أثار مقال لصلاح عيسى في عنوان "اشكاليات حركة مقاومة التطبيع" في السابع من تموز يوليو الجاري جدلاً واسعاً، علماً أنه دعا في هذا المقال أنصار الحركة الى مراجعة شاملة تحقق أهدافها، في ضوء المتغيرات التي لحقت بالواقع المحلي والاقليمي. وتزامن نشر المقال مع مواجهات عدة شهدتها القاهرة، حيث دعا معارضو التطبيع الى فعاليات شعبية مضادة لمؤتمر السلام الذي نظمته جمعية "القاهرة للسلام" العضو في "التحالف الدولي من أجل السلام" والمعروفة باسم "جماعة كوبنهاغن"، وتبادل المعنيون بالقضية الهجوم والاتهامات واصدار التوصيات والقرارات. ونشرت صحف حزبية ومستقلة مقالات رداً على عيسى كانت في جوهرها تعبيراً عن رفض الحديث عن مراجعة مطلوبة أو تطوير مرغوب فيه، على خلفية أن حركة مقاومة التطبيع لم يعلُها الصدأ أو يصبها الوهن أو العصاب، وان ما يردده عيسى ليس أكثر من محاولة للالتفاف على الحركة. من جهته تولى عيسى الرد على معارضيه، فأكد على موقفه الرافض من التطبيع، غير أنه أوضح في المقابل، ما آلت اليه الحركة وتحولها الى "مشتمة" وختم بعض مقالاته بالدعوة الى أن تنتقل "حركة مقاومة التطبيع من مشتمة الى معركة". وعلى رغم عنف الاتهامات التي وجهها عيسى الى أعضاء الحركة، وتوضيحه استمرار موقفه الرافض التطبيع، الا ان ذلك لم يمنع معارضيه من التشكيك في ما كتبه أو محاولة دحض الخلفيات السياسية والفكرية، التي أقام عليها أفكاره ورؤيته الجديدة. وهنا بعض الردود التي تلقتها "الحياة" على مقال عيسى. نشرت "الحياة" مقالاً لصلاح عيسى في السابع من تموز يوليو 1999 عن "إشكاليات حركة مقاومة التطبيع" كتبه بروح المؤرخ، وهي صفته الاساسية، وبمنطق الممارس، ومع ذلك جانبه تأمل افضل للتاريخ واسترجاع أفضل لظروف الممارسة في هذا الموضوع، ومن حسن حظي اني زاملت الصديق صلاح عيسى في جزء كبير من رحلة مقاومة التطبيع، امتد من لجنة الدفاع عن الثقافة القومية إلى سجن القلعة بسبب مشاركتنا في الاعتراض على اشتراك اسرائيل في معرض القاهرة للكتاب في كانون الثاني يناير 1981، ولذلك ادهشتني لغته عن جملة "الرافضين لتطبيع العلاقات مع اسرائيل"، وعلى رغم تصنيفهم عنده بين متشدد ومعتدل، فإنه عمم صفات فتح النار و"التشهير" والتصفية، و"حرب العملاء" بين الاطراف على كل معسكر مقاومة التطبيع، بما يبدو أمراً غريباً فعلا من المؤرخ صلاح عيسى. والذي أعرفه ويعرفه المؤرخ من واقع مشاركتنا وآخرين في أول مؤتمر للمثقفين المصريين في أول نيسان ابريل 1979 عقب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، أن "التشدد" كان نتاجاً طبيعياً لتوقيع هذه المعاهدات المشؤومة، وأنه عبّر عن غالبية ملحوظة للجميع وليس عن "تيار الاقلية"، كما يسميه صلاح عيسى، ذلك انه لم يكن مجرد تيار "رفض التطبيع" ولكنه كان تيار رفض الحل المنفرد مصرياً، ورفض معالجة قضية فلسطين كأنها قضية غير مصرية، ورفض الانعزال عن الوطن العربي وقضاياه. وفي إطار هذا الرفض الشامل "والمتشدد" - اذا شاء - قامت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برغبه جماعية من مجمل المثقفين في مصر، وتحية ملحوظة ومسجلة من مجمل المثقفين العرب، واخترنا اسماً ورمزاً مثل لطيفة الزيات على رأس اللجنة، كما شرفت - مع صلاح عيسى ومجموعة ممتازة من المثقفين - بأمانة اللجنة، ومنذ البداية استهدفنا العمل الثقافي اعلاماً وتعليماً وقيماً فكرية واجتماعية، لأننا شعرنا بتأكيد كامب ديفيد على اهمية الاختراق الثقافي لتأكيد المطامع الصهيونية في المنطقة و"تطويع" العقل العربي- إذا جاز التعبير - للمنطلقات التي قفزت ضمن هذه الاتفاقيات، ومنها "تطبيع" قبول اسرائيل في المنطقة وتحولها من كائن استعماري استيطاني إلى "كائن طبيعي" يطلب التوحد في المنطقة رغم عدوانيته وتوسعيته واميرياليته. اقول ذلك لصلاح، لأنني - اولاً - لاحظت تجاهله الكامل مسيرة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في مسيرة مقاومة التطبيع، وثانياً، لأن هذه اللجنة لم تشأ أن تشكل تنظيماً ولا هيكلية لتطلعنا الى مواجهة الهيمنة الصهيونية المحتملة على الفكر في المنطقة بهيمنة مضادة تتسم باطلاق المبادئ والافكار، والدخول الى اوسع وفاق مع المثقفين في مصر والوطن العربي من يساريين وناصريين واسلاميين، ورفضنا منذ البداية فكرة "الغزو الثقافي" التي كادت تشيع باعتبار افتقاد اسرائيل والصهيونية لثقافة فعلية يمكنها غزو ثقافة بحجم وعمق الثقافة العربية، بل ورفضنا اساليب العمل التقليدية من مؤتمرات الاستنكار والادانة إلي عمل معمق بالبحث والندوة والنشر والكتابة، ويمكن للمراقب ان يرصد في هذه المسيرة الغالبة انه لم تتم اعمال تشهير او ملاسنة او اقتتال او "استئجار" من جانبنا، وشارك صلاح عيسى نفسه في صياغة حوارنا الرفيع مع توفيق الحكيم ولطفي الخولي، وصاغ معنا المواقف التأسيسية لرفض محاولات اسرائيل المتكررة اختراق معرض الكتاب أو النفاذ عن طريق بعض الشخصيات الفلسطينية، وقمت بنفسي كما قام آخرون بحوارات مع أميل حبيبي مبكراً، حتى عزمي بشارة، اخيراً، عن عدم ترحيبنا بقبولهم التعامل في إطار كامب ديفيد وليس بصفتهم فلسطينيين اعزاء علينا. ربما لا يكون ذلك دفاعاً عن ضعف تنظيم حركة مقاومة التطبيع وضعف حركتها، لكني أذكره لصلاح عيسى إشارة إلى ان حجم فكرة المقاومة للتطبيع كان كبيراً دائماً بحكم قوة تمثيلها للروح الوطنية السائدة وتنوع القوى التي تمثلها، ولم يمنع ذلك تعدد اشكال مقاومة التطبيع المباشرة في الاحزاب والنقابات والحركة النسائية، ما جعل لجنة الدفاع عن الثقافة القومية تبدو طليعة رائدة لبت الافكار وتجذير المواقف، وتقديم نموذج لموقف المثقف العربي في مصر سرعان ما التقى مع نماذج مماثلة في لبنانوفلسطين وسورية والاردن وتونس، بل إن اول اجتماع لوزراء الثقافة العرب في دمشق عام 1981، لم يجد إلا وثائق لجنة الدفاع عن الثقافة القومية لتكون ورقة عمله الرئيسية في مواجهة التطبيع الثقافي المحتمل بعد كامب ديفيد، واعتمدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم هذه الوثائق لمشروعاتها الثقافية في مواجهة التطبيع. ويتحدث صلاح عيسى عن ان الحركة في "حمى انغماسها لم تدرك ان الظروف التي نشأت في ظلها تغيرت وانه آن الأوان لتراجع مفاهيمها واساليبها..."