* كم تبدو مثيرة ومحفزة فكرة المطالبة بالتوجه السياسي نحو الملكية الدستورية في هذه الايام وهي فكرة تجيء في محضر البحث عن آليات سياسة لتجاوز الواقع العربي المعيشي والاجتماعي السيئ للغاية في كثير من المجتمعات العربية. وتجيء كذلك مع عملية التحول الى مجتمعات ديموقراطية في بعض الامم التي اضطرت السلطة فيها للاقلاع عن فكرة الانفراد بالحكم، استجابة لهذا النموذج الكوني المتدفق بهدير التحولات المتقاطعة والمستويات الانسانية المتداخلة نحو آفاق جديدة تقتحم حجب المجهول وتتلون بوعد حضاري مباغت ومتبدل. ويتزامن هذا التدرج الفعلي مع تغير طرائق تجسيد الادارة السياسية في عديد من البلدان مع زمننا العربي المتثاقل بالاحداث والازمات. ما العمل اذن؟ وما هو الممكن المعقول الذي بوسعه ان يجعل من السلطة المطلقة تدخل مدار التداول السياسي السلمي؟ وفي اكثر حالات احصاء الازمات كثافة ربما يأتي السؤال بين شواغل الممكن والمستحيل السياسي على النحو الذي عرضه المفكر المصري سعد الدين ابراهيم في صفحة "افكار" في العدد 13352 من "الحياة". جاء حوار السؤال مهمازاً بين دائرتي التأمل الفكري والاغراء السياسي: هل بالامكان توجيه "جمهوريات عربية نحو ملكيات دستورية". *انطلاقاً من هذا السؤال استعرض الكاتب المتغيرات الجوهرية التي طرأت على نموذجين عربيين من الانظمة الملكية العربية، الاردن والمغرب. بيد انه من زاوية اخرى كان في حديثه نكهة لغة الخيار الديموقراطي السجالي في الوطن العربي. ففي الجانب الاول نستنتج من سردية المقال بأن العاهلين الحسين والحسن تركا بلديهما قبل رحيلهما يتمتعان نسبياً بقدر من الديموقراطية التعددية للمرة الاولى منذ اكثر من ثلاثة عقود متتالية من الحكم المطلق. ولم يكن ذلك التحول يسيراً، فقد واكبه كم هائل من المصاعب والصراعات الطويلة التي عمت المنطقة العربية، تعرض خلالها كل من القطرين للمد والجزر والتحدي والهزات. ومن اهم المعالم الاساسية في ذلك التحدي ظهور ترسيمات متنوعة للملكين ابان حقبة الستينات والسبعينات اما صورة "الملك المحاصر" او صورة الملك "الفاقد للشعبية". ولم تكن تلك الترسيمات في مأمن من "المثقفين العرب" اذ عمقوا من معناها في الداخل والخارج. في ظل تلك الترسيمات كانت للملكين مسؤولية اخرى يستحيل تمريرها بوسائل شفوية من مناخ سياسي يعادي اصلاً فكرة الملكية، وهي مسؤولية ادت في آخر المطاف الى "تحويل بلديهما الى ملكيات دستورية… ليس بالقطع في مستوى الديموقراطية الغربية" لكنها كانت الخطوة الاولى في ادخال العنصر الدستوري في المعادلة السياسية على رغم تغييبه في اماكن اخرى بذريعة القومية. * وبعد ذلك وفي الجانب الثاني يدخل بنا الكاتب في دائرة الاغراء السياسي حيث يجذب انتباهنا الى مؤتمر "المجتمع المدني" الفلسطيني والذي نظمه المجلس الفلسطيني للعلاقات الخارجية في غزة 17/7/99. دخلت قاعة المؤتمر في نوبة من الصخب وربما الغضب اثناء تتابع الكلمات والعبارات عندما وقف الدكتور اياد السراج المعروف بآرائه ومواقفه الجريئة لكي: "يطالب نشطاء حقوق الانسان والمجتمع المدني.. في الوطن العربي بتحويل الجمهوريات الى انظمة يتوارث الحكم فيها احد افراد اسرة الرؤساء العرب.. بموافقة برلمانات منتخبة انتخاباً حراً - يتم فيه تأسيس ملكيات دستورية". وعندما لا تكون الفكرة حاضرة، فان مجرد الاشارة الى "لملكية الدستورية" كفيلة باثارة