شعرت بفرحة غامرة عندما وضع امامي القائمون على تنفيذ المشروع القومي للترجمة، في المجلس الأعلى للثقافة، ثلاثة مجلدات ضخمة، يجاوز عدد صفحات كل واحد منها سبعمئة صفحة من القطع الكبير بعنوان "المختار من نقد ت. إس. إليوت". اختارها وترجمها وقدم لها ماهر شفيق فريد. والواقع أنها ليست "مختارات" بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن، وإنما هي أقرب إلى الأعمال شبه الكاملة إذا أردنا الدقة، فقد ترجم ماهر شفيق فريد معظم نصوص إليوت النقدية والفكرية، ولم يستثن منها إلا أقل القليل، خصوصا ما سبقه إلى ترجمته من يثق هو في ترجمته، على نحو ما فعل مع ماكتبه إليوت عن الثقافة في كتابه الذي ترجمه أستاذنا الدكتور شكري عياد على سبيل المثال. أما بقية كتب إليوت ومقالاته فلم يترك ماهر شفيق فريد منها شيئا ذا بال من وجهة نظره، وترجم كل ما رآه مهما، وهو كثير جدا، يمثّل معظم ما كتبه إليوت على امتداد حياته. ودليل ذلك تضخم المجلدات الثلاثة التي تصدر هذا الشهر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، وتضم أهم كتابات إليوت في مجالات النقد الأدبي والفكر الثقافي والديني، وذلك في ترجمة مبينة، تشبع توقعات القارئ الذي يريد أن يتعرف الى إليوت الناقد والمفكر على أكمل وجه. ولذلك أخذت المجلدات الثلاثة إلى المنزل كي أفرغ لها في هدوء، وأتابع ما فعله زميلي ماهر شفيق فريد الذي تخرج معي في السنة نفسها من كلية الآداب في جامعة القاهرة، وإن انتسب هو إلى قسم اللغة الانكليزية وانتسبت أنا إلى قسم اللغة العربية، ولكنه ظل وثيق الصلة بقسم اللغة العربية وأساتذته، ولا أدل على ذلك من أنه بدأ مشروعه الضخم بترجمة إليوت في مجلة "الأدب" التي كان يرأس تحريرها أمين الخولي، وتصدر عن مبادئ "جماعة الأمناء" التي انتسب إليها زميلي في مطلع الصبا، وبدأ ترجمة نصوص شاعره الأثير وناقده المفضل على صفحات مجلة "الأدب" حتى من قبل أن يتخرج من قسم اللغة الانجليزية. وأذكر أنني طالعت ترجماته الباكرة في مطالع الستينات، وظللت أتابعها معجبا بزميلي الذي لم يتخل عن دأبه ومثابرته، وظل على إخلاصه في البحث، وأمانته في النقل، وزهده في الشهرة التي سعى إليها بعض أساتذته الذين شغلوا الدنيا والناس بالكلام عن ت. إس. إليوت، مع أن أكثر كلامهم عن إليوت ينطبق عليه - في التحليل الأخير - ما قاله ابن قتيبه قديما عن الكلام الذي حلا لفظه دون معناه فإذا فتشته لم تجد تحته طائلا. والواقع أنني لا أعرف على وجه التحديد الدوافع الأولى التي دفعت ماهر شفيق فريد إلى أن يصل حباله بحبال ت. إس. إليوت، ويختاره دون سواه من الشعراء النقاد، ويهب أكثر من ثلاثين عاما من عمره لتقديمه وترجمة قصائده وكتاباته النقدية، ذلك على رغم أن منهج إليوت النقدي بنزعته الموضوعية الثابتة يتعارض والنزعة الانطباعية التي تهيمن على كتابات ماهر شفيق فريد ومواقفه. ربما كان الشعور الديني العميق الذي يتجذر في شعر إليوت وكتاباته هو سبب انجذاب ماهر إليه. وربما كان السبب تأكيد إليوت أهمية التقاليد وإبراز حتمية انتساب المبدع أو الناقد إليها بموهبته الفردية التي تعمل على هدى من تراثها، وداخل سياقاته التي تتجدد بكل كتابة فردية. وربما كان السبب النزعة