أشك كثيراً في ان يكون الصديقان حلمي شعراوي واحمد بهاء شعبان قرأا مقالي "إشكاليات حركة مقاومة التطبيع" "الحياة" 7/7/199 بالعناية الواجبة، وفعلا لما جاء ردهما "الحياة" 28/7/1999 في معظمه خارج نطاق ما كتبته. وسأتجاهل متعمداً ملاسنات تخص شخصي، وردت في مقال شعبان لأن ما يعنيني هو الموضوع، لا شخصي ولا شخصه، ولأنني لا اشك في ان دافعه هو حماسته للقضية المشتركة التي ندافع عنها، وحبه لي، الذي كان حلمي شعراوي اكثر كرماً منه في التعبير عنه. كان عنوان مقالي "اشكاليات حركة مقاومة التطبيع"، ويشير سياقه الى انه يركز على اشكاليات هذه الحركة على صعيد جماعة المثقفين المصريين، كما كشفت عنها معارك السنوات الخمس الاخيرة التي اعقبت اتفاقية أوسلو، وشملت ظاهرة انتقال بعض المثقفين الى الضفة الاخرى، وكان من بين ما رصدته غلبة اسلوب التشاتم وحملات الدعاية السوداء على اسلوب الحوار مع الذين يخالفون القرارات التي اصدرتها النقابات المهنية المصرية بشأن التطبيع وعجز هذه النقابات عن مساءلة المخالفين لها من اعضائها، لعدم انضباط صياغاتها، ولتفاوتها من نقابة الى اخرى، ولأن قوانين هذه النقابات لا تجيز اتخاذ إجراءات تأديبية ضد اعضائها الا في حال مخالفة ادبيات المهنة. وفي تحليلي لأسباب هذه الاشكاليات، أرجعتها الى ان حركة مقاومة التطبيع كانت اقرب ما تكون الى جبهة تتكون من ثلاثة تيارات تختلف في نظرتها الاستراتيجية لحل الصراع العربي- الاسرائيلي، يرفض اولها السلام ويقبل الثاني به ويرفض اتفاقياته، ويقبل الثالث بالاثنين، ومع ذلك يلتقون جميعا عند حد ادنى مشترك هو رفض التطبيع على الاقل، الى حين عودة الارض المحتلة عام 1967، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. ولكن هذه الجبهة افتقدت منذ البداية الإطار التنظيمي الذي يحتفظ لها بحيويتها، وينسق بين منظماتها، فعجزت لذلك عن ضبط مفاهيمها على النحو الذي ضربت امثلة عدة له، كالخلاف حول الموقف من الاشتراك مع الاسرائيليين في انشطة الاممالمتحدة ومنظماتها، او في انشطة دولية اخرى خارج نطاق هذه المنظمات، مثل نوادي البحر المتوسط، والخلاف حول التعامل مع عرب 1948 الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية، والخلاف حول ما اذا كان التعامل مع الارض التي تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية تطبيعاً ام لا... لأنتهى من ذلك كله الى المطالبة بأن تكون للمنظمات التي تنشط في مجال رفض التطبيع، او تتخذ منه احد اهدافها، رأس ينسق بينها ويضبط مفاهيمها ويناقش اشكالياتها، ويضع الحد الادني الذي يجب ان يلتزم به الجميع، بما يضمن توسيع نطاقها الى اقصى مدى ممكن، ويحولها من حركة نخبوية الى حركة جماهيرية، لكي تحقق الهدف الاساسي منها باعتبارها - في الظروف الراهنة - ورقة ضغط تفاوضية لا يمكن التفريط فيها، ويضمن الا يتخذ احد اطرافها مواقف عدائية ضد الآخرين، طالما انهم يلتزمون الحد الادنى المتفق عليه. لم يكن مقالي تأريخاً لحركة مقاومة التطبيع ليعتب عليّ شعراوي تجاهلي ايجابياتها، بل كنت اكتب عن اشكالياتها، أي عن سلبياتها. ولم اكن ارد على شبهات المتهمين بالتطبيع لكي ينسبها اليّ شعبان ثم يرد عليهم/ عليّ، بل فعلت ذلك لمجرد الرصد، وبهدف التوصل الى تنظيم للحركة يضبط المفاهيم ويلزم الجميع بها. ولم اقل ان "الحوار والسياحة ليسا تطبيعاً"، لأن الذي قال ذلك هو اتحاد النقابات الفنية، الذي لم يجد مبرراً لمؤاخذة علي سالم على سفره وحواراته في اسرائيل، لأن قرار الاتحاد يحظر التطبيع "الفني" فقط ولا يعتبر السياحة او الحوار تطبيعاً. ولم اقل ان حركة مقاومة التطبيع تقبض من سفارات سورية وليبيا والعراق لكي يتهمني شعبان بالتشهير بها، بل قلت إن استخدام سلاح التشائم والاتهام بالقبض من السفارات يدفع الطرف الآخر الى استخدامه فيبدو الامر امام الرأي العام كما لو كان خلافاً بين فريقين من العملاء. نقطة الخلاف الرئيسية بيني وبين شعراوي وشعبان تكمن في انهما ينظران الى حركة مقاومة التطبيع باعتبارها ائتلافاً بين الاحزاب والتيارات الرافضة للسلام، والتي ترى ان الصراع العربي الاسرائيلي هو صراع وجود لا صراع حدود، وهي رؤية قد لا اختلف فيها معهما لكني لا اعتقد انها تشكل رؤية الاغلبية. ولا اعتمد