ما من منفى اشد قسوة من منفى اللغة، وما حكاية كتّاب المغرب العربي من ابناء الاجيال التي عاشت اواسط القرن، سوى تأكيد على هذا الواقع لأن كبارهم، من محمد ديب الى كاتب ياسين، ومن محمد خير الدين وطاهر بن جلون الى رشيد ميموني ورشيد بوجدرة وآسيا جبار، وقبلهم جميعاً مولود فرعون ومالك حداد ثم ادريس الشرايبي، احسوا، في لحظة او اخرى، هذا المنفى وان بدرجات متفاوتة بالطبع. ولكن مما لا شك فيه ان كاتب ياسين، الذي رحل عن عالمنا باكراً يوم 28 تشرين الاول اكتوبر 1989، كان من اكثرهم احساساً بهذا المنفى العسير، "المنفى الذي لا برء منه"، على حد تعبير واحد من المؤرخين الذين تناولوا هذا الامر. كل هؤلاء، وكاتب ياسين في مقدمهم، كتبوا باللغة الفرنسية، اي بلغة البلد الذي كان يستعمر بلدهم، وبالتالي باللغة التي كانت لغة المحتل، لا لغة الناس الذين يفترض بالكتابات ان تكون موجهة اليهم اصلاً. لكنهم - بالنسبة الى معظمهم على اي حال - لم يختاروا الكتابة بغير العربية عن تعمد، بل لأن المحتل كان قد جعل استخدام لغته عنواناً لاستيلائه على حاضر الناس ومحوه تاريخهم وهويتهم. ومن هنا ما حدث حين استولى الكتاب بدورهم على لغة المحتل واستوعبوها وأبدعوا فيها اعمالاً تصدت لاحتلاله وساهمت الى حد ما في تخليص ديارهم من ذلك الاحتلال. فهل ينكر احد يا ترى، الدور الذي لعبته كتابات محمد ديب ومالك حداد في بعث النزعة الوطنية في الجزائر؟ وهل يمكن لأحد ان يغفل، خاصة، دور كتاب مثل "نجمة" في رفد الثورة الجزائرية بمضمونها الابداعي، حتى ولو لم يكن العمل سياسياً مباشراً. "نجمة" هي بالتحديد الرواية الكبرى التي وضعها كاتب ياسين، ايام كانت الثورة الجزائرية تتأجج. وضعها ليرمز من خلالها الى الجزائر نفسها. وان كان استعار في رمزيته تلك، الذكرى الحقيقية لابنة عم له اغرم بها صبياً، تدعى نجمة. لقد نشر كاتب ياسين "نجمة" المكتوبة بالفرنسية، في 1956 وهي عرفت كيف تسجل نقطة انعطاف في تاريخ رواية شمال افريقيا. ولكن كاتب ياسين حين نشرها لم يكن مطلاً جديداً على عالم الكتابة. فهو - كشاعر - كان قد نشر مجموعته الاولى في 1947 وكان بعد في الثامنة عشرة من عمره. فهو من مواليد قسنطينة في 1929 لأب كان موسراً ويعمل في القضاء. درس في المدرسة القرآنية اولاً ثم ارتاد المدرسة الفرنسية. لكنه منذ اواسط الاربعينات بدأ نشاطه السياسي ولا سيما عبر مشاركته في تظاهرات 8 ايار مايو 1945 الشهيرة في مدينة سطيف ما ادى الى طرده من المدرسة الثانوية. فقرر ان يترك الدراسة ويتفرغ للنضال السياسي والعمل الأدبي. وفي العام 1947 القى محاضرة في باريس حول نضال الامير عبدالقادر في سبيل استقلال الجزائر وانضم الى الحزب الشيوعي الجزائري، وبدأ العمل في الصحافة. اقام ياسين، اعتباراً من العام 1951 في فرنسا، حيث مارس شتى المهن وكتب الشعر. وكان يرتحل في طول اوروبا وعرضها منادياً باستقلال الجزائر. وقد تعرف عليه القراء الفرنسيون خاصة من خلال قصيدة "نجمة" التي نشرها في مجلة "مركور دي فرانس" قبل ان يحولها الى رواية اضفت عليه شهرة كبيرة اعتبارا من 1956، ليس فقط بسبب موضوعها، بل كذلك بسبب بنائها الشكلي المحدد، حيث تختلط فيها الصور بالسرد والواقع بالحلم، وعنف اللفظ بقوة الرمز. حول هذه الرواية قال كاتب ياسين لاحقاً "لقد أردت ان اعطي من خلالها صورة للجزائر من خلال صورة المرأة فيها". بعد "نجمة" كتب كاتب ياسين كثيراً: طور "نجمة" نفسها في "النجمة المشعة" 1966. وخاض الكتابة للمسرح، وخاصة كوسيلة تمكنه من التعبير عن قضايا العصر حرب فييتنام، حرب الجزائر، القضية الفلسطينية وتقربه من العمال الجزائريين والمغاربة في فرنسا. لذلك نراه كتب سلسلة من المسرحيات مثل "حلقة الانتقامات" 1959 و"الرجل ذو الصندل المطاط" 1970. في 1972 انتقل كاتب ياسين الى الجزائر نهائياً حيث اقام، وراح يكتب ويخرج مسرحيات باللهجة الجزائرية المحكية محاولاً من خلالها ان يصل الى جمهور شعبي عريض. وان يحاول "اصلاح الثورة الجزائرية من داخلها" على حد تعبيره. لكنه رحل في العام 1989 وهو في الستين من عمره، بعد ان كرم خلال سنوات حياته الاخيرة على مستوى عالمي. رحل وفي قلبه حسرتان: اولاهما انه كتب اجمل اعماله بلغة غير لغته، وثانيهما ان كل أدبه وكل أدب الجزائريين المخلصين الآخرين، لم يتمكن من ان يخلص الجزائر من مصيرها الذي كانت تسير نحوه بسرعة. هو الذي كان قد ساهم قبل ذلك في تخليصها من الاحتلال!