كانت الساعة قد بلغت الخامسة صباحاً، حين تولى أربعة أشخاص، متعبين منهكين بعد ساعات طويلة من النقاش والمساومات، توقيع اسمائهم في ذيل الملف البالغ عدد صفحاته 93 صفحة مطبوعة على الآلة الكاتبة. بين الأربعة كان هناك ثلاثة فرنسيين: جان دي بروغلي، روبير بورون ولوي جوكس، أما الرابع فكان الجزائري كريم بلقاسم، الذي تولى وحده التوقيع على الوثيقة باسم الثوار الجزائريين، بعد أن كان رفاقه في الأسر الفرنسي، وعلى رأسهم أحمد بن بلّه، قد نقلوا مطلقي السراح إلى جنيف على متن طائرة كارافيل فرنسية، اثر اطلاق سراحهم. تلك الوثيقة التي وقع عليها كريم بلقاسم وحده عن الطرف الجزائري كانت هي هي اتفاقيات ايفيان التي حققت للجزائر استقلالها بعد سنوات نضال طويلة، والتي إذ أثارت موجة سرور وحماسة في الجزائر التي راح ابناؤها يرفعون اعلام الوطن صاخبين فرحين، اثارت في الوقت نفسه حفيظة العديد من الفرنسيين كما اثارت موجة من عمليات الارهاب العنيفة التي مارسها الفرنسيون ضد الجزائريين وضد العديد من الفرنسيين، وهي عمليات يميل الرأي العام، اليوم، إلى نسيانها، في معرض حديثه عن الارهاب، وكأن هذا الارهاب "اختصاص" عربي وإسلامي. المهم، بعد سبع ساعات من "توقيع الفجر" المشهود ذاك، أصدر القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر الجنرال آييريه، أمراً عاماً بوقف اطلاق النار. وفي اللحظة نفسها كان الجنرال سالان، أحد كبار المتمردين في الجيش الفرنسي ضد الجنرال ديغول، كان يصرح من على محطة اذاعية مقرصنة تابعة لمنظمة الجيش السري، التي أثارت موجة عارمة من الارهاب من أجل ابقاء الجزائر فرنسية، قائلاً: "انني أصدر الأمر لمقاتلينا بمهاجمة المواقع المعادية في المدن الجزائرية الكبرى كافة، وكذلك آمر مقاتلينا ورفاقنا في القوات المسلحة، من مسلمين وأوروبيين بأن يسرعوا بالانضمام إلينا". نعرف بالطبع ان كثيرين استجابوا لنداء سالان ورفاقه من كبار متطرفي فكرة ابقاء الجزائر فرنسية، غير أن التاريخ تابع مسيرته وحصلت الجزائر على استقلالها، بفضل نضال ابنائها خاصة، ثم على اثر تلك المفاوضات التي بدأت سرية في قصر بمنطقة الجورا، اعتباراً من يوم 8 شباط فبراير 1962، غير أنها كانت في البداية مفاوضات استكشافية بين الوزراء الفرنسيين وأعضاء في الحكومة الجزائرية المؤقتة. تلك المفاوضات الاستكشافية سرعان ما أضحت جدية، ولكن دائماً سرية، اعتباراً من يوم السابع من آذار مارس التالي. وعلى الرغم من ان الصحافة كشفت عن بعض أسرار المفاوضات، إلا أن السرية المطلقة ظلت محيطة بها، حتى فجر التاسع عشر من آذار مارس حيث تنفس الحاضرون الصعداء واتفقوا على أن بامكانهم أخيراً أن يوقعوا، وأن يعلنوا النبأ على العالم أجمع.