الفردية التي تنطقها حدة الانفصال عن الآخرين والتوحد دونهم. قد يصدق هذا السبب أو ذاك، وقد تصدق الأسباب كلها مجتمعة في حالة ماهر شفيق فريد، لكن المؤكد أن إقباله على إليوت لم يكن مفصولا عن مناخ ثقافي، كان سائدا من الخسمينات إلى نهاية السبعينات على الأقل، مناخ تجاوبت فيه عمليات استقبال كتابات إليوت لتحقق إشباعا لحاجات ثقافية عامة. ولذلك لم تكف الثقافة العربية - لثلاثة عقود على الأقل - عن إعادة إنتاج كتابات إليوت وتأويلها لتأدية أكثر من وظيفة. أولاها مواجهة بقايا الرومانسية العربية الآفلة التي بدت كتابات إليوت خير أداة لنقدها ونقضها. ومعروف أن إليوت حافظ، في حنينه إلى مثل أعلى كلاسي، على عدائه للرومانسية بوجه عام، شأنها في ذلك شأن النزعات الانطباعية والعلمية الزائفة في النقد الأدبي. وبقدر ما كانت قصائده تتيح للمتذوق والمبدع العربي إمكانا مغويا بمجاوزة الرومانسية، خصوصاً في تصاعد التمرد على ميوعتها العاطفية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت كتاباته النقدية تنقض النقد الانطباعي، وتدعو إلى نقد موضوعي ينصب على العمل الأدبي لا على صاحبه، وعلى تحليل النص لا محاكمة الكاتب على أفكاره أو معتقداته التي تختزل من النص. وكانت هذه الوظيفة قرينة وظيفة أخرى لم تخل من نوازع إيديولوجية، خصوصاً من الزاوية التي اختزل بها نقد إليوت اختزالا في مرحلته الأولى النقدية ليغدو نقدا جمالياً فحسب، يخلو من الهم الاجتماعي، ويمكن توظيفه لمواجهة الواقعية الاشتراكية ونظريات الانعكاس التي ظلت تقارب الأدب مقاربة تراوح ما بين قطبي الالتزام والإلزام. وكانت أفكار إليوت عن "المعادل الموضوعي" وعن نفي المعنى الاعتقادي أو الإيديولوجي، وعن الشعر الذي هو هروب من الشخصية والانفعال، والذي هو إبداع جديد ناجم عن تركيز عدد بالغ الكثرة من الخبرات، وعن الشاعر الذي تحول إلى وسيط تجتمع فيه الانطباعات والتجارب على أنحاء فريدة غير متوقعة، أقول: كانت هذه الأفكار وغيرها بمثابة تنظيرات تواجه النظريات التي تنطلق من العمل الأدبي إلى خارجه، بحثا عن علة تولده الفردية أو الاجتماعية، أو صداه المقصود في حياة الفرد أو الجماعة. هكذا، سمعنا عن العمل الفني الذي هو مستقل بذاته، ومكتمل بنفسه، وعن نقد إليوت الموصول بحركة "النقد الجديد" التي استخدمت منطلقاتها النظرية ونماذجها التطبيقية في الدفاع عن استقلال الفن ضد دعاة الأدب الهادف والالتزام. ويبدو أننا، لكي نفهم الحماسة العامة لإليوت في مناخ هذه الفترة، علينا أن ننقل عن دراسة ماهر شفيق الخاصة بأثر إليوت في الأدب العربي الحديث، تحديدا إشارته إلى ولع أدبائنا بترديد اسم إليوت، والزج به في كل مناسبة، حتى علت الأصوات بالشكوى من هذا السرف، فكتب لويس عوض عقب عودته من مؤتمر للكتاب في اسكتلندا جريدة "الأهرام" 7/9/62 قائلا: "نحن لانزال نتحدث عن ت. إس. إليوت كأنما الانكليز قد توقفوا عن كتابة الشعر منذ إليوت". وكتب محمد إبراهيم أبو سنة في مجلة "الثقافة" 14/4/1964 مؤكدا "أن الاهتمام بإليوت في السنوات الأخيرة قد حجب عن عين الحركة الشعرية في بلادنا كثيرا من أغنى وأخصب العناصر الشعرية الأخرى في العالم". وكتب على شلش في مقالة له عن و. ه. أودن مجلة "الشعر" يونية - حزيران 1965 موضحا أنه "كان من الآثار السيئة لما كتب في لغتنا عن الشاعر الراحل ت. إس. إليوت أننا كدنا نقتنع بأنه مرادف للشعر الانكليزي المعاصر، وأن لا ثاني له". والواقع أن الهوس بإليوت ارتبط برأي ثقافي عام، صاغه صلاح عبدالصبور في المقالة التي كتبها تقديما لترجمة ماهر شفيق فريد لقصائد ت. إس. إليوت، عندما أكد أن لإليوت مكانا في شعر القرن العشرين "لا يكاد يسامته فيه أحد رغم الغنى الباذخ لهذا القرن بكبار الشعراء، ورغم الصخب المتجدد للمذاهب المتتابعة من إبداع الشعر ونقده منذ أفول الرومانتيكية حتى الآن". ولم يكن صلاح عبدالصبور الشاعر بعيدا عن إليوت الشاعر الذي تأثر بتقنياته المعروفة، خصوصا طرائقه في التضمين وبناء القصيدة وصياغة الأقنعة الرمزية، ولم يكن بالقدر نفسه بعيدا عن إليوت الكاتب المسرحي الذي تأثر به في مسرحه الشعري، ابتداء من تجربته الأولى، مأساة الحلاج، وذلك على النحو الذي دفع الكثيرين إلى المقارنة التفصيلية بين مسرحية إليوت "مقتلة في الكاتدرائية" و"مأساة الحلاج" على مستويات متعددة. ولا يختلف الأمر كثيرا في حالة إليوت الناقد الذي أحدث ثورة في الذوق الأدبي لجيله، وأضاف إلى النقد الأدبي كثيرا من المبادئ التي لم يتخل عنها هذا النقد إلى اليوم، وأرهص بأفكار ورؤى سرعان ما اكتملت في نظريات التأويل الهرمنيوطيقا المعاصرة والمداخل الظاهراتية الفينومينولوجية إلى الأدب، فضلا عن مسألة موت المؤلف ودور القارئ في عملية التفسير فيما يؤكد ماهر شفيق فريد. ولذلك وصفه رينيه ويليك، في منتصف الخمسينات، بأنه أهم ناقد في القرن العشرين في العالم الناطق بالانجليزية، وأن تأثيره في ذوق العصر في الشعر بالغ الوضوح. وأحسب أن مناخ التهوس العربي بكتابات إليوت وقصائده ومسرحياته أعاد إنتاجه بأكثر من صورة، وفي أكثر من اتجاه، ابتداء من الصورة التي رسمها، تأويليا، الماركسيون التقليديون الذين ظلوا ينظرون إليه بوصفه شاعرا رجعيا، وذلك من قبل أن تتبلور الصورة اللاحقة المضادة التي قدمها الماركسيون الجدد الذين وجدوا في شعره رؤية إبداعية متقدمة، تنقض بصدق إدراكها الجمالي الوعي الايديولوجي لمبدعها الذي وصف نفسه بأنه كلاسيكي في الأدب، ملكي في السياسة، أنجلو كاثوليكي في الدين. وغير بعيد عن هذه الصورة، الصورة الموازية التي أشاعها ممثلو اليسار الليبرالى من أمثال غنيمي هلال وصلاح عبدالصبور. وأضيف إلى ذلك، أخيرا، الصورة المغايرة التي لم تحمل من ملامح إليوت سوى قسمات مرحلته الجمالية الأولى، وهي الصورة التي عملت على إشاعتها مدرسة رشاد رشدي وتلامذته الذين تبنوا أفكار ت. س. إليوت وأفكار "النقد الجديد" الذي انطلق من كتابات إليوت النقدية الموازية لكتابات ريتشاردز في العشرينات، ومضى في طريق سرعان ما تبعه أمثال زكي نجيب محمود ورشاد رشدي الذي اقتدى به تلامذته. وأذكر، في هذا السياق، مراجعات نقدية بالغة الأهمية للكتاب الذي أصدره رشاد رشدي بعنوان "ما هو الأدب" سنة 1960. وكان رشاد رشدي في ذلك الوقت الناقد الأجهر صوتا في إشاعة أفكار إليوت الجمالية. وعلى كتابه الصغير، فضلا عن محاضراته، تتلمذت أجيال كاملة من خريجي قسم اللغة الانجليزية في جامعة القاهرة، وتعلم تلامذة من طراز