قارس هو كما عهدته.. يتسلل كطارق فضيلة سرا وجهرا نحو شعورنا.. أعلن ببرده ميلاد قصيدة تحت أنقاض حرب باردة.. علمنا شتاؤك أن أتذكر معطفك الأسود الداكن فوق رفوف أمل، يحتضن سنواتي، وأوراقي ومذكراتي.. أسمعنا حكايتك، رواياتك.. كيف جمعت كل فصول الحياة حول موقد نار أشعلها الحب.. فبعثتها أنفاسا، وعشقا.. ودهرا تولى يا بثينة يعود..!! الشتاء الأكبر سنا بين الفصول الأربعة فلذا تجده قاسيا.. حادا، وشاعرا، وطويلا، وسيما.. عاشقا تبقى مشكاته ساهرة سامرة بطول الطرقات، والمساريب، والقرية، وشوارع المدينة الواسعة، والضيقة.. تستطيل القصائد بين لياليه خيوطا من الصوف والشعر.. الملونة بيوتا تدفء سمارها قبل أن ينفض سامرهم .. كلهم يحلمون في الشتاء، وكلهم يتذكرون، ويسهرون لوحدهم في الشتاء.. تصبح حكايات الجدات أغنيات يشدو بها الأطفال في فجر السواقي والحقول، وأصوات الطيور.. الشتاء أكثر برودة في الغربة.. وفنجان القهوة وطن تسافر إليه الطيور المهاجرة.. الصحف أكثر جمالا وقراءة.. وفيروز في كل الجنبات «رجعت الشتوية.. رجعت الشتوية».. الشتاء رائع إذا ولد في كفوف اللقاء.. ويكون منفى إذا كان كموج البحر في ليل امرئ القيس.. تتعثر الحسناء في أبجديات مولود جميل ولد في الشتاء.. وتزداد العربية حسنا كلما زادت حزمات الحطب.. وأوقدت قنديل قلبها لقمر الشتاء.. السفن ترسو في سواحل من حب وطبيعة من سحر.. لا يمكن للذاكرة إسقاط تهامة والجنوب، والساحل، وإن تعددت الرحلات فالتاريخ تدثر بلحافه هناك.. وكأن الذاكرة تناوش ذاكرة طفولتي وحليب أغنامنا الأكثر دفئا، وأمطار سمائها الأكثر حبا.. و «الحميان» ؛ خوفا على حبات القمح.. «وفزاعة الطيور».. و «سهوة» بللها برد الندى.. الشتاء وطن نستجديه طولا أكثر.. حين نشعر بأن قامته بدأت في السقوط، والرحيل.. الشتاء.. « وكان الوعد أن تأتي الشتاء .. » . هكذا يقول نزار قباني.