"العطر" إحدى الأغنيات الثماني التي غناها الفنان السعودي طلال مداح ضمن آخر ألبوم له أصدرته شركة فنون الجزيرة للانتاج الفني والاعلامي الرياض. ولقي هذا الألبوم الذي اتخذ من أغنية "العطر" اسماً له رواجاً كبيراً واقبالاً في السعودية منذ الأسبوع الأول لتوزيعه وما زال حتى الآن يحقق مبيعاته المرتفعة ليسجل للمطرب طلال مداح نجاحاً آخر بعد ألبومه "طلاليات" الذي كان عبارة عن تقاسيم عزف على العود جاءت من دون غناء ومن تأليف طلال مداح وكان صدر قبل بضعة شهور. وهكذا حقق طلال ما وعد جمهوره به. وألبوم "العطر" يذكر مستمعه بقديم طلال مداح الذي اشتهر عربياً وغناه مطربون ومطربات من الخليج وبقية العالم العربي مثل "مقادير" و"لا تقول" و"أغراب" و"الموعد الثاني" وغيرها. ويذكر أيضاً بأغنية حديثة نسبياً غناها طلال قبل نحو ست سنوات في ألبوم حمل اسمها وهو "أنا راجع أشوفك" وكانت تلك الأغنية تحفة موسيقية وشعرية ميزها أداء طلال مداح المؤثر، ونص الشاعر الأمير محمد الفيصل. ولعل تذكر قديم طلال في الذاكرة عند الاستماع الى ألبومه الجديد لم ينتج عن تشابه أو تكرار بين تلك الأعمال الناجحة وألبوم "العطر" كما قد يخيّل للبعض. وانما حدث لأن المطرب طلال قدم في هذا الألبوم أعمالاً قوية اختلفت عن أغاني ألبوماته الأخيرة التي سبقت "العطر" في اللحن والأداء والكلمة أيضاً. والبحث في مقومات نجاح ألبوم "العطر" يبدأ من عنصر التلحين. فسراج عمر وهو ملحن سعودي عرف في الساحة الفنية العربية ملحناً متمكناً ومؤلفاً موسيقياً من الطراز الأول وله خبرته الطويلة في هذا المجال. وكان سراج قد توقف عن التلحين قبل تلحينه جميع أغاني هذا الألبوم عشر سنوات تقريباً. وفي مناسبة الحديث عن سراج عمر وطلال لا بد من الاشارة الى العلاقة الفنية الحميمة بينهما وهي علاقة قديمة رسمت معالمها الأعمال الغنائية الناجحة التي سمعها الجمهور بإعجاب شديد في الأعمال الغنائية المشتركة بين الاثنين وكان آخرها ألبوم "يا كريم" قبل إحدى عشرة سنة تقريباً. ونموذج ذلك التعاون الناجح بين سراج وطلال له أثره الطيب في ذاكرة عشاق طلال مداح. ومنهم توفيق السعدون مهندس برامج كمبيوتر، الذي دفعه تقديره لتجربة طلال مداح الغنائية الى تجميع الآغاني القديمة وبعض الأعمال الحديثة التي أسندت نصوصها الى طلال لتلحينها أو غنائها لموهبته الفذة في التلحين والتأليف الموسيقي أيضاً. وأحياناً يكون تأخر طلال في غناء النص المقدم اليه من أحد الشعراء المشهورين سبباً لغناء مطرب آخر له من دون اشعار طلال بذلك من الشاعر أو المطرب فيكون أن يتخلى طلال عن الأغنية. لكن محبي طلال يعملون على تسريبها ونشرها لتكون المقارنة بين لحن وغناء طلال وغناء ولحن المطرب الآخر مذهلة. واستخدم توفيق برامج تنقية الصوت بواسطة الكمبيوتر مع أعمال طلال ونجح في ذلك. يتحدث توفيق السعدون عن العلاقة الفنية بين طلال مداح وسراج عمر فيقول "مشوار سراج وطلال مداح تميز بالنجاح تلو النجاح فقد قدم سراج أبرز وأجمل الأغاني التي شدا بها طلال، ومنها على سبيل المثال: مقادير، أغراب، الموعد الثاني، أنادي، لا تقول، مري علي قبل الرحيل، العشق، الله يعلم، يا كريم، الاختيار، ليلكم شمس. واتضح في تلك الأعمال أن سراج من أقدر الملحنين تعاملاً مع صوت طلال وفهماً لمساحاته وجمالياته". وعن ألبوم طلال الجديد يقول توفيق:"لم يتم إنتاج ألبوم "العطر" على الطريقة السائدة هذه الأيام كأن يبذل المطرب أو الملحن الجهد في أغنية أو أغنيتين وتأتي بقية الأغاني لتملأ فراغ الشريط فحسب". وبالنظر الى موسيقى البداية يلاحظ أن مقدمات أغاني الألبوم نفذت بتوزيع موسيقي راق يحسبها من يسمعها مقطوعات موسيقية أو سيمفونيات عربية ومع التقاء صوت طلال بالموسيقى ينطبع الشعور بأن ذلك الأثر الموسيقي نموذج معبر عن الكلمة الشاعرة حين يتذوقها ملحن مثقف فانه يجيد تصويرها موسيقياً. لذلك كانت الألحان ناطقة بالمعاني التي كتب جميع نصوصها في الألبوم الشعراء السعوديون: محمد الفيصل، وبدر بن عبدالمحسن، ضياء خوجه ومحمد الفريح. و"شعاع" نموذج لتغني اللحن بالمعنى وهو أحد النصوص الغنائية التي كتبها بدر بن عبدالمحسن الذي لقب في الخليج مهندس الكلمة لتميز صوره الشعرية بخيال مركب ولغته العامية بحداثة لم تألفهما الساحة الشعبية السعودية والخليجية عموماً. ومن نص "شعاع": يذكرني شعاع العصر عيونك تدخل ضلوعي .. في غفلة من عيون الناس وتمد أهدابها احساس وتاخذ قلبي من قلبي تضيق بصدري الأنفاس ولمّا ينتبه واحد من الجلاّس .. بسرعة تركض النظرة على السجاد والكرسي أحس أن النهار يمسي .. وتغيب الشمس كالعادة وفي أغاني الألبوم تعددت الكوبليهات وتفاوتت أنفاسها الايقاعية، وأخذت الموسيقى. حيزها الكافي في كل أغنية ما حقق توازناً بين حضور صوت طلال وحضور الموسيقى وهذه المتعة المشتركة الناتجة عن توازن مساحة الصوت مع مساحة الموسيقى سمة تفتقدها الأغاني الحديثة لكثير من المطربين الشباب. ومما ميز التنفيذ الموسيقي في الألبوم أنه جمع بين موسيقيين مشهورين بالعزف على آلات موسيقية معينة، وهم من أنحاء الوطن العربي بالاضافة الى السعودية مثل راضي درويش ضابط الايقاع السعودي، ومصطفى عبدالنبي الذي قدم صولوهات رائعة مع صولو العود حسين صابر، وناي رضا بدير وكيبورد سامي عبدالنبي وميكساج عمار ساوند والمنصف ساوند بمشاركة الماستر محمد الناقوري. ويدرك مستمع "العطر" ما بذل الملحن سراج عمر من جهد يؤكده اختلاف تلحينه الأغنية عن الأخرى، على رغم من اجتماعها في ألبوم واحد. وإن وجدت سمة مشتركة بين ألحان سراج في ألبوم "العطر" فهي سمة الهدوء الموسيقي الرائق نظراً لما يتمتع به سراج من صفاء ذهني وحسي وهو هدوء يجعل الكلمة الشاعرة تهيم بلحنها وتنسجم معه انسجاماً يمنح المستمع استرخاء وتأملاً لأنها جاءت أصيلة النغمة جامعة بين بعض أنواع الفلكلور السعودي النجدي، الحجازي، الشرقي عبرت عنها آلات موسيقية عربية أصيلة مثل العود والناي والايقاع بأنواعه. وليس مبالغة القول أن ألحانه تلك تشكل مجموعة أعمال موسيقية وليست ألحاناً فقط. وذلك متوقع من الملحن سراج الذي يثبت في كل ما قدم ويقدم أنه طاقة ابداعية لملحنين اجتمعوا في روح سراج الذي يغذي الموسيقى من حسه المرهف. وقد ظل ملحناً ملتزماً يعطي عمله جهداً ودراسة واستبصاراً. وما يضيف الى "العطر" قيمة مع ما سبق ذكره مشاركة الشاعرين السعوديين محمد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن في الألبوم بستة نصوص غنائية والشاعران اشتهرا في الساحة الفنية العربية وفي الخليج وغنى لهما كثير من المطربين المعروفين. المطرب السعودي محمد عبده تحدث للصحافة الفنية في السعودية عن "العطر" باطراء شديد ووصفه بأنه انتصار للعمل الأصيل. وهذه شهادة أشد وأقدم منافس للفنان طلال مداح. وب"العطر" و"طلاليات" يتوج طلال الألفية الجديدة نغماً عربياً أصيلاً كلمة وموسيقى وأداءً. الملاحظة الأخيرة عن "العطر" تتعلق بأداء المجموعة. فمعظم أغاني الألبوم خلت من صوت المجموعة. ومن وجهة نظر خاصة فان ذلك ميز الألبوم، وجعله يتجاوز الطريقة السائدة والمسيطرة على الأغاني الحالية التي أضحت مملة بأداء المجموعة وترديدها الرتيب لمقطع من النص المغنى أداء خالياً من الحس والاتقان. وكأن لغة الشاعر التي يرددون جزءاً منها لغة غير مفهومة بالنسبة اليهم، ما يجعل المعنى يموت في أصواتهم. وصفاء الأغاني من صوت المجموعة في "العطر" جعله يفوح برائحة الموسيقى التي تنبعث من المعنى. وذلك الغياب الايجابي لصوت المجموعة ساهم في حضور الألحان وجدانياً وذهنياً. ولم يكن مع الموسيقى سوى الصوت الآخر العذب: صوت المطرب طلال مداح الذي ينبعث ليصور معنى بلبل الجزيرة اللقب الأول الذي أطلقته الصحافة الفنية العربية على طلال مداح.