في ذلك على انطباعات متحيزة ومزاجية كالتي اعتمد عليها شعبان في وزن ثقل هذه التيارات، بل اعتمد على المواقف الرسمية للنقابات المهنية، والعمالية والاحزاب السياسية بشأن السلام والتطبيع، فباستثناء حزبين فقط، "الناصري" و"العمل" فإن كل الاحزاب والنقابات المصرية، تربط بين حظر التطبيع وبين تحقيق السلام. ولو كانت الظروف تغيرت الى الافضل، كما يذهب الى ذلك الصديقان، فأصبح التيار الذي يرفض السلام يمثل الاغلبية داخل حركة مقاومة التطبيع، لغيّرت الاحزاب المصرية والنقابات المهنية قراراتها لتعلن رفضها للسلام وحظرها للتطبيع الى الابد. وبسبب اصرارهما على ان حركة رفض التطبيع ليست جبهة، ولكنها ائتلاف بين الهيئات والمنظمات التي ترفض السلام واتفاقياته، فقد اعترضا على قولي إن رفض التطبيع ورقة ضغط تفاوضية، مع ان ما قلته هو مجرد توصيف الحد الادنى الذي تتفق عليه هذه الجبهة التي تضم بين صفوفها من يقبلون بالسلام واتفاقياته. مع ان رفضهما- ورفضي- لهذا وذاك، لا يعني ان نترك مسيرة السلام الحالية تمضي من دون استخدام كل اوراق الضغط لتحسين شروط التسوية، حتى لا تنتهي الى اوضاع تصعب على الاجيال المقبلة مواصلة الصراع بأي اساليب اخرى قد تتاح لها بعيدا عن موازين القوى الراهنة! ومع ان الصديقين شعراوي وشعبان اتفقا معي بعد مماحكات لم يكن لها اي مبرر في جوهر مقالي، وهو ان حركة رفض التطبيع في حاجة الى كيان تنظيمي ينسق بين حركتها ومنظماتها واضاف شعراوي: ويضبط مفاهيمها الا ان ذلك لا يحل المشكلة. فهناك فارق بين ان يكون هذا الكيان ائتلافاً بين الاحزاب الرافضة للتطبيع انطلاقاً من رفضها للسلام، وبين ان يكون جبهة لرفض التطبيع بصرف النظر عن الخلاف في الرؤية الاستراتيجية لحل الصراع، ففي الحالة الاولى سيقتصر الائتلاف على حزبين فقط هما "الناصري" و"العمل"، وفي الحالة الثانية ستتسع الجبهة لتشمل كل النقابات المهنية والعمالية ومعظم الاحزاب المصرية، بل ويمكن ان ينضم اليها الحزب الحاكم نفسه، الذي توقف منذ سنوات عن القيام بأنشطة تطبيعية مع الاحزاب الاسرائيلية، وفي الحالة الاولى لن يكون التطبيع في حاجة الى تعريف، فكل تعامل مع ما هو اسرائيلي تطبيع، بما في ذلك عرب 1948 وأرض السلطة الوطنية واللقاءات في المنظمات الدولية، وتغطية المؤتمرات الصحافية التي يحضرها الاسرائيليون، وفي الحالة الثانية ستكون الاشكاليات التي طرحتها محل النقاش بين اطراف الجبهة. وما قلته وأكرره: هو ان اتفاق اطراف الجبهة على الحد الادنى لما هو تطبيع، يكفل التزام الجميع به، يضبط حركتهم ضمن مفاهيم محددة، تحدد ما يمكن اعتباره "فرض العين" بالنسبة الى التطبيع المحظور. ولا يصادر ذلك حق المتشددين في ان يتجاوزوه لما هو اعلى منه، وأن يقوموا ب"فرض الكفاية"، ولكنه لا يجيز لهم ان يقوموا بأعمال عدائية ضد الذين يلتزمون بهذا الحد الادنى، لأن في ذلك استباقاً لخلاف لن يأتي وقته الا حين تعود الارض التي احتلت عام 1967، ويحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه، وآنذاك سينسحب الذين يقبلون السلام واتفاقياته من الجبهة فلا يبقى فيها الا شعراوي وشعبان والعبد لله. وما أود ان أضيفه: هو ان الكيان التنظيمي الذي يمكن ان يواجه اشكاليات حركة مقاومة التطبيع، ليس تشكيل جمعية تضيف لافتة جديدة الى الجمعيات واللجان الحقيقية والوهمية التي تنشط في هذا المجال.. ولكن لجنة قيادية تتشكل من مندوبين "مفوضين" عن النقابات والهيئات والاحزاب التي يبطل العمل في محال رفض التطبيع ضمن انشطتها، تتولى التنسيق في ما بينها، وتضبط مصطلحها، وتمد نشاطها الى مجالات من التطبيع لا يتطرق اليها احد، مع خطورتها الشديدة، اشار الى بعضها رؤوف مسعد الحياة 28/7/1999، ومنها التطبيع في مجالات الزراعة ورجال الاعمال والعمال، وتؤسس لجاناً لتجميع المعلومات، وشبكة لنشرها وتكون بذلك بمثابة الممثل الشرعي الوحيد لحركة مقاومة التطبيع. ذلك اقتراح عملي لو اخذت به حركة مقاومة التطبيع، فسوف تقدم نموذجاً يحتذى في اقطار عدة اخرى بدأ بعضها مسيرة التطبيع وستلحق بها آخريات قريبا، على رغم تفاؤل الزميلين المبالغ فيه، الذي أتمنى ان يكون قراءة صحيحة لواقع الامة، وليس حلماً من الأحلام التي تتكشف غالبا عن أوهام. * كاتب وصحافي مصري.