، وأعتقد ان صلاح عيسى خير من يدرك خطورة الحديث "عن تغير الظروف والمفاهيم" ولولا انه شريك اصيل في معركتنا لذكرته بالمشاكل التي واجهناها من المتحدثين عن تغير الظروف والمفاهيم بدءًا من اصحاب "الارض المشتركة في الشرق الاوسط" في مركز ابن خلدون في أواخر الثمانينات، ووصولاً الى اصحاب كوبنهاغن في اواخر التسعينات، وذلك ضمن القائلين بقوى السلام في اسرائيل رغم ما يرونه من تصاعد التطرف الاسرائيلي. ومع ذلك فإنه لا بد ان يذكر ان حركة مقاومة التطبيع تصدت لمشروع الشرق اوسطية - الفكري قبل السياسي والاقتصادي - منذ وقت مبكر وخلقت حوله كل التحفظات واشكال الحصار التي رافقته ونأمل الا تنقشع - مع الظروف الجديدة الآن!- كما تصدت الحركة لمشروع جماعة كوبنهاغن من دون اي اسفاف وكسبت الى صفها قوى ورموزاً وكتابات بارزة ضمت سعد الدين وهبه وصلاح حافظ وجماعة "روزاليوسف" القديمة، ثم انخرطت فيها صحف المعارضة الوطنية على نطاق واسع، بل وصدرت الاعمال الادبية الكبيرة معبرة عن هذه الروح، من رضوى عاشور ومريد البرغوثي وغيرهما، مما صدرت الدراسات العلمية عن قوى السلام الاسرائيلية من معاهد بحثية جامعية مثل معهد البحوث العربية. وفي إطار روح مقاومة التطبيع المتصاعدة هذه، تطورت مفاهيم المقاومة، لا لمجرد التطبيع مع اسرائيل، وانما صيغت مفاهيم مقاومة الهيمنة الاميركية الصهيونية ومشروعاتها، وعبّر الشعب العربي عن نفسه بهذه الروح جيدا في الموقف من حرب الخليج، وفي اطارها قامت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية بالاتصال بالقوى السياسية في مصر كافة لتنظيم اشتغالها بمقاومة التطبيع وعدم ترك المسألة للجنة طليعية هنا او هناك او في هذا المجال او ذاك، فانتظمت الى حد كبير "اللجنة المصرية لمواجهة الصهيونية ومقاومة التطبيع" من الاحزاب واللجان والشخصيات المهتمة بهذا العمل كافة، كما تنشط لجان شعبية لمقاومة التطبيع بأشكال مختلفة. وعلى رغم ذلك لا استطيع الا ان اسلم مع صلاح عيسى، بأن هناك ضعفاً مؤسسياً ملحوظاً في تنظيم هذه المقاومة وتحديد مفاهيمها. وهو ضعف ناتج من طبيعة الحركة الثقافية نفسها في بلادنا، فضلاً عن تدهور اشكال العمل العام وتعبيراته السياسية والاجتماعية. وفي لحظات الضعف يطفو خطاب المهاترة والملاسنة التي رصدها صلاح عيسى ولكنه على اي حال ليس الخطاب الغالب على المستوى الثقافي على الاقل، لأن "لاءات" الحركة الصهيونية سواء بقيادة نتانياهو او باراك تفرض نفسها على حركة الرفض العربي ولا انكر هنا ان هذا الوضوح على جبهة العدو اثر احيانا في نشاط لجنة الدفاع عن الثقافة القومية وفي "حركة مقاومة التطبيع التقليدية عموماً، لما بدا ان الاستفزازات الاسرائيلية تكفي نفسها، بل وتضيف الى المعركة كل يوم اصحاب اعمدة وكتاب رأي ومخرجي سينما، بل وصحفاً كاملة احياناً، وهذا موقف ليس كافياً بالطبع، ويجب ألا يعطل المسعى والتفكير لتنظيم العمل وترتيب المفاهيم. ومع ذلك دعني اقول هنا ان المشكلة باتت اكبر مع اندفاعات مواقع عربية مختلفة نحو "التطبيع"، ولا يرى اي عاقل سببا لاندفاعها ذاك من الخليج الى المحيط، وباتت اسرائيل "املاً يرتجى" وغير مبرر بأي حال عند كثير من السلطات الحكومية والاعلامية، بما يعاون جبهة الاستسلام على رفع الحرج، والقدرة اكثر على الاقدام على مواقف وسلوكيات لم تكن واردة منذ اعوام قليلة سابقة، ويبدو ان هذه الحال نفسها تدفع اخيراً الى الشكل الانفعالي الذي تتم به بعض ردود الافعال كما يرصد صلاح عيسي. ولاشك ان الموقف الاسرائيلي او الاستفزازات الاسرائيلية لم تكن وحدها مصدر القلق الذي يثير هذه الانفعالات قدر ما كان ايضا موقف السلطة الفلسطينية، وهو ما لم يضعه صلاح عيسى في اعتباره بأي درجة، بل ترك القارئ يستسلم لاحتمال ان حركة مقاومة التطبيع لم تراعِ طبيعة النضال الفلسطيني، على الارض الفلسطينية، وأظن ان صلاح عيسى لم يفته يوماً عذاباتنا مع "موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتجاهلها الكثير من اعتبارات النضال بما يضع اصدقاء الكفاح الفلسطيني في مأزق حقيقي اذا سلموا لها بحق الانفراد بالقرار بشأن فلسطين، ولذلك اتجه الرأي عند الكثيرين منا الى رفع هذا الروح ومواجهة القيادة بخطئها الفادح، بل وتجاهلها هي ومشروعاتها وخططها السياسية كلما امكن ذلك، خصوصا ان هناك قوى اخرى اصبحت على الساحة الفلسطينية تبدو اكثر فاعلية وتؤيد موقف عزل هذه القيادة التقليدية. ولذا، فرغم غياب او تكاسل الوجوه القديمة "لمواجهة الصهيونية ومقاومة التطبيع"، فإن وجوها جديدة تتقدم دائما او ظرفيا، وبمنطق متكامل في احيان كثيرة للدفاع عن حركة مقاومة التطبيع، وذلك بدءاً من الصحف القومية ومروراً بكل الكتاب والصحافيين والاساتذة والنقابيين الجادين. في وسط كل ذلك - سيدي المؤرخ - لم تشكل معركة علي سالم ولا حسام الدين مصطفى ولا مدحت صالح ولا شفيق جلال امراً ذا بال، بل ولا تعني مغامرة رؤوف مسعد نفسه شيئاً كثيراً، وما حول هذه الصغائر من ملاسنات وكلاميات لا يزيد على سفسطات عبرنا الكثير منها - وعبرها معنا صلاح عيسى - من دون ان تعني الكثير. يبقى قبل ختامي التعليق على مقال صلاح عيسى ملاحظة وعتب: * ملاحظة انه ما زال مشكوراً من فرسان مقاومة التطبيع بما يطرحه في مقاله من جدول اعمال جديد لجيل جديد في مقاومة التطبيع لإبقاء القضية على حيويتها التي شهدت بها الاسابيع الاخيرة نفسها مثلا. والعتاب لقسوته التي أراها خانته ونالت من رفاقه حين اعتبر ان النظر في جدول اعماله المقترح "قد يحول الحركة من عصاب الى اجتهاد، ومن تهريج الى سياسة"، فلم تكن- وليست- هكذا حركة مقاومة التطبيع التي نعرفها في جذورها واستمرارها.. عصاباً او تهريجاً.