ردود فعل غاضبة لدى كثير من الناس. غير انه بعد فترة وجيزة اتخذت القاعة طابع الهدوء واكتسى تتابع الكلمات من جديد بصبغة جدية. فالفكرة "الجديدة" وبالذات التي تثير الدهشة والاستغراب توجب المناقشة الدقيقة المتأنية. * وفي سياق آخر وبلغة سياسية اخرى وبفارق زمني متسع كان ثمة اهتمام بهذه المسألة لدى تيار سياسي عربي معارض. وربما ما يستحق التنويه للتذكير به هو اقدام ذلك التيار بالدعوة للعودة الى "الملكية الدستورية" في السابع من تشرين الاول اكتوبر 1981، ولكن مع اختلاف جوهري واساسي. وعند القاء نظرة هادئة مع توخي الجد والانصاف لا يسع المرء - من باب الامانة التاريخية - الا ان يقول ان ذاك التيار السياسي كان قد جرؤ وقبل نشأة دعوات البيروسترويكا ان يفكر في الممنوع التفكير فيه ويعلن من دون تردد او مواربة عن ميوله الدستورية داعياً الى "اعادة" الملكية الدستورية" الى القطر العربي ليبيا. فلم يكن احد يجرؤ في بداية ذلك العقد - وفي المجال السياسي التداولي الليبي - على لفظة "الملكية" او يرفع لواء مرجعية دستور 1951 كان من الصعب ان يجاهر اي ليبي مثقف او غير مثقف، معارض او غير معارض برأيه في مسألة الملكية الدستورية او ديموقراطية دولة الاستقلال او دستور 1951. او يجعل من شعاره العلم الملكي علناً، من دون ان يصاحب ذلك اتهامه "بعدم الولاء للوطن" تحت اشراف ورقابة ترسيمات "الرجعية" و"التقدمية". * وتصل الجرأة ذروتها عندما قام التيار الدستوري بالاعلان في بيانه التأسيسي عن "تجديد البيعة للملك محمد ادريس المهدي السنوسي" باعتباره تاريخياً "رمزاً للشرعية في البلاد"، والذي كان في ذلك الحين "لم يزل بحكم الدستور الليبي رئيساً للدولة الليبية المستقلة، وكان حياً يرزق متمتعاً بكامل صحته وتوقد ذهنه وان تقدمت به السن". وخلال تلك الفترة لقي ذلك الموقف السياسي الجريء عنتاً كثيراً من معظم الليبيين في الخارج، وتجاهلاً متعمداً وبالذات لدى المثقف العربي وزميله المثقف الليبي. اغلق "المثقفون" والسياسيون الليبيون الباب على انفسهم وابعدوا بالحواجز كل ما هو مختلف ومميز عن تفكيرهم السياسي وتحول ذلك الرفض بمرور الزمن الى مبدأ صارم وكأنه "الفكر المقدس" الذي افتقر الى الحد الادنى من الواقعية السياسية والفكرة العملية. وبالطبع فقد كانت هناك منهجيات سياسية مختلفة يزخر بها ميدان الصراع السياسي الليبي، وكان لها كل المشروعية في اختيار برامجها ومنطلقاتها السياسية، وليس في مقدور احد التقليل من شأن ذلك، ولكن هذا لا يمنع بأن يكون الاتحاد الدستوري الليبي آثر تبني نهج آخر مغاير انطلاقاً من نهج دستوري محدد هو دستور 1951، لا اكثر ولا اقل. * وفي المقابل ثمة فارق جوهري واساسي بين فكرة "الاتحاد" وبين فكرة اياد السراج، بالاضافة الى الفارق الزمني فما هو "جديد" في فكرة السراج يعد بدوره مثيراً للغاية وجديراً بالاهتمام، ولكنه يتجاهل - وفي تصوري من غير قصد - ان معظم الجمهوريات المعنية تأسست على وسائل غير قانونية وغير شرعية. اما استمرارها المشهود به طوال هذه السنين فلا يستند الا على شرعية الامر الواقع، وليس الشرعية الدستورية. بينما "الجديد" المختلف والممنوع ايضاً في مطلع الثمانينات لدى الاتحاد الدستوري الليبي، كان يقوم على ان "اساس الدولة الملكية الدستورية كان لا زال قائماً" شرعياً بالاستناد الى ثلاثة مبادئ هامة: الاول: اعتبار دستور 1951 هو