حذّر سياسيون وأكاديميون عرب من الكلفة الباهظة التي تترتب على تأخير التنمية في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية في العالم العربي. وظهرت آراء نقدية، واخرى متشائمة، في أوراق بحث قدمت إلى ندوة متخصصة نظّمت في تونس أخيراً بالتعاون بين «مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات» و «مؤسسة كونراد أدينهاور» الألمانية، وحملت عنوان «كلفة اللاتنمية السياسية والاقتصادية والمعرفية في البلاد العربية». وأعرب مشاركون في هذه الندوة عن اعتقادهم أن البلاد العربية لا تملك التكنولوجيا المتطورة، وأن البحث العلمي الأساسي يجري في غياب أي نظرة لطُرُق تطبيقه. ورأى متحدثون في الندوة التي استمرت 3 أيام، أنه لا توجد في البلاد العربية خطة استراتيجية شاملة ومستقبلية للتنمية، لا في البحث العلمي ولا في غيره من المجالات العلمية الأساسية. وعزوا ذلك إلى غياب التخطيط الاستشرافي، ما يؤدي إلى انعدام المؤسسات المهنية البحثية المستقلة بسبب عدم إيلاء الأنظمة العربية اهتماماً كافياً للأدمغة والكفاءات المبدعة. تبعية علمية فاضحة تكلم في الندوة الباحث المصري عبدالله الأشعل مساعد وزير الخارجية السابق، ومصطفى الفيلالي الأمين العام السابق ل «اتحاد المغرب العربي»، ومصطفى الزعنوني وزير التخطيط التونسي السابق، والمؤرخ اللبناني مسعود ضاهر. وحمّل المتحدّثون الأنظمة العربية مسؤولية غياب التنمية الشاملة، واستمرار تكريس التبعية العلمية للمراكز الأجنبية. وأشاروا إلى تجربة «معهد البحرين للتنمية السياسية»، فاعتبروه نموذجاً للمراكز التي تعالج علاقة الديموقراطية بالتقاليد، وتخليص الإرادات الوطنية من العوائق الاجتماعية، وتحديد دور الدين في مسار التنمية الشاملة. وحذّروا من استمرار توظيف الأبعاد العشائرية والمناطقية والاقليمية الضيقة، التي أضرت بآليات صنع القرار في البلدان العربية. وشددوا على أن أزمة البحث العلمي انعكست بصورة واضحة في محتوى التعليم، كما أدّت إلى تدني المناهج والبرامج، وتراجع مكانة الجامعات العربية في التصنيفات التي تصدرها مؤسسات التقويم العالمية. وتطرّقت أوراق أخرى في الندوة عينها، إلى انتشار الفساد في العالم العربي، فوصفته بأنه «ظاهرة اجتماعية وفردية في آن معاً، أصابت المؤسسات المصرفية والمالية والاقتصادية والجامعية، إلى أن باتت هاجساً ينخر المجتمع ويمنعه من الحصول على حقه في التنمية». وحضّ متحدثون في الندوة على «تجريم المفسدين وتشديد العقوبة عليهم»، مؤكدين أن ذلك لا يجري إلا في ظل استقلال القضاء المبني على العدالة والشفافية وسيادة دولة القانون. وفي هذا السياق اعتبر المؤرّخ ضاهر أن أبرز النتائج الملموسة لسياسة اللاتنمية، تتمثل في أن الذات العربية باتت توصف راهناً بفيض من النعوت السلبية مثل التبعية والضعف والاتكالية. وأشار الى ان الخطاب الثقافي العربي بلور مرادفات مشابهة لتلك النعوت، كالفشل والجمود وإهدار الطاقات والبيروقراطية والتخبّط والتعصّب الديني وضيق الأفق الفكري وغيرها. وعزا تكاثر تلك الصفات إلى النظم السياسة العربية التي رأى أنها تستند الى عصبيات عرقية وطائفية ومذهبية وعشائرية وعائلية وغيرها، ما جعل تطبيق مبادئ المواطنة في العالم العربي حلماً بعيد المنال. وحذّر ضاهر من أن لائحة ال500 جامعة الأولى في العالم خلت من وجود جامعة عربية واحدة حتى 2006، فيما عجزت المؤسسات الثقافية العربية عن بناء استراتيجية تنموية مشتركة لمجابهة ظاهرة هجرة الأدمغة. وتطرّق الدكتور عبدالجليل التميمي الى ظاهرة العلماء المهاجرين، مُعتبراً أن الأنظمة السياسية العربية والمؤسسات الجامعية والبحثية أهملتهم، وواصفاً ذلك بأنه من أفدح الخسائر. وأضاف: «أدى هذا الأمر إلى تراجع البلاد العربية، ما يُفسّر عدم إيلائنا أي اعتبار لمقتضيات التطابق مع المعايير الدولية، في منظومة التنمية المعرفية». وأكد أحد الباحثين أن العرب، على خلاف كل أمم الأرض، «متفقون على ابتداع الأساليب المؤدية إلى تعميق تخلفهم... وهم خلاّقون كلما تعلّق الأمر بتبديد ثرواتهم بشرياً ومادياً... وهم منشغلون عن القضايا المصيرية بأخرى تزيد من إرباكهم وتغذي الخلافات بينهم». في المقابل، بدا متحدثون آخرون في الندوة عينها، أقل تشاؤماً، رأوا بارقة أمل في إرهاصات تشكّل مجتمع أهلي عربي. وفي هذا السياق، أكّد الباحث الجزائري صالح زياني أنه يكفي تفعيل نسيج أساسي من المؤسسات الأهلية في الجزائر لتحقيق الأهداف التنموية المأمولة. وقال: «حتى الزكاة يمكن تفعيلها لأغراض التنمية المحلية في بلدان شمال أفريقيا... إلا أن الجدل في شأن هذه التحديات يبقى مفتوحاً، طالما ظل قطار التنمية معطلاً في البلدان العربية شرقاً وغرباً». وأشار البيان الختامي للندوة إلى أن الأنظمة العربية ليست على استعداد لحل معضلة هجرة الكفاءات العربية، ومن الصعب أن تضع القوانين وتوفر الموازنات لتشجيع كفاءاتها ومبدعيها في شتى الميادين على العودة إلى وطنها والاستقرار فيه. واعتبر أن الدول العربية «غير جادة أصلا في حل هذه المعضلة، لأن بقاء تلك النخبة العربية خارج فضائها السياسي يخدم مصالح الإداريين الماسكين بكل آليات الدولة، وهم الذين صادروا استقلالها وهيمنوا على كل مقدراتها، كما يخدم العالم المتقدم ويوفر له آلاف الخبراء في شتى الميادين، وهم الذين أنفقت الشعوب العربية أعز ما لديها لتكوينهم داخل البلاد وخارجها». وكذلك شدّد البيان على أن هجرة الكفاءات تعتبر أفدح الخسائر التي لحقت بالشعوب العربية ومازالت، وأنها ساهمت في تهيئة الظروف لاستعمار العرب حضارياً واقتصاديا» بوسائل جديدة.