بقيت نقطة أخيرة يستهويني الحوار حولها مع ماهر شفيق فريد في جهده المضني الذي أنتج "المختار من نقد ت. إس. إليوت". وهي نقطة خاصة بعملية الاختيار نفسها، سواء من حيث دلالة النصوص المختارة على نقد إليوت في إجماله وتفصيله، أو دلالتها على كيفية اختيار ماهر شفيق فريد نفسه. وقديماً قالوا إن اختيار الرجل قطعة من عقله لدلالة المختار على ذوق من يختار من حيث طرائق ترتيبه النصوص التي يختارها بالقياس إلى النصوص التي يختار منها. وإذا كان كل اختيار ينطوي على نوع من الحذف بالضرورة، ومن ثم إعادة ترتيب، فإن فعل الاختيار نفسه يتحول إلى فعل تفسيري، يهدف إلى إبراز زاوية بعينها أو رؤية دون غيرها، كما يهدف إلى توصيل رسالة مرتبطة بمن يختار من ناحية، وما يريد توصيله إلى القارئ في المختار من ناحية مقابلة. ولذلك يمكن أن نستبطن هموم عقل من يقوم بالاختيار وشواغله من العلاقات التي تتولد بين النصوص المختارة، ونحسب عليه وحده استجابتنا الإيجابية أو السلبية إلى ما قام باختياره، خصوصا بعد أن نقرأ المضمر أو المعلن من المبادئ التي تحكم عملية الاختيار في كل حالة من حالاتها. وكان منطلق الاختيار في حالة ماهر شفيق فريد أمرين في ما يقول. أولهما أن تكون النصوص المترجمة إضافة إيجابية إلى حقل الدراسات الإليوتية عندنا، وليست مجرد إعادة، أو تكرار لما سبق نقله. وثانيهما أن تكون للنصوص المترجمة إلى جانب أهميتها العامة أهمية خاصة بالنسبة الى دارسي الأدب الإنكليزي والمهتمين به، خصوصا بعدما أصبح إليوت علامة بارزة من علامات الأدب الإنكليزي الحديث، مما يجعل التعرف الى فكره النقدي واجبا من ألزم الواجبات. لكن سرعان ما يضيف ماهر إلى هذين الأمرين - في تقديمه للمختارات - أمرا ثالثا يتصل برأيه الخاص في تعاقب كتابات إليوت، خصوصا حين يؤكد أن إليوت لم يكتب في مرحلته الأخيرة شيئا يعادل في أهميته كتاباته الأولى حين كان شابا في العشرينات، وأن قيمته الحقيقية تتمثل في مقالاته التي هي من مثل "التقاليد والموهبة الفردية" 1919 و"وظيفة النقد" 1923. وهي مقالات تدل على ما يشبهها من التأصيل النظري أو النقد التطبيقي الذي ركز فيه إليوت كل مواهبه الفكرية في بؤرة واحدة مكثفة، لا تنحرف عنها الأشعة، وهو ما لم يره المترجم متوافرا في مقالاته ومحاضراته الأخيرة التي "يشوبها شيء من التهاون والنعومة والرغبة في إصلاح المواقف، ويعوزها ما تتسم به المقالات الأولى من صرامة عقلية، ووحدة وجدانية وجدية في النظر والمعالجة". ويبدو أن ماهر شفيق فريد يتابع في هذه النظرة - على نحو من الأنحاء - الناقد والباحث الاسترالي جورج وطسون في كتابه "نقاد الأدب" 1962 الذي يقسم فيه ممارسة إليوت النقدية إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى تمتد من سنة 1919 إلى سنة 1928، وتتسم بأنها مرحلة اهتمامات أدبية خالصة، وجه فيها إليوت اهتماما خاصا إلى كتاب إنكلترا المسرحيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلى جانب شعراء الرمزية الفرنسية في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وتعقب هذه المرحلة مرحلة اهتمامات اجتماعية ودينية تمتد من سنة 1929 إلى سنة 1939، حين انضم إليوت إلى كنيسة إنكلترا، وأصبح أكثر محافظة في توجهه الأدبي. وتأتي المرحلة الأخيرة بعد الحرب العالمية الثانية حين أصبح نجما يستمتع بمباهج شهرته، ويكتب مقالات ليست بالقدر نفسه من العمق التي تميزت به الكتابات الأولى. وسواء تقبل المختصون في الدراسات الإليوتية هذا التقسيم أو استبدلوا به غيره، على طريقة الخلف أو التأويل المعارض، فإن الدال فيه هو دلالته على تحول إليوت من النزعة الجمالية التي ظلت مهيمنة على مرحلته الأولى، خصوصا في تركيزها على الأبعاد الشكلية في العمل الأدبي، إلى نزعة اجتماعية لا تغفل الاهتمامات الإيديولوُية والثقافية التي هيمنت على مرحلته الثانية. وذلك هو الفارق بين مرحلة كتاب "الغابة المقدسة" ومرحلة كتابي "جدوى الشعر وجدوى النقد" و"وراء آلهة غريبة". ويبدو أن ماهر شفيق تبنى هذا التقسيم في أحكامه على إليوت وتقويمه مسار إنجازه المتعاقب في تقديمه. وذلك موقف ترتب عليه، بالطبع، نوع من الانحياز المضمر إلى الناقد الجمالي، ومن ثم التقليل المضمر، في ما شعرت على الأقل، من أهمية الناقد الاجتماعي بالقياس إلى الناقد الجمالي. وكان يمكن لهذا الانحياز أن يحدث أثرا سلبيا في عملية الاختيار. لكن من حسن الحظ أن التعاطف مع المرحلة الجمالية لم ينقلب إلى إطار مرجعي يحكم عملية الاختيار، فقد حافظ ماهر شفيق على موضوعيته، والتزم خطة بسيطة، تعتمد على التتابع التاريخي لسنوات صدور الطبعات الأولى من كتب إليوت جميعها دون استثناء، ابتداء من الكتاب الأول "الغابة المقدسة" وانتهاء بالكتب التي صدرت بعد وفاة إليوت نفسه في الرابع من يناير سنة1965. ويعني ذلك أن ماهر شفيق فريد خرج في اختياراته عن دائرة الانحياز الجمالية التقليدية التي أورثها رشاد رشدي تلامذته، وحرص على تقديم صورة موضوعية أمينة لنقد إليوت مع التركيز على الملامح التي لم يعرفها القارئ العربي من قبل، وعلى النصوص التي تضيف إلى حقل الدراسات الإليوتية. وحقق في ذلك إنجازا معجبا، دفعني شخصيا إلى طلب المزيد من كل ما لم أعرفه من قبل، وبخاصة رسائل إليوت التي أفقدتني عملية الاجتزاء منها متعة معرفة سياقاتها المتكاملة في حالات كثيرة، ومعرفة تفاصيلها الشخصية الدالة، مهما خرجت عن الدائرة الصارمة التي فرضها ماهر شفيق فريد على اختياراته في هذا الجانب تحديداً. ولم أقتنع كثيرا بالحفاظ على دائرة النقد الأدبي وعدم الخروج عنها، في سياق الرسائل وما أشبهها من متنوعات، لأنني من المؤمنين بوحدة كتابة النقاد الكبار، وأنظر إلى كل ماكتبوه أو قالوه أو مارسوه بوصفه نصا واحد ينطوي على وحدة التنوع التي لا يمكن فهمها تجزيئياً بالاقتصار على بعض النص - حتى لو كان في دائرة الأدب وحدها - دون بعضه، فلا سبيل إلى فهم أعمال أمثال هؤلاء النقاد إلا بالنظر إلى كل ما أنجزوه بوصفه كلا لا يقبل التجزؤ، ولا يسلم نفسه إلى الفهم إلا بوصفه منظومة متجاوبة العناصر، معناها محصلة علاقاتها وليس حاصل أجزائها المتدابرة أو الممزقة. ولا يقل عن ذلك اعتراضي على حشر كتابات إليوت في الثقافة والفلسفة والدين والاجتماع وسط كتبه النقدية، ففي ذلك إرباك لتتابع السياق الموضوع. وكنت أتمنى لو أفردت كل الكتابات خارج دائرة الأدب في قسم مستقل، أو حتى مجلد مستقل. ويقودني ذلك إلى مناقشة أسباب استبعاد ماهر شفيق فريد من مختاراته ترجمة مقالات لا غنى عنها للقارئ العربي وللناقد العربي على السواء، خصوصا حين يطالع كلاهما مختارات قاربت - من حيث الحجم الضخم - أن تكون أعمالا كاملة لنقد إليوت. لقد ضم المجلد الأول من المختارات أهم كتب إليوت النقدية تقريبا: "الغابة المقدسة" 1920 و"آية توقير لُون درايدن" 1924 و"إلى لانسلوت أندروز: مقالات عن الأسلوب والنظام" 1928 و"ُون درايدن: الشاعر، الكاتب المسرحي، الناقد" 1932 و"جدوى الشعر وجدوى النقد: دراسات في العلاقة بين النقد والشعر في إنجلترا" 1932 و"وراء آلهة غريبة" 1934 و"الصخرة" 1934 و"مقالات مختارة" الطبعة الثالثة الموسعة1951. وجاء المجلد الثاني باختيارات من بقية كتب إليوت النقدية من مثل "في الشعر والشعراء" 1957 و"كتّاب مسرحيون من العصر الإليزابيثي" 1963 و"نقد الناقد وكتابات أخرى" 1965. وتحتوي المختارات المأخوذة من هذه الكتب أكثر من ألفي صفحة من القطع الكبير، موزعة على المجلدين الأول والثاني من المختارات. وبقدر ما يشعر القارئ بالفرحة لترجمة كل هذا الحجم من أعمال إليوت، خصوصا ما لم يترجم إلى العربية من قبل، ويترجمه ماهر كاملا للمرة الأولى، كما فعل على سبيل المثال مع كتاب "جدوى الشعر وجدوى النقد" الذي ترجمه بأكمله، فإن هذا القارئ نفسه يشعر بالدهشة والاستغراب لغياب مقالات بالغة الأهمية في نقد إليوت، وما كان يمكن استبعاد ترجمتها في هذه المختارات الضخمة بحجة أنها ترجمت من قبل. والأمثلة على ذلك كثيرة، تبدأ بكتاب إليوت الأول "الغابة المقدسة: مقالات في الشعر والنقد". وقد حذف ماهر شفيق فريد، أو استبعد، ترجمة سبع مقالات من هذا الكتاب، منها مقالة "التقاليد والموهبة الفردية" التي يعتبرها الكثيرون أشهر مقالات إليوت النقدية على الإطلاق، ومعها مقالة "هاملت ومشكلاته" التي يطرح فيها إليوت مفهومه ل"المعادل الموضوعي" على نحو حاسم، ويقدم نقده الدال لمسرحية "هاملت" من منظور هذا المفهوم. ومع هاتين المقالتين مقالات إليوت عن "بليك" و"سوينبرن" الشاعر و"دانتى" وغيرها من المقالات الدالة. والسبب المعلن في مقدمة المختارات وراء استبعاد مقالة بالغة الأهمية مثل "التقاليد والموهبة الفردية" أنه قد سبق أن ترجمها رشاد رشدي مرة، ولطيفة الزيات مرة ثانية، فضلا عن آخرين. ولكن القارئ كان يتوقعها في سياقها التاريخي والموضوعي داخل هذه المختارات الضخمة، ولا معنى لحذفها، بل الأولى إعادة ترجمتها، وإتاحتها للقارئ مع غيرها من الذي لم يكن هناك ما يبرر حذفه . ولا معنى للحديث عن جودة ترجمة السابقين في هذا السياق الذي كان يحتم إعادة الترجمة. والمفارقة الطريفة أن القارئ الذي لن يجد مقالة "التقاليد والموهبة الفردية" في المختار من كتاب "الغابة المقدسة" سرعان ما يجد إشارة إليها وانطلاقا منها في المبحث الأول أو المحاضرة الأولى من كتاب "وراء آلهة غريبة" الذي يستهله إليوت بمحاولة إعادة صياغة موقفه الذي انتهى إليه في "التقاليد والموهبة الفردية". وكيف يمكن لهذا القارئ أن يفهم محاولة إعادة صياغة الموقف التي يترجمها ماهر شفيق فريد بعيدا عن الصياغة الأصلية التي استبعدها ماهر شفيق فريد بحجة أن أساتذته سبق أن ترجموها؟. وهل يعقل أن يترك القارئ كل هذه المختارات الضخمة ليبحث عن هذه الترجمات غير المتاحة التي نفدت طبعاتها منذ سنوات وسنوات؟. ألم يكن من الأحكم ترجمة كل المستبعد ووضعه في سياقه الموضوعي وموضعه التاريخي، خصوصا أن ماهر شفيق ترجم بعض مقالة "التقاليد والموهبة الفردية" - على سبيل المثال - في ترجمته نصوص كتاب "مقالات مختارة"، وهو الكتاب الثامن بين المختارات؟. والواقع أن ماذكرته من الحذف غير المبرر من اختيارات "الغابة المقدسة" يتكرر في كتب كثيرة. أحيانا لا يختار ماهر سوى تصدير الطبعة الجديدة من الكتاب، كما في حالة "ملاحظات نحو تعريف الثقافة" بحجة أن أستاذنا شكري عياد سبق أن ترجم الكتاب ترجمة ممتازة، ولا يسأل ماهر نفسه وكيف يمكن فهم التصدير الجديد في غيبة ترجمة أستاذنا القديمة التي نفدت من الأسواق، ولم تعد متاحة منذ سنوات؟. وكذلك الحال في مختارات كتاب "في الشعر والشعراء" التي استبعد منها مقالات إليوت الثلاث الشهيرة: "وظيفة الشعر الاجتماعية"، "الشعر والدراما"، "أصوات الشعر". وهي مقالات لا يبرر للقارئ غيابها عن هذه المجلدات الضخمة أن لطيفة الزيات سبق أن ترجمتها في كتاب مستقل، فترجمة لطيفة الزيات نفدت منذ سنوات بعيدة، ولا يوجد مبرر عقلي يقنع القارئ الشاب الذي لم يسمع عن ترجمة لطيفة الزيات، ولا يعرفها، بالبحث عن مثل هذه المقالات خارج المختارات الضخمة التي جمعت له ما لم يكن معروفا من نقد إليوت. وأضيف إلى ذلك ملاحظة أخيرة تتصل بترجمة ماهر شفيق فريد كتاب "مقالات مختارة" الذي هو اختيارات وافق عليها إليوت شخصيا في دلالتها على عمله النقدي. والحق أننى لم أقتنع كثيرا بترجمة أكثر ما فيها، وكنت أفضل استبعاد هذه المقالات المختارة بأكملها لأنها من منظور بعينه، يختلف عن المنظور الذي انطلق منه ماهر شفيق فريد مهما كانت درجة المشابهة. وفي تصوري أن ترجمة "مقالات مختارة" أحدثت خللا ظاهراً في خطة ماهر شفيق فريد التي تعتمد على التعاقب التاريخي بالدرجة الأولى، إذ تخرج هذه المقالات على التتابع الزمني للخطة الموضوعة، وتبدو كما لو كانت ترد العجز على الصدر بلا مبرر منطقي داخلي. وكان الأكثر اتساقا أن تمضي المختارات الجديدة لماهر شفيق فريد في تتابعها الزمني ولا تنقطع عنه، نتيجة ما قام به من حذف في الكتب السبعة الأولى، وما ذكره من هذا المحذوف بعد ذلك في "مقالات مختارة". وما كان أيسر البعد عن هذا الخلل، لو استبدل صاحب المختارات الجديدة بترجمة "مقالات مختارة" كله ترجمة ما سبق أن تركه في كتب إليوت السابقة، حسب التعاقب الذي تمضي عليه خطة مختاراته كلها. ويقودني ذلك إلى الملاحظة الأخيرة، وهي نابعة من ضخامة حجم المختارات المترجمة، وخروجها على معنى المختارات في غير موضع إلى معنى الأعمال الكاملة، وما أسهل أن يلاحظ القارئ المتابع كتابات إليوت في لغتها الأصلية أن أكثر من نصف كتب إليوت النقدية ترجم في هذه المختارات، وأن ما تبقى منه ليس سوى القليل الذي لا يختلف في حجمه عما تم استبعاده بحجة سبق الترجمة إليه. ولذلك فإن معنى "المختارات" يغدو ملتبسا مع هذا الجهد الضخم الذي ما كان ينقصه سوى القليل لإنجاز ترجمة الأعمال النقدية الكاملة للشاعر الناقد ت. إس. إليوت. وليس أجدر من ماهر شفيق فريد باستكمال هذه المهمة في الطبعة الثانية من عمله القيم الذي أعرف كل المعرفة مدى الجهد الذي بذله فيه، ووطأة السنوات الطويلة التي لم تفتر فيها حماسته لإنجاز ما لم ينجزه سواه. ولم يبق عليه سوى أن يكمل صنيعه الذي لن يضيع بين عامة المثقفين خصوصاً الدارسين، ويستحق التقدير والاحتفاء والإشادة.