الاصل والمرجعية التاريخية غير المطعلة اذ تم اعداده واقراره ثم اصداره بارادة شعبية في السابع من تشرين الاول 1951 من قبل جمعية وطنية تأسيسية بمساعدة مفوض ومجلس دولي عينتها الاممالمتحدة. فقد كان "اساس الدولة وان شئت" الملكية الدستورية "راسخاً مثبتاً في ثنايا الدستور اثر الاستقلال". وبالتالي امتلكت المرجعية الدستورية لدولة ليبيا الحديثة شرعيتها من جذورها التاريخية وبانتزاع الاعتراف بها دولياً. الثاني: في المقابل كان الاقرار الدولي عام 1951 المتمثل في الاعتراف الرسمي بدولة الاستقلال قد اكسبها نطاق الشرعية الدولية، فهو اعتراف ثابت - تاريخياً - بكيان الدولة وبرئيسها القانوني والشرعي والسياسي، حيث كان ملك "المملكة الدستورية" لا زال حينئذ على قيد الحياة. الثالث: وهو الاشارة الى "ان الاستفتاء الشعبي العام هو اضمن الوسائل العملية لتحديد موقف لجماهير تجاه الفكرة او القضية المطروحة للاستفتاء مثل الدعوة للعودة الى الملكية الدستورية وذلك لمعرفة مدى الاجماع الشعبي عليها من جهة ونسبة الرافضين من جهة اخرى. انه معيار صادق ودقيق الى حد بعيد في استطلاع رأي الاغلبية حيال اية مسألة حيوية تهم عامة الشعب الليبي". ولا مجال للطعن في الصفة الديموقراطية للاستفتاء العام، طالما توافرت لاجرائه شروط التراهة من كل جوانبها مع الرقابة الجادة والمسؤولة. مع التأكيد في هذا المجال على احياء آلية المجالس النيابية وحق الترشيح والاقتراع السري. * هذا النمط من الرؤية الدستورية يقضي بنا الى نتيجة هامة بالفعل، اذ لم يكن استدعاء دستور 1951 في منأى عن تاريخ تأسيس الدولة الليبية ذاتها، فما كانت الفكرة محط نظرة آنية مرافقة للحظة سياسية آنية عابرة لا تجد حرجاً في اعتبار هذا الدستور مجرد "عقد اجتماعي" بين الحاكم والمحكوم. بل هو الاداة التي ينهض عليها العمل السياسي الشامل للجميع، فلا يقصد فئة دون فئة، او قوى سياسية دون اخرى، انه مدونة تخص المواطنين ويفضي الى استمرار الصلة البديهية والتاريخية به. * لم يقتصر النهج الدستوري على البعد التاريخي السياسي وحده. لقد حاول الاتحاد الدستوري - في سياق دعوته اعادة الشرعية الدستورية - جذب انتباه اذهان الكثير من الليبيين في الخارج الى ما احتوى عليه دستور 1951 من نصوص صريحة وردت فيه تؤكد على: "الحرية والمساواة امام القانون وحرية العقيدة والفكر واحترام الاديان وحرية الصحافة والتعبير والطباعة والنشر وحق تأسيس الجمعيات المدنية والسياسية وحق المواطن والمواطنة في المشاركة السياسية والاعتراف بشرعية التداول السلمي للسلطة القائم على الاختلاف الثقافي والسياسي… وحق الاختلاف مع السلطة عبر انتخابات وبرلمان يقيم الوزارة ويقيلها ويصدر القوانين التشريعية للحد من سلطانها كي تظل خاضعة لسلطات المؤسسات الدستورية الشرعية…" كما وتؤكد على: "الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.. وان القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون". وبموجب ذات الدستور وحديثه فلا تكتمل الدولة الدستورية وفي هذا الاطار "الملكية الدستورية" من دون المحافظة على كثافة مبدأ "سيادة القانون". وعلى كل حال يظل السؤال الذي طرحه المفكر سعد الدين وأثاره السياسي الفلسطيني المشاكس السراج سؤالاً مهماً يستحق القراءة والاشتغال عليه بجدية. سؤال جريء يتصل بوقائع معيوشة. * كاتب ليبي مقيم في الولاياتالمتحدة.