدرجة الثانية لاعتبار سياسي بمدلولاته الخطرة. في الواي المحمية الطبيعية التي تبلغ مساحتها 3 في المئة منطقة صحراوية في الجنوب، وتصل بين جنوب بيت لحم - الخليل وبين غور الأردن. طلب باراك ابقاءها في يد الاحتلال في المربع C، وقدم بديلاً عنها مناطق خضراء مبعثرة مثل الغربال في الشمال. السلطة الفلسطينية اغرتها المناطق الخضراء المتناثرة بلا تواصل بينها في الشمال، بينما المنطقة الصحراوية في الجنوب هي منطقة الحوض المائي الجوفي، وهم لا يريدوننا أن نقترب منها، كما انها تصل بين جنوب الضفة وبين الحدود الأردنية، وهم لا يريدون لنا أن نكون هناك لأن لديهم خارطة لها علاقة بغور الأردن. في هذا الميدان حسمنا نظرياً في الحوار الذي جرى في القاهرة مسألة عدم العودة لسياسة الخطوة خطوة، وينص البيان المشترك 23 آب/ اغسطس 99 الذي صدر في ختام الجولة الأولى من الحوار، على انتهاء الفترة الانتقالية Transition Period، وعلى اننا الآن أمام مرحلة جديدة تقوم على مفاوضات جديدة في اطار قرارات الشرعية الدولية. والمسألة المطروحة على جدول الأعمال هي ضبطاً الانتقال من اتفاق البيان الى تطبيقه وممارسته العملية، فهنا ضبطاً مفتاح تصحيح المسار الفلسطيني - الاسرائيلي، والدخول على خط ترميم جسور العلاقة بين مسارات التفاوض العربية، ووقف انتعاش الخطاب الانقسامي بين المسارات منذ استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية التي دخلت جولتها الطويلة الثانية والحساسة جداً بدء من 3/1/2000، فهل تنجح اتفاقات الحوار بالامتحان الوطني المهيب، فالعدو لا يهدر لحظة زمنية، والزمان سيف قاطع لكل من لا يقطعه. * الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين