فشل لقاء الرئيس ياسر عرفات مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون قبل أن يبدأ، فما أن أعلن الفلسطينيون أنهم سيقدمون إلى كلينتون تصوراً مكتوباً يتضمن رؤيتهم لقضايا الحل النهائي، حتى أعلن البيت الأبيض أنه يفضل تلقي رسائل شفهية ولا يحبذ تصورات مكتوبة. معنى هذا أن البيت الأبيض الذي يعرف طبيعة الخلافات الفلسطينية - الإسرائيلية، لا يريد ان يربط نفسه بأي تصور رسمي مكتوب، لأنه سيواجه بتصور إسرائيلي مضاد، ويستحيل بعد ذلك التوفيق بين التصورين في حل وسط يقترحه الأميركيون، فتفشل وساطتهم بالكامل. لقد تم الاعلان رسمياً في واشنطن، أنهم يريدون أن يستمعوا من عرفات إلى تقويمه لمجرى المفاوضات. وهذا ألطف وصف يمكن اطلاقه على فشل لقاء بين رئيسين، وبخاصة حين نعرف ان هذا الموعد محدد منذ ثلاثة أشهر. إن فشل اللقاء الثنائي هو تعبير عن فشل المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية على الأرض. والطبيعي في حال كهذه ان يتم اللجوء إلى تحكيم القوة العظمى الراعية للمفاوضات، ولكن حين تتهرب الدولة العظمى من مهمة التحكيم، وتصر على أنها تريد الاستماع فقط، فإنها تضع نفسها جانباً، تاركة المتفاوضين ليحلّوا مشاكلهم بأنفسهم. وأكثر من يطرب لهذا الفشل هو ايهود باراك، ولسان حاله مع الرئيس عرفات: لقد ذهبتَ لتشكو فشل المفاوضات إلى الراعي الأميركي النزيه!!، وها هو الراعي الأميركي ينفض يديه، وليس أمامك الآن سوى أن تقبل وجهة النظر الإسرائيلية بالكامل. إن الانحياز الأميركي لإسرائيل أمر معروف سلفاً، ومعروف أيضاً سعي الولاياتالمتحدة إلى الفصل بين قرارات الأممالمتحدة الخاصة بقضية فلسطين وبين المفاوضات الجارية، وقرارات الأممالمتحدة هي الشيء الوحيد الذي يحمله عرفات، سواء قدم رؤيته مكتوبة أو شفهية، وقد دخل هذا الانحياز الأميركي حيز التنفيذ بشأن المفاوضات، منذ أن اتفق كلينتون مع باراك على تنحي الدور الأميركي عن المشاركة المتواصلة في المفاوضات. هل هناك مخرج من هذا المأزق؟ نعم هناك مخرجان: المخرج الأول: أعلنته السلطة الفلسطينية بنفسها ولم تلتزم به. فمع بداية المفاوضات حول الحل النهائي، شرح نبيل شعث وزير التخطيط ان المفاوض الفلسطيني سيتبع تكتيكاً جديداً في هذه المفاوضات، يقوم على التفاوض حول الأساسيات فقط، رافضاً الخوض في التفاصيل كما كانت الحال في مفاوضات الحل المرحلي. وأجاد نبيل شعث في شرح هذا التكتيك وإبراز خصائصه وأهميته. وكان من نتائجه ان أعلن ياسر عبدربه المفاوض الرسمي الفلسطيني قراره بتعليق المفاوضات إلى ان يتم وقف قرارات الاستيطان التي أصدرتها حكومة باراك. ولكن ما جرى على الأرض كان مغايراً تماماً، فقد عاد ياسر عبدربه عن تهديده، وواصل المفاوضات على رغم استمرار الاستيطان. ثم حدث ما هو أفدح، إذ تم ايجاد أربع قنوات للتفاوض في آن واحد، ومجرد وجود هذه القنوات الأربع يعني ان البحث يتم في التفاصيل وليس في الأساسيات فقط كما بشرنا بذلك نبيل شعث، فهناك قناة باراك - عرفات، وهناك قناة محمود عباس أبو مازن - يوسي بيلين وزير العدل، وهناك قناة أحمد قريع أبو علاء - شلومو بن عامي وزير الأمن الداخلي، وهناك أولاً وأخيراً القناة التفاوضية الرسمية بين ياسر عبدربه وعوديد إيران. والتفاوض بهذه الطريقة، وعبر أربع أقنية، يعني مرة أخرى ان البحث يتم بالتفاصيل، وبحث التفاصيل له معنى واحد هو قبول التعاطي مع التصور الإسرائيلي للحل النهائي. وهو تصور مؤاده رفض عودة اللاجئين، ورفض التخلي عن القدس، والسعي إلى سرقة نصف الضفة الغربية، وفرض بقاء المستوطنات، واستمرار السيطرة الإسرائيلية على المياه. ويدور البحث فقط حول كيفية صياغة ذلك، بطريقة تبدو مقبولة ومنطقية، وليس أمام السلطة هنا سوى ان تلغي قنوات التفاوض غير الرسمية، وان تلتزم بطرح الأساسيات، وتتوقف عن البحث بأية تفاصيل. وهنا يأتي المخرج الثاني: ان تعلن السلطة الفلسطينية، انه ما لم تتم صياغة اتفاق نهائي يستند إلى أسس الشرعية الدولية، بالانسحاب والسيادة وعودة اللاجئين، فإنه لن يتم توقيع معاهدة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وعند إعلان جاد من هذا النوع، تبدأ المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بشكل جديّ. أما كل ما يجري الآن فهو لعب خطر بالمصائر.