لست أريد ان أدخل طرفاً في المناقشة التي دارت بين يوسف القعيد وأحمد بهاء الدين شعبان من جانب "الحياة" 15/11/1998، وبين رؤوف مسعد من جانب آخر "الحياة" 22/11/1998، في أعقاب إذاعة الاخير لخبر زيارته لإسرائيل ضمن وفد تلفزيوني هولندي، فما دار بين الاطراف الثلاثة من ملاسنات هو - بالتحديد - ما اعترضت عليه في كل معركة تدور بين المثقفين العرب حول قضية تطبيع العلاقات مع اسرائيل. لكنني وجدت أن هذه المناقشة - او الملاكمة - قد تكون مناسبة ملائمة لطرح الاشكاليات التي تواجه حركة مقاومة التطبيع الثقافي، لعل هذا الطرح يكون بداية حوار، في هذه القضية المهمة، التي توشك الملاسنات بين المثقفين العرب حولها، ان تدفنها تحت الرمال. وما يحدث عادة، هو ان الرافضين لتطبيع العلاقات مع اسرائيل، لا يكادون يعرفون ان واحداً منهم، قام بنشاط يعتبرونه تطبيعاً حتى يبادروا الى فتح نيران مدفعيتهم الثقيلة ضده، في حملة دعاية مكثفة، تستهدف تصفيته أدبياً، وتلويثه سياسياً، ولا تترك في حاضره أو ماضيه حجراً قائماً على آخر. وفي ما عدا التنفيس عن طاقات الغضب، ومشاعر الاحباط ، في أشخاص هؤلاء، أو الرغبة في تسجيل هدف في مرمى التاريخ، فإن أسلوب الفضح وحملات التشهير والتلويث، لم يحقق الهدف الذي يقصده هؤلاء، وهو "إرهاب" كل من تسول له نفسه أن يسير على "درب الخيانة"، فالحملة ضد الكاتب المسرحي علي سالم لقيامه بمبادرته الشهيرة بزيارة إسرائيل 1994، لم تمنع المخرج السينمائي حسام الدين مصطفى من المشاركة في مهرجان حيفا السينمائي 1995 ولم تمنع المطرب مدحت صالح من إقامة حفلات غنائية فيها 1995 والحملة عليهما، لم تمنع لطفي الخولي من تأسيس "تحالف كوبنهاغن" 1996، والحرب التي شنت ضده لم تردعه عن تأسيس "جمعية القاهرة للسلام"، 1997، وما قيل فيها لم يردع رؤوف مسعد عن زيارة إسرائيل. وعلى عكس الفوائد المحتملة التي توقعها المحاربون بسلاح التشهير، فإن مضاره اصبحت مؤكدة، فلم يقتنع الذين شردوا عن الصف العام من المثقفين بخطئهم، بل قادهم الهجوم على أشخاصهم، الى مزيد من التورط، ونقلهم إلى الجبهة الأخرى، بل واعطاهم الحق في استخدام السلاح نفسه ضد المهاجمين، بحيث بدا كأن الخلاف، هو حرب بين جيشين من العملاء، يقبض الأول من سفارات اميركا وأوروبا وإسرائيل، ويقبض الآخر من سفارات إيران والعراق وليبيا وسورية. ولأن المحاربين بسلاح التشهير، يتصرفون بأعصابهم، وليس بعقولهم فقد أدخلوا سلاح القانون الى جبهة القتال، فألحوا على تطبيق المواد التأديبية في قوانين النقابات المهنية التي ينتمي اليها الشاردون، ومعاقبتهم بتهمة مخالفتهم قرارات حظر التطبيع من دون معرفة لا بنصوص تلك القرارات، ولا بنصوص تلك القوانين. وعند التطبيق، اتضح أن تلك القرارات صيغت بأسلوب إنشائي عام، يخلو من تحديد الأفعال، ومن تعريف التطبيع المحظور، وأنها تتفاوت من نقابة الى أخرى، فبعضها يحظر كل أشكال التطبيع، بينما يكتفي الآخر، بحظر التطبيع النقابي فقط، أي إقامة علاقات بين النقابة ونظيرتها الاسرائيلية. ثم إن قوانين هذه النقابات لم تقصر المجالات التي يجوز فيها تقديم العضو لمحاكمة تأديبية على الاخلال الجسيم بتقاليد المهنة وآدابها، ولا تعتبر مخالفة قرارات الجمعيات العمومية، بحظر التطبيع من مسوغات محاكمة الأعضاء تأديبياً. ثم أنها تحيط العقوبات التأديبية، خصوصاً عقوبة الفصل، بسياج من الضمانات، لأن عضوية النقابة، شرط لممارسة المهنة، والحكم بفصل العضو، هو بمثابة حكم بالموت المدني، لا يمكن أن تصدره أية لجنة تأديبية في غير الحالات التي حددها القانون، أو تتردد في الغائه أية محكمة يطعن فيه أمامها، أو يقبله أعضاء هذه النقابات الذين أزعجهم - سعي جبهة مقاومة التطبيع لاستصدار أحكام بالموت المدني ضد خصومهم، فتعاطفوا معهم، وهو ما شجع هؤلاء على الطعن أمام القضاء، في قرارات إحالتهم للتحقيق، استناداً الى أن النقابات لا يجوز لها أن تلزم أعضاءها بمواقف سياسية معينة، أو تؤدبهم إذا خالفوها، لأن ذلك من وظائف الأحزاب السياسية. وهكذا لم يصدر حتى الآن، أي قرار من أية نقابة مهنية مصرية بمعاقبة الذين يخالفون قرارات حظر التطبيع، وحُفظت كل التحقيقات، ولم يسفر استخدام سلاح القانون إلا عن شيء واحد، هو إعطاء الذريعة لمن يخالفون قرارات حظر التطبيع، لكي يطعنوا في شرعيتها القانونية أمام القضاء، الذي ينتظر أن يحكم لمصلحتهم، فتفقد بذلك "إلزامها الأدبي" بعدما فقدت "إلزامها القانوني". الاحتمال الوحيد، الذي لم يبحثه المحاربون بسلاح التشهير على جبهة مقاومة التطبيع هو أن يكون الذين ينسحبون من بين صفوفهم مقتنعين فعلاً بأنهم بما يفعلون يحققون مصلحة وطنية، والاسلوب الوحيد الذي لم يتبعه إلا القليل منهم، هو مناقشة ما يسوقه هؤلاء المنسحبون من شبهات، وما يعلنونه من اجتهادات تذهب الى أن ما يقومون به من أنشطة، ليست تطبيعاً، ولكنه "حوار" أو "سياحة" أو سعي لكسب أنصار على الجبهة الأخرى. ما فات حركة مقاومة التطبيع، وما لم تناقشه حتى الآن، في حمى انغماسها، هو أن الظروف التي نشأت في ظلها قد تغيرت، وإن الأوان آن لكي تراجع مفاهيمها، واساليبها، لا لكي تتراجع عن مواقفها، بل لكي تجددها، بما يتواءم مع الظروف المتغيرة، وبما يحقق الهدف منها. تشكلت حركة مقاومة التطبيع في أعقاب توقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية التي أنهت المقاطعة المصرية لإسرائيل، من ثلاثة تيارات تختلف في تقويمها سياسة السلام مع إسرائيل، وتتفق في رفضها لتطبيع العلاقات معها. * تيار متشدد، يمثل الاقلية ويرفض - من حيث المبدأ - أي سلام مع إسرائيل، ويعتبر الصراع معها، صراع وجود لا صراع حدود، ويرفض كل تطبيع للعلاقات معها، في الحال والاستقبال. * تيار وسطي، أكثر عدداً، يوافق من حيث المبدأ على السلام مع إسرائيل، ويرفض المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، باعتبارها صلحاً منفرداً ويربط التطبيع بتحقيق هذا السلام العادل والشامل. * تيار معتدل، يمثل الغالبية، يقبل السلام والمعاهدة، ويراها خطوة أولى في تسوية شاملة لم تتحقق بعد، ويرى التريث في تطبيع العلاقات الى أن تتحقق الخطوات التالية من التسوية. وككل جبهة تضم قوى تختلف في مواقفها السياسية، اضطرت الى التحالف في ما بينها، لكي تحقق هدفاً سياسياً مشتركاً، فقد كان طبيعياً أن تلتقي حول برنامج للحدّ الأدنى، لا يتجاوز السقف الذي تقبل به أقل أطرافها تشدداً، حرصاً على أقصى اتساع ممكن لها، خصوصاً أن هذا التيار المعتدل، كان يشكل الغالبية بين أعضاء النقابات المهنية والعمالية، لذلك اقتصرت قرارات هذه النقابات على حظر التطبيع بين هذه النقابات وبين نظيراتها الإسرائيلية، وجعلت هذا الحظر "مشروطاً" و"موقتاً"، الى حين تجلو إسرائيل عن كل الأراضي العربية التي احتلت في حرب 1967، وتعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومع أن هذا الحد الأدنى، لا يقيد حق أي طرف أن يتخذ مواقف أكثر تشدداً، إلا أن الحرص على جبهة مقاومة التطبيع، يفرض على المتشددين ألا يتخذوا مواقف معادية ضد الأطراف الأخرى، طالما أنهم يلتزمون بهذا الحد الأدنى، حتى لا تتقوض الجبهة، إذ كان مفهوماً - منذ البداية - أن تحقيق السلام العادل والشامل، سيستتبعه انسحاب التيارين الوسطي والمعتدل منها، لتقتصر على التيار الأكثر تشدداً. * غياب المفاهيم: لكن الحركة عانت - منذ البداية - من مشاكل، نشأت جميعها من افتقادها الدائم الى اطار تنظيمي ينسق حركتها، فعجزت لذلك عن ضبط مفاهيمها، وعن مناغمة هذه المفاهيم مع الواقع السياسي القائم، ما أدى الى خلافات في تقويم بعض المواقف والممارسات، لعدم وجود اتفاق على مرجعية يعود إليها المختلفون. استثنت الحركة - مثلاً - عند نشأتها، لقاء الإسرائيليين في إطار دولي، من التطبيع المحظور، انطلاقاً من أن المقاطعة في هذه الحالة، تعطي لإسرائيل ميزة الوجود الدولي على حساب العرب، لكن غياب المفاهيم المنضبطة، أدى الى خلاف في تعريف هذا "الإطار الدولي"، فرأى البعض أنه يقتصر على منظمة الأممالمتحدة والأنشطة التي تقوم بها وكالاتها المتخصصة، وذهب آخرون إلى أنه يشمل كل لقاء دولي لا يقتصر على العرب والإسرائيليين وحدهم، ومن أبرز الخلافات التي ترتبت على ذلك، الموقف من المشاركة في أنشطة ما يعرف بنوادي البحر المتوسط، التي أثارت ضجة عنيفة العام 1980، عندما شارك ثلاثة من الأدباء المصريين في مؤتمر عُقد في روما، وشارك فيه وفد إسرائيلي، كان من بين أعضائه اميل حبيبي، والخلاف في الموقف من مشاركة ادونيس في ندوة غرناطة 1993، التي نظمتها "اليونسكو" وأصدر "اتحاد الكتاب السوريين" قراراً بفصله من عضويته. كما نشأ خلاف آخر، في الموقف من الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، فقد رأى المتشددون أن كل من يحمل جوازَ سفر إسرائيلياً، تنبغي مقاطعته، ورفضوا - في منتصف الثمانينات - استقبال شخصيات مثل أميل حبيبي وسميح القاسم وآخرين من عرب 1948، واعتبروا اللقاء بهم، أو إجراء حوارات صحافية معهم، تطبيعاً، وفي ما بعد - 1994 - برر المطرب مدحت صالح إقامته حفلات غنائية في إسرائيل، بأن المتعهد الذي تعاقد معه، كان فلسطينياً من عرب 1948، وأن الجمهور الذي استمع إليه، كان من هؤلاء، وفي حين بدا الموقف الأول لا مبرر له، فإن الموقف الثاني بدا لا منطق له، لكنهما معا يكشفان عن الالتباس في المفاهيم، وشيوع الاجتهادات الفردية، التي تتيح لمن يريد، فرصة اتخاذ ما يشاء من مواقف. ويتصل بذلك مشكلة الخلاف في الموقف من السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد رأى المعارضون لاتفاقات أوسلو، أن التعامل مع الاراضي التي تشرف عليها، أو زيارتها أو القيام بأي انشطة فيها، هو تطبيع ينطبق عليه قرار الحظر، في ما رأى آخرون أن ذلك يشكل دعماً لإسرائيل، التي تسعى الى محاصرتها وتقزيم نفوذها السياسي ومكانتها الدولية. وعكس الموقف الأول نفسه، في الحملة التي تعرض لها المطرب شفيق جلال، حين أقام حفلات غنائية في غزة، وفي مقاطعة الأدباء العرب جميعاً لمؤتمر دولي عقده اتحاد الكتّاب الفلسطينيين في "رام الله" في العام الماضي، وعكس الموقف الثاني نفسه في شواهد عدة، لم يكن أولها، أن الصحف المصرية جميعها افتتحت لها مكاتب في غزة، من دون أن يعترض أحد، ولم يكن آخرها قيام وفد من الصحافيين والفنانين المصريين، كان من بين أعضائه عادل امام ومحمود ياسين وعزت العلايلي، بزيارتها في مناسبة افتتاح المطار، من دون أن يجد أحد - حتى الآن - في ذلك مخالفة لقرارات الحظر. وكان من بين هذه المشاكل، أن منظمة التحرير الفلسطينية، كانت تكلف مثقفين مصريين، بالمساهمة في انشطة دولية يشارك فيها إسرائيليون، بهدف التعرف الى مواقف الطرف الآخر، أو التأثير في بعض عناصره، لمصلحة القبول بها، فشارك علماء نفس مصريون، عام 1983، مع نظراء لهم من الإسرائيليين والفلسطينيين والاميركيين في بحث عن "رؤى الصراع العربي - الإسرائيلي"، بتشجيع من المنظمة، ما عرضهم لحملة عنيفة، وهو - في تقديري - ما كررته السلطة الوطنية الفلسطينية، حين أوحت أو شجعت على تأسيس "تحالف كوبنهاغن" لكي تحفز قوى السلام الإسرائيلية على مواصلة نشاطاتها ضد سياسات "نتانياهو". لكن الحملة التي شنتها حركة مقاومة التطبيع، ضد المتورطين في الحالتين لم تتوقف أمام السؤال الرئيسي وهو: هل نعتبر القيام بمهام تدخل في نطاق الديبلوماسية السرية، بتكليف من السلطة الوطنية الفلسطينية، أو أي جهة رسمية أخرى، تطبيعاً.. أم يمكن استثناء هذه المهام من قرارات الحظر، وفي أي حدود يكون الاستثناء؟ ومن هي الجبهة التي تصدر قراراً بإباحته؟ ظاهرة المنشقين ولو أن حركة مقاومة التطبيع، تنبهت إلى أن الذين انسحبوا منها، وانتقلوا الى الضفة الأخرى، كانوا جزءاً منها، لتوقفت أمام ظاهرة المنشقين، لتبحثها بجدية، وبافتراض أن لهؤلاء رأياً يستحق النقاش، وموقفاً قد يتطلب التنفيذ وربما التنديد، بدلاً من الانطلاق من رؤية شخصية، تشهّر بهم باعتبارهم خونة أو خائرين، أو ساعين الى الربح، فقد طرح المنشقون شبهات تنبغي مناقشتها باعتبارها اجتهاداً، وسواء انتهينا الى صحته أو خطئه، فسوف تصل الى ضبط جديد للمفاهيم، أو الى تأكيد صحة المفاهيم القائمة، من خلال الحوار بين أطراف الجبهة، بما يؤدي للحفاظ على ما تبقى منها، والى اتساعها لا تقلصها. فهناك من يقول - الآن - أن علينا أن نفرق بين التطبيع الذي يمكن أن يؤدي الى اضعاف موقف المفاوض العربي والفلسطيني، وذلك الذي قد يكسب لنا انصاراً داخل صفوف العدو، يعترض على إدخال الأرض التي تقع تحت ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية، ضمن المناطق المحظورة، وهناك من يهون من شأن التطبيع الثقافي كله، ويرى أن أخطر أشكال التطبيع هو التطبيع الاقتصادي، لأنه يعطي إسرائيل أهم مزايا السلام، قبل أن تعيد الأرض، وهو ما يشجعها على عدم اعادتها، ومن يطالب بالتمييز بين التفاوض والتطبيع، فقيام رجال أعمال عرب بالاستثمار في إسرائيل، هو تطبيع، ولكن مقابلة وفد منهم لمسؤول إسرائيلي لإعلامه بأن سياسته تشكل عقبة في سبيل السلام ليست تطبيعاً، ولكنه تفاوض، وهو ما ينطبق على أي حوار، يجريه مثقفون عرب، مع مثقفين إسرائيليين. وعلى الكفة الأخرى، هناك من يتمسك بأن كل كلام، أو تعامل مع الإسرائيليين هو تطبيع تنبغي مقاومته. وتلك كلها أفكار تقبل الأخذ والرد، والاتفاق والاختلاف، لولا أن حركة مقاومة التطبيع، كانت منذ نشأتها جبهة بلا كيان تنظيمي، ينسق ما بين تياراتها، ومنظماتها، وبلا رأس يضبط مفاهيمها، ويناقش ما يستجد من إشكالياتها، ويضع الحدّ الأدنى الذي يتفق عليه الجميع، بما يضمن توسيع نطاقها الى اقصى مدى ممكن، ويحولها من حركة نخبوية الى حركة جماهيرية، لكي تحقق الهدف الأساسي منها، باعتبارها ورقة ضغط تفاوضية، ويضمن ألا يتخذ أحد أطرافها مواقف عدائية ضد الآخرين، طالما أنهم يلتزمون بالحدّ الأدنى المتفق عليه! فمتى يأتي الأوان الذي تتحول فيه حركة مقاومة التطبيع، من عُصاب الى اجتهاد، ومن تهريج الى سياسة. هذا هو السؤال. * صحافي مصري.