لماذا تأخر المطر هذه السنة؟ ولماذا لم يلقِ الشتاء بعد تحيات قدومه؟ رحتُ أسأل من على شرفتي التي تبدو وكأنها هي أيضاً بانتظار تساقط تلك الحبّات على رقعتها المربّعة. لقد اشتقت الى المطر ولطالما أحببت منذ صغري مشاهدة تساقط الأمطار من وراء نافذتي الصغيرة. عندما يأتي المطر يدعو الناس الى بيوتهم، إلى أماكنهم الخاصة، ربما إلى مواقد ذكرياتهم والحنين لحياتهم الماضية، المطر يحرّك فينا ما يشبه الحب. يُشعل في داخلنا حبّات فرح ممزوجة بحزن دافئ كأنه الصلاة. عندما يأتي المطر يروي قلوبنا العطشى لنبضات حياة تكوّنها الطبيعة وتمنطقها وفق قانونها الخاص. الآن بدأت أعرف لماذا يبقى المطر في المدينة الى حد بعيد لا لون له ولا رائحة، هذا لأن المدينة بدأت تفقد رويداً رويداً مقدرتها على العطاء. لعل أهم معاني الشتاء العطاء بدافع خفي هو الحب الذي بدوره أمسى قليلاً في هذا الزمن في المدن. لفصل الشتاء في الجبال وفي القرى طعم خاص، لون خاص، ورائحة تشبه طعم البخور. هناك الأمطار كأنها صلاة النسّاك. رائعة وهي تلحّن من بعيد سمفونية السماء والملائكة. هناك تحلو السهرات حول مواقد الخشب على موسيقى وألحان خارجية. هناك الأحاديث القروية تدفئ القلوب الهاربة من برد الشتاء. فالشتاء في الضّيَع يبقى أكثر إنسانية وأكثر خجل منه في المدن. وبمقدار ما تستهويني المدينة التي فيها أسكن بمقدار ما أحنّ الى حياة الريف والطبيعة هناك، الى الطبيعة عند الناس والبساطة عندهم. وأكثر ما أحنّ الى منزلي الجبلي في قلب الضيعة ازوره من وقت الى آخر وأتمتع بشتاء صغير خلال الرحلة. الآن حقيقة اخرى بدأتُ ألمس أطرافها المبلّلة، يكفي أن تمطر في داخلنا فيفيض صلاة وأعمال محبة. تماماً كما يحدث للطبيعة، هكذا للإنسان تتبدل فيه ومعه فصول الحياة. ومهما تأخر المطر فإن شتاءنا الداخلي هو الأهم. بيروت - جورج حليم الحوراني