محمد عناني وسمير سرحان وعبدالعزيز حمودة وفاروق عبدالوهاب وماهر شفيق فريد، قبل أن يشق كل واحد منهم لنفسه دربا مستقلا. وقد كتب محمد غنيمي هلال مقالا عنوانه "ما الأدب في نقد ت. إس. إليوت والنقد العالمي؟" مجلة "المجله" القاهرية يولية 1960 أعيد طبعه في ما بعد في كتابه "في النقد التطبيقي والمقارن" دار نهضة مصر للطباعة والنشر. ويبين مقال غنيمي هلال أن رشاد رشدي اختزل أفكار إليوت في زاوية واحدة فحسب، وأنه عرض لبعض أفكاره الباكرة دون أن يضعها في سياقها التاريخي، أو حتى يقارن بينها وبين غيرها الذي صححها أو أضاف إليها فيما بعد. وكان ذلك يعني أن رشاد رشدي لم يقدم سوى مرحلة واحدة من مراحل إليوت، هي مرحلته الجمالية الباكرة، وتناسى أن مؤلف "الغابة المقدسة" و"مقالات مختارة" هو أيضا مؤلف "جدوى الشعر وجدوى النقد" و"وراء آلهة غريبة" و"ملاحظات نحو تعريف الثقافية". وهي الكتب التي تبرز الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والدينية في نقد إليوت، وتضع الجانب الجمالي في نسق أوسع من وظائف الفن، نسق لا يقطع الصلة بين الكاتب وعصره. وعرفت في ما بعد من الدراسة الاستثنائية التي كتبها ماهر شفيق فريد عن "أثر ت. س. إليوت في الأدب العربي الحديث"، ونشرت مجلة "فصول" قسمها الأول في تموز/ يوليو 1981 أن كتاب رشاد رشدي "ما الأدب" أثار استجابات سلبية، عند نقاد من طراز محمد مندور وعبدالقادر القط، فضلا عن محمد غنيمى هلال وغيره من النقاد الذين دعوا إلى الالتزام وتأثروا بكتابات سارتر، إلى جانب الكتابات الماركسية لنظرية الانعكاس التي انطلق منها أمثال محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وحسين مروة. وكلها كتابات أسهمت في صنع المناخ المتوهج لأواخر الخمسينات ومطالع الستينيات. وهو المناخ الذي تهوس بكتابات إليوت على أكثر من مستوى، ودفع - مع دوافع أخرى - زميلي ماهر شفيق فريد إلى معرفة إليوت معرفة عميقة، تجاوز النقل عن الآخرين إلى التعرف المباشر على كتابات إليوت النقدية ونصوصه الإبداعية، والغوص في فهمها بما يجعل من الفهم تملكا للمفهوم، ومحاولة تقديم هذه الكتابات تقديما يضيف إلى الوعي النقدي إضافات كمية وكيفية. وأتصور أن ذلك، تحديدا، ما يميز ماهر شفيق فريد عن بقية تلامذة رشاد رشدي، بل ما يميزه عن أستاذه نفسه، فهو لم يكتف ببعض الأصل، ولم يستبدل صورة تأويلية بالأصل نفسه، بل عاد إلى الأصل مباشرة، ونظر إليه في كليته وشموله وتفاصيله على السواء، وعكف على دراسته سنوات وسنوات، في حماسة شبه صوفية، متعمقا كل ما كتبه إليوت، غير غافل عن شيء، منقبا حتى عن المقالات المتناثرة المجهولة التي كشف عنها، متتبعا تأثير إليوت في الكتابات العربية - مع التركيز على الكتابات المصرية - على نحو لم يفعله سواه. وسرعان ما اكتشف - بعد أن ترجم أغلب ما كتبه إليوت، ودرس تأثيراته في الحياة الثقافية المصرية بوجه خاص - أن المرء يوشك أن يخال إليوت - لفرط ما يسمع اسمه في أوساطنا الثقافية - قد سرى منا مسرى الدم في العروق، وامتزج بالقرائن والأبدان، حتى إذا ألقى نظرة فاحصة على بعض ترجماته العربية أو عرض مفاهيمه النقدية أدرك خطأ هذا الظن، وعرف أن رواجه لم يكن إلا محصلة ألوان من سوء الفهم.