نشرنا في العدد الماضي من "آفاق" نقداً لرواية "الإنزلاق" لحميد عبدالقادر، وننشر في هذا العدد نقداً لرواية الكاتب نفسه في عنوان "فتاوى زمن الموت". ويقارن الناقد بين الروايتين، انطلاقاً من تصويرهما واقع الجزائر اليوم. في رواية "فتاوى زمن الموت" نجد أنفسنا أمام طريقة اخرى في العرض ووجهة نظر اخرى في الموضوع. تصوّر الرواية جوانب من التحولات التي طرأت على المجتمع الجزائري بعد الاستقلال. وهذا عبر تركيزها على حي شعبي في العاصمة مقدمة مشاهد من مسارات مجموعة من شباب هذا الحي، من مرحلة طفولتهم الأولى قبيل الاستقلال الى مرحلة التسعينات بإبراز مصائرهم بعد اندلاع العنف ومواقعهم منه. تنفتح الرواية في الفصل الأول على مشهد شجار بين حسين الميكانيكي وعمار بائع الخردة بسبب طيش أبنائه الذين ما كان يسلم من أذاهم أحد مما أفقده احترام الجميع. ثم تقدم لنا شخصية اخرى هي شخصية زربوط الذي أطلق عليه هذا الاسم لقصر قامته وإفراطه في الحركة. ومع ذلك يتميز بالغدر والحيلة التي تبرز عبر ايراد الراوي لبعض أعماله الشيطانية. ثم نتعرف الى "قدّور" الشاب الموهوب الجانب الذي لم يمض على خروجه من السجن وقت طويل مع أنه ابن إمام جامع الحي وابنه الذكر الوحيد وسط عدد من البنات. ثم توبته وتحوله بعد سنة من ذلك الى شاب يرتدي جبة بيضاء ويضع على رأسه شاشية من اللون نفسه ويذهب الى الجامع لإقامة الصلاة ويمشي خافضاً رأسه الى الأرض ويلقي السلام على الناس الذين اعتذر لهم عما كان بدر منه في السابق، ثم... وفاته في ما بعد في افغانستان. و"عنتر" شاب آخر من أبناء الحي، الأعرج الذي يهوى أغاني عبدالحليم ويحسن العزف على القيثارة ويتمنى ان يصبح فناناً. وصديقه "مسعود" الذي يقول الشعر ويتميز بحب المطالعة ويتردد على المواخير ويدفع الراوي الى ذلك، ويعلن له في ما بعد فقدانه الإيمان بالله. والشيخ عبود الرجل الغريب الأطوار الذي اعتاد ان يخطب في الناس ويردد عليهم نبوءته التي مفادها انهم سائرون الى زمان بائع الخردة والميكانيكي، الى زمن بشع سيقتل فيه الأخ أخاه والإبن أباه... ثم تقدم لنا شخصية مريم الجميلة فاتنة الحي الشابة الجامعية التي خطبها الكثيرون ووقع في غرامها الكثيرون، منهم ذلك الشاب الأنيق الذي ظل يتردد على الحي لفترة قبل ان ينسحب لفقدانه الأمل. ثم الإشارة الى بداية التحول الكبير على أفراد المجموعة بفعل موجة التقوى والعفة التي بدأت تهب على الحي فجعلت الشبان يحترمون الدين ويصومون رمضان ويؤدون الصلاة ويقضون أوقاتهم في الجامع. ويغيرون أزياءهم فيهجرون السراويل ويرتدون الجبات الطويلة البيضاء ويرسلون لحاهم. وتغير سلوك الناس تبعاً لذلك. الذكور مثل الإناث. فاختفت كثير من الصور السابقة. ثم يسوق الراوي مشاهد نتعرف من خلالها الى "مبروك" الملاكم الفاشل الذي يهاجر تاركاً والدته العجوز وحيدة فتموت من دون ان يفطن لها أحد إلا بعد فترة. و"ياسين الحزين" وعائلته: أخوه ابراهيم الشرير المنحرف الذي يعثر عليه مقتولاً في أحد الأيام، ووالده الذي يموت بعد الجنازة، وأخته خوخه التي تهرب مع متعاون فرنسي، ثم وفاته هو شخصياً بعد هجرانه الحي فترة بعد ذلك. أثناء كل ذلك لم يغفل الراوي تتبع انتشار الوعي الديني وانحرافه في ما بعد عند الشباب الى تعصب في الرأي وتطرف في المواقف، عبر ذكره تصرفات بعض من ذكرهم مثل زربوط الذي تاب وتحول الى شخص آخر لا يكاد الناس يصدقون انه هو نفسه ذاك الذي كان ما كان، وظهور شخصية موسى أخ الراوي الذي كان متديناً من البداية الى حد التصوف وانخرط في ما بعد في الموجة الجديدة عندما شرع في نسج علاقات مع جماعة الدعوة والتبليغ النشطة آنذاك في الحي وكان اعضاؤها يهتمون بالجانب الديني البحت ويدعون الى ترك السلطة والابتعاد عنها وعدم الاهتمام بأمورها. القسم الثاني أو المرحلة الثانية في الرواية تبدأ بعودة الراوي الى الحي بعد غياب استمر أكثر من خمس سنوات وتغطيها الفصول الثلاثة الأخيرة. نتعرف من خلالها الى مصائر الشخصيات المذكورة آنفاً. توفي عمار بائع الخردة منذ خمس سنوات. أولاده الذين كان يتشاجر بسببهم مع الناس أصبحوا من أتباع موسى. قضي على احدهم في اشتباك مع قوات الأمن وحكم بالإعدام على آخر، اما ثالثهم فما زال يمارس القتل. مسعود الذي أصبح استاذاً جامعياً قتل ذبحاً على مرأى من والدته، قتله عنتر، صديقه الحميم سابقاً وعازف القيثارة... الشيخ عبود الذي كان يخطب في الناس اغتيل برصاصات اطلقها عليه مراهقون احدهم ابن بائع الخردة، بورأسين، احد علامات الحي الذي كان مشرداً ثم اصبح يبيع الحلوى أمام باب مدرسة الحي الموروثة عن العهد الاستعماري لقي حتفه في انفجار قنبلة في المكان نفسه وضعها زربوط، وأحدثت مجزرة ذهب ضحيتها تلاميذ المدرسة الأبرياء. الانفجار الذي جعل الراوي يغادر الحي ثانية اثر سوء علاقته بأخية موسى اكثر من ذي قبل خصوصاً بعدما أصبح زعيم الحي عقب عودته من احد معتقلات الجنوب، وكان قد تزوج وانجب. ثم اعتقل ثانية لأنه كان أحد قادة الارهاب، واحيل على المحكمة وتم اعدامه. حسب ضابط الأمن الذي قدم هذه المعلومات للراوي، الذي قرر تغيير محل اقامته مرة اخرى، اذ علم انه مطارد من أبناء حيه من اتباع أخيه موسى الذي كان أفتى بقتله ووضع اسمه ضمن قائمة أعدها لهذا الغرض. حتى انه فكر في الابتعاد عن العاصمة وضواحيها أصلاً، الا ان طلب نقله رفض من إدارة البنك الذي يشتغل فيه، لتنتهي الرواية بوقوع اعتداءات عليه وإصابته بجروح ألزمته الفراش اياماً. ثم علمه بأن الرصاصة الرابعة التي اخطأته اصابت طفلاً في الثالثة عشرة من عمره فقتلته على الفور. ولما أزمع بعد خروجه من المستشفى إعلام ضابط الأمن "بدرالدين" الذي أبلغه المعلومات الأولى باسماء الاشخاص الذين حاولوا اغتياله وهم زربوط وصالح شقيق زوجة أخيه موسى وجحا الإبن الأوسط لبائع الخردة، يُفاجأ بأن هذا الضابط اغتيل قبل تعرضه هو شخصياً لمحاولة الاغتيال بيومين. يتميز السرد في هذه الرواية بخطيته، ذلك انه لم يعتمد الانكسارات الزمنية مثلما رأينا في الرواية السابقة. إذ أن الراوي بدأ في تتبع أحداثه منذ بداية عهد الاستقلال، أي منذ طفولته ولداته من أبناء الذي تتبعهم. وإن لم يمنع لك عودته بين الحين والآخر الى ماضي هذه الشخصية أو تلك، إلا أن هذه العودات لم تكن تمتد الى الماضي البعيد ولم تتجاوز في بعضها نقطة انطلاق أحداث الرواية حينما كان ينبغي توضيح هذا التفصيل أو ذاك في حياة هذه الشخصية أو تلك. وعليه يمكن القول ان حاضر السرد الروائي هو زمن الاستقلال كله. ذلك ان الحدث الرئيسي هو نمو الذهنيات وتطورها لدى النماذج المختلفة التي رصدها. النمو الذي نزع لدى البعض الى التطرف الديني الذي يقوم لديهم على فهم خاطئ لأوامر الدين ونواهيه ولمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لذلك قد تبدو بعض المشاهد التي ساقها الراوي للقارئ للوهلة الأولى غير ذات اهمية. مثل شجار بائع الخردة والميكانيكي. ومغامرات زربوط قبل توبته. وعراك قدور مع عنتر. وعراك مبروك مع مسعود. وذهاب الراوي الى الماخور. ومجنون مريم. وجنازة ابراهيم أخو ياسين وهروب أخته وعودتها ووفاته... إلا ان الوظيفة الاساسية لهذه المشاهد هي توضيح مدى التحول الذي أصاب عقليات الناس وأثره في علاقاتهم بإبراز ما قبله وما بعده. إن عرض مشكلة العنف في هذا النص اختلف عنه كلياً في النص السابق. فلم يربطه من حيث المسؤولية بجهة معنية ولم يتموقع في خندق ما، ظاهرياً على الأقل، عكس ما لاحظناه في النص السابق. فهو لم يركز على شخصية بعينها، بل تتبع شخصيات متعددة أغلبها شباب. ورصد مسار العنف في مهده. أي في الاحياء الشعبية المكتظة بأبنائها الذين كانوا وقوده وآلته في الوقت ذاته. وهو ما عصمه من الوقوع في الحزبية الضيقة أو في محدودية الأفق. فيتسنى بذلك للقارئ - كل حسب رؤيته - ان يذهب مذهبه الخاص به في مصدر العنف. فيرجعه مثلاً الى الدعاة الأغراب الذين كانوا يتصلون بالناس في الحي. أو يرجعه الى الفراغ الذي استغله هؤلاء وهو الفراغ الذي نتج عن غياب الدولة ممثلة في مؤسساتها، فلم يرد ذكرها في النص الا في الفصول الأخيرة أو عند استدعائها لوالد قدور قبل ذلك. وكأنها لا تتحرك الا بعد فلتان الأمر من يدها وتحول العنف الى مؤسسة. والملاحظات التي يمكن الخروج بها بعد قراءة النصين تتلخص في: - تكرس الرواية الأولى "الإنزلاق" اعتقادنا ان الخطاