يحرص الدكتور عبدالجليل التميمي، في معظم ما يكتب، على نشر إنتاجه بالعربية والفرنسية تعميماً للفائدة. وتضمن كتابه هذا مقدمة عامة مع ستة أبحاث نشرت باللغتين وتناولت الموضوعات التالية: خوصصة البحث العلمي في العلوم الإنسانية: الخيار الأمثل، وهل من استراتيجية جديدة لدور البحث العلمي في التنمية بتونس والبلاد العربية؟ ومن أجل خوصصة البحث العلمي في العلوم الإنسانية في تونس والبلاد العربية: مؤسسة التميمي نموذجاً، وهموم الباحث العربي التونسي نموذجاً، والمشاريع العلمية العربية المعطلة، والتعاون البحثي الجامعي عربي - عربي منذ أربعين سنة أو حصيلة سياسة الشعارات، ومن المسؤول عن أزمة البحث العلمي في العلوم الإنسانية والإجتماعية في الوطن العربي؟، وآليات التسيير وحرية التعبير بالجامعة التونسية: كلية الآداب والعلوم الإنسانية والمعهد الأعلى للتوثيق نموذجاً، ومن أجل نظام جديد للشراكة العلمية الأورو - عربية. ليس من شك في أن الكتاب بكامله جاء نتاج تجارب شخصية عايشها التميمي في أكثر من موقع أكاديمي. فتعلم بالتجربة المرة، ومنذ وقت مبكر، أهمية المبادرة الشخصية في تأسيس وتطوير مؤسسات البحث العلمي في الوطن العربي. وقادته التجربة الى تأسيس صرح علمي كبير يعد الآن من أهم المراكز العلمية التي بنيت بجهد فردي، لا في العالم العربي فحسب بل في العالم الثالث كله. وشاءت الصدف أن أكون شاهداً على ولادة مشروعه الثقافي منذ وضع حجر الأساس، وكتبت عنه في اكثر من مناسبة. ومن نافل القول ان التميمي هو الأكثر مقدرة على التعريف بتاريخ مؤسسته والجهود المضنية التي بذلها لكي تبصر النور وتتحول، خلال أقل من عقد واحد من الزمن، الى ملتقى حقيقي للتفاعل الخلاّق بين الباحثين من مختلف الجنسيات واللغات، ومن خلال مؤتمرات علمية متواصلة على مدار أشهر السنة، وطوال أكثر من عشرين عاماً. لكن هذه التجربة فريدة في بابها ولا يمكن أن تتكرر مع أي شخص آخر، وفي أي بلد عربي بعد أن تبدلت الأوضاع العربية من سيئ إلى أسوأ. مع النجاح الكبير الذي حظيت به مؤسسة التميمي خلال مدة وجيزة، تولدت لدى صاحبها ومديرها قناعة راسخة ترى أن مؤسسات البحث العلمي في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، لا يمكن ان تصل الى مصاف المراكز البحثية العالمية الراقية إلا إذا كانت مؤسسات خاصة، يتعهدها أفراد مخلصون رهنوا حياتهم لها. فالبيروقراطية العربية مصدر إحباط لأي مشروع ثقافي في الوطن العربي لأن القائمين عليها هم أبعد الناس عن هواجس البحث العلمي ومتاعبه. وهم، في غالب الأحيان، يضعون الى جانبهم مستشارين يقيمون حواجز بيروقراطية تبدد الموازنات السنوية على أبحاث غير ذات قيمة، ولا تسهم في تمويل البحث العلمي الرصين بل تدفع بالجادين من الباحثين العرب الى طلب العون من المؤسسات الثقافية الغربية. حرص التميمي على إظهار مسيرة البحث العلمي في بلده الأم كنموذج للدول العربية الأخرى. ومما لا شك فيه أن مثال تونس فيه الكثير من الإيجابيات مع بعض السلبيات. فتونس واحدة من الدول العربية التي شهدت تطوراً ملحوظاً في بعض المجالات العلمية بحيث يمكن اعتبار البحث العلمي فيها افضل بما لا يقاس مما هو عليه في دول عربية أخرى تغلب الشعارات على الواقع الفعلي. والملاحظات النقدية التي قدمها التميمي عن معوقات البحث العلمي في تونس تنطبق على كثير من الدول العربية. ومن ابرز تلك المعوقات: غياب المخططات والمشاريع البحثية البعيدة المدى، وتعيين مدراء للمؤسسات البحثية وفق اعتبارات غير علمية، وتدني التحصيل الأكاديمي ومستوى الرسائل الجامعية، وفقدان الدعم المالي الكافي لمؤسسات البحث العلمي في جميع الدول العربية، والتأثير السلبي لهجرة الكفاءات والأدمغة العربية الى الخارج على المؤسسات العربية وغيرها. من ناحية اخرى، أثبت الباحث، بالتجربة الحيّة، كيف ان سياسة التغريب الثقافي لعبت دوراً سلبياً للغاية في الجامعات ومراكز البحث العلمي العربية. فقد حرص غالبية رؤساء الجامعات والمعاهد على تعميق الروابط مع الجامعات والمعاهد الغربية على حساب مثيلاتها في الدول العربية. وتولد لدى الأساتذة والطلاب من خريجي الجامعات الغربية شعور استعلاء واضح على زملائهم من خريجي الجامعات العربية حتى لو حصلوا لاحقاً على أعلى الشهادات الغربية. وقادت تلك السياسة الى نوع من القطيعة بين الجامعات والمعاهد العربية ما زالت نتائجها السلبية واضحة للعيان في كثير من الدول العربية. في السياق نفسه، أصبحت القاعدة المتبعة في جميع الدول العربية ان من يتولى مراكز ادارية عليا لا يشارك في البحث العلمي المعمق إبان عمله الإداري الذي غالباً ما يستمر عشرات السنين الى ان تسوء علاقته بالسلطة السياسية. فغالبية رؤساء الجامعات والمعاهد العلمية العربية لا ينشرون ابحاثاً اصيلة او ذات قيمة اكاديمية، ومنهم من ينقطع نهائياً عن التدريس موكلاً المهمة الى أحد مستشاريه. فالإداري الذي يتحكم بموازنات البحث العلمي لا يبحث، والباحث الرصين يُحرم من المساعدات المالية الضرورية لأبحاثه فيطرق ابواب المؤسسات الثقافية الغربية لإنجاز عمله بالحد الأدنى من التمويل، وليس صدفة ان الغالبية الساحقة من بعثات التنقيب عن الآثار في الوطن العربي والتي فاق عددها مئات البعثات عام 1998 كانت بتمويل غربي. وعلى رغم ذلك لا تكف وزارات الثقافة في الدول العربية عن التبشير بالإستقلال الثقافي، واسترداد التراث والتحف الأثرية، ودعوة الباحثين العرب الى العودة الى أوطانهم والمساهمة في النهضة العربية الجديدة التي لم يشعر أحد بقرب ولادتها. بعض الملاحظات الختامية وضع التميمي إصبعه على الجرح الذي تعاني منه مؤسسات البحث العلمي في جميع أرجاء الوطن العربي. وهو لا يسمي المؤسسات التونسية بدافع التشهير بها بل لإعطاء الصدقية العلمية لأبحاثه التي استندت الى تجربة حية ووقائع وإحصائيات دقيقة للغاية حول الباحثين، والأبحاث، وعدد الأطروحات الجامعية، والكتب المنشورة وغير ذلك. فقدم كتابه هذا نموذجاً بالغ الدلالة عن الطاقات العلمية العربية التي كانت متواجدة في كثير من الدول العربية واضطرت الى الهجرة نحو أوروبا وأميركا بسبب البيروقراطية القاتلة، وتغليب الشعارات البراقة على البحث العلمي الرصين، وسيطرة القرار السياسي على الثقافة والمثقفين، وتهميش المبدعين من المثقفين الذين رفضوا الإنصياع الى قرارات تحوّل المثقفين الى كتبة للسلطان او تجبرهم على مراقبة قاسية للذات خوفاً من الملاحقات والسجون. ويلاحظ التميمي بحق مدى انحسار الإهتمام بالوطن العربي في كثير من الجامعات ومراكز البحث الأوروبية والأميركية بعد ان أقام الغرب صلات مباشرة مع عدد من افضل النخب العلمية العربية. فمنهم من انتقل للعمل فيها خارج أوطانهم، ومنهم من بقي في بلاده لينال تمويلاً ثابتاً لأبحاثه. أما غالبية الجامعات والمعاهد العربية فباتت أسيرة الإداريين، والأساتذة الذين لم يجدوا تمويلاً محلياً أو خارجياً لأبحاثهم فاكتفوا بساعات التدريس ونسوا أو تناسوا متاعب البحث العلمي الذي يشكل الركيزة الأساسية للتعليم الأكاديمي. في الختام، ونحن مقبلون على عولمة رهيبة على مشارف القرن الحادي والعشرين تكثر الندوات السنوية حول المشاركة الثقافية بين العرب ودول الجوار الأوروبي بالإضافة الى حوار ثقافي لا ينقطع مع الدول الكبرى. واللافت للنظر ان كثيراً من الندوات التي تعقدها الجامعات، والمعاهد، والمنظمات الثقافية العربية مع الدول الأخرى تحمل هاجس التوكيد على أن حوارنا مع الآخرين هو "حوار الأنداد". فكيف يصل العرب الى حوار حقيقي مع الآخرين اذا كان قسم كبير من باحثيهم هم خارج الوطن العربي، أو لا يجدون الحد الأدنى لتمويل أبحاثهم، وإذا وجدوه فلدى المنظمات الثقافية الغربية لا العربية؟ أخيراً، قد يحلو للبعض ان يتهم الباحث بالمبالغة في جلد الذات انطلاقاً من تجربته الشخصية في الجامعة التونسية، وبأنه كال المديح الى مؤسسات البحث العلمي الخاصة انطلاقاً من تجربته الناجحة فقط من دون الإلتفات الى عشرات المؤسسات الخاصة التي أفلست بسبب الإختلاسات الكبيرة للقيّمين عليها، ولم تترك آثاراً مهمة على صعيد تطوير البحث العلمي في البلدان التي نشأت فيها. وقد تكون هناك مبالغة في التقليل من اهمية البحث العلمي الذي تديره الدولة والإصرار على فشله الدائم بسبب البيروقراطية القاتلة، وإهدار الموازنات الضخمة خارج دائرة تطوير البحث العلمي ودعم الباحثين. لكن البحث العلمي على المدى الزمني الطويل لا يستقيم إلا بمؤسسات تدعمها الدولة وتنفق عليها اموالاً طائلة عبر موازنات متطورة باستمرار. فهذه المؤسسات هي التي تحتضن الغالبية الساحقة من الباحثين ومن دونها يبقى البحث العلمي نخبوياً ومقتصراً على قلة من الباحثين لا تبدل من واقع التخلف الذي تعيشه البلدان العربية في مجال البحث العلمي العربي في حقل العلوم الإنسانية. * مؤرخ لبناني.