عاماً بعد عام، تعود اميلي نوتومب الى قرائها برواية جديدة ما تلبث أن تتحول الى حدث اعلامي وأدبي يتلقفه القراء بنهم. وها هي في روايتها الأخيرة التي تحمل عنوان "ذهول وارتعاد" الصادرة هذا العام عن دار "ألبان ميشيل"، حازت الشهر الفائت على الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية التي تقاسمتها مع فرانسوا تاياندييه عن روايته "آنييلكا". واميلي نوتومب ليس روائية خفية أو متخفية إذا صح التعبير، طالما أنها أقرب الى النجمة التي يكثر ظهورها على شاشات التلفزيون وفي صفحات الجرائد والمجلات، هي التي تمتاز الى حد كبير بكاريزما وطرافة تزيدان من جاذبيتها كأديبة شابة ترتدي ثياباً لافتة، تتزين بشكل غريب وتروي مقاطع من سيرة شخصية لا تخلو من الغرابة، كأن تردد بلهجة خالية من الافتعال أنها تتقيأ باستمرار أثناء عملية الكتابة، أو أنها تمر بفترات طويلة تنقطع فيها عن الطعام كي تتحول الى ما يشبه الطيف. ولدت اميلي نوتومب عام 1967 في اليابان من والد بلجيكي عُيِّن سفيراً في الصين والولايات المتحدة ولاوس وبيرمانيا وبنغلادش. عام 1984، عادت الى بلجيكا للدراسة كي تسافر من بعدها الى اليابان حيث استقرت وعملت مترجمة خلال 1988. عام 1992 أصدرت روايتها الأولى "قواعد نظافة القاتل" التي حازت على شهرة كبيرة كرستها بين الأقلام الأدبية الشابة، الموهوبة والواعدة، ثم تلت في كل عام رواية، وصولاً الى روايتها ما قبل الأخيرة "اغتيال" التي بيع منها أكثر من سبعين ألف نسخة وجعلتها تصبح من بين الواحد في المئة من الكتّاب الفرنسيين الذين يعيشون من أقلامهم. واعطاء لمحة موجزة وسريعة عن حياة اميلي نوتومب ليس هدفاً قائماً بذاته أو خياراً نقدياً يسعى الى الربط بين شخصيتها الخاصة وكتاباتها، بل هو تقديم يفرض نفسه بما أن الروائية ذاتها تعلن وتؤكد أن روايتها الأخيرة "ذهول وارتعاد" مستوحاة من تجربتها الشخصية التي حملتها الى العمل والإقامة في اليابان خلال عام كامل، وان معظم الأحداث التي ترويها وقائع حدثت لها. ربما لأن أميلي نوتومب التي تتناول في روايتها الأخيرة المجتمع الياباني بلهجة لا تخلو من السخرية والنقد اللاذع، ترى في تأكيدها ذاك الدليل على حسن نواياها والبرهان على صحة ما تدعيه أو تنقله أو ترويه. بحسب البروتوكول الياباني القديم، كان ينبغي للرعية أن تتوجه الى الإمبراطور "بذهول وارتعاد"، ذلك هو التقليد الذي تستوحي منه أميلي نوتومب عنوان روايتها التي تدور في الطابق الرابع والأربعين من ناطحة سحاب هي المركز الرئيسي لكبرى الشركات اليابانية، شركة "يوميموتو" التي تعمل في الاستيراد والتصدير، حيث تعين البطلة أميلي سان بعد توقيعها على عقد عمل ينتهي بعد عام. كل ما تعرفه اميلي سان عن عملها هو التالي "السيد هانيدا كان رئيس السيد أوموشي الذي كان رئيس السيد سيتو الذي كان رئيس الآنسة موري التي كانت رئيستي. أنا لم أكن رئيسة أحد ... إذاً في شركة "يوميموتو" كنت في إمرة الجميع" ص 7. منذ الصفحات الأولى تسلمنا أميلي نوتومب مفاتيح روايتها، كأنما من خلال الحدث، واختيار الشركة اليابانية نموذجاً مصغراً عن المجتمع، ومن خلال تموضعها في مكان يظهر منذ البداية أنها لا تجد لنفسها مكاناً فيه، ترسم لنا ملامح ما نحن مقبلون عليه: عدم التواصل بين مجتمعين وثقافتين وحضارتين، أي الحضارة الشرق آسيوية والحضارة الغربية، والمغامرات التي تتعرض لها أميلي أو أليس البريئة، الشابة المقبلة على الحياة، في مجتمع الشركة اليابانية لا يقيم للفرد اعتباراً إلا بقدر مردوديته في العمل وتضحيته بفرديته وتخليه عن ذاتيته في سبيل مصلحة الكل. وبالفعل، هذا هو بالضبط ما يصيب بطلة الرواية اميلي سان التي ترتكب الحماقة تلو الأخرى بحيث ستدفع رئيستها الآنسة موري الى الاقتصاص منها من دون رحمة، والى نقلها للعمل في المراحيض حيث تمضي سبعة أشهر في نوع من التحدي المستميت لحفظ ماء الوجه والبقاء حتى انتهاء عقد التوظيف. كل هذا وسط وصف لأحداث وشخصيات لا تخلو من الطرافة ولو كانت تزخر بالأحكام والأفكار المسبقة التي تتناول بشكل تبسيطي ومتسرّع ومسطّح أحياناً، مظاهر ثقافية وحضارية تبقى منغلقة على من كان غريباً عنها. هكذا مثلاً نراها تحكي عن المكانة المهينة للتعرّق في المجتمع الياباني الذي يرى فيه قمة الوضاعة وقلّة الذوق، أو حين تتحدث عن المرأة اليابانية التي تظهر بها كامل الإعجاب إذ تقول: "على عكس الرجل، باستطاعة اليابانية أن تترك جحيم المؤسسة من خلال الزواج. ويبدو لي أن عدم العمل في شركة يابانية هو هدف بحد ذاته ...، أعلن عن اعجابي العميق بكل امرأة يابانية لم تقدم على الانتحار" ص 94 - 95. بالطبع، تحوز البطلة أميلي سان على بعض من تعاضد ومساندة الموظفين لها عند نقلها الجائر الى المراحيض، إذ نراهم يقاطعون الطابق الرابع والأربعين حيث تعمل هي، فيفضلون اللجوء الى مراحيض طوابق أخرى، مما يكبّد الشركة وقتاً ثميناً ضائعاً لا يتجاوز بضع دقائق في النهار: "بالفعل، منذ تعييني تحوّل الذهاب الى مراحيض الشركة الى فعل سياسي. فالذي كان يرتاد بعد مراحيض الرابع والأربعين كان يعني: خضوعي للسلطة مطلق وأنا لا أبالي أن يُذلّ الأجانب... بينما يعبّر الذي يرفض الذهاب اليها عن هذا الرأي: احترام رؤسائي لا يمنعني من الحفاظ على آرائي الانتقائية لبعض قراراتهم"... وأميلي سان التي تمضي نهاراتها في هذا المكان الفارغ الموحش الذي تنيره أضواء النيون بشكل بارد وفاجر، تشبّه نفسها في مقاطع طويلة من الرواية براهبة أو ناسكة في حضارة القرن العشرين، حضارة المنافسة والإنتاجية والأرقام، حيث لا مكان للمشاعر للفرد أو للأحلام. هكذا لا تجد أميلي سان سبباً للهرب الى النافذة الكبيرة المطلة على أبنية طوكيو المرتفعة بإباء، كي تلعب اللعبة التي تنقذها من هذا الخواء والشعور بالمهانة الفظيع، ألا وهي رمي جسدها من الطابق الرابع والأربعين، في مخيّلتها، والطواف طيراناً في أجواء تلك المدينةطوكيو التي تعرف وتحب "كنت أمضي ساعات طوال واقفة. جبيني ملتصق بالزجاج، ألعب برمي نفسي في الفراغ. كنت أرى جسدي يهوي، فأدخل ذلك السقوط فيّ حتى الدّوار. لهذا السبب، أؤكد بأني لم أضجر دقيقة واحدة في عملي ذاك" ص 140. وفي رواية "ذهول وارتعاد" نجد أيضاً الموضوعات نفسها الغالية على قلب أميلي نوتومب: الدهشة أمام الجمال الغريب لرئيستها الآنسة موري التي يربطها بها نوع من العلاقة السادو - مازوشية: "لم تكن تمارس قسوتها إلا معي، لا بد أنه امتياز. لقد قررت أن أرى في ذلك اصطفاء لي" ص 148" وآلام الجسد المكبوت، المهان، الذي تصيبه نزعات ميتافيزيقية أو ميول انتحارية: "كان هناك مسيح الزيتون، أما أنا فمسيح الكومبيوترات". الذهول والارتعاد، هذا هو بالضبط ما لم تصب به أميلي نوتومب في مقاربتها حضارة بلد عريق كاليابان، وهو بعض مما قد يصيب قرّاء روايتها التي تمتاز بخفة وسهولة مفرطة في إطلاق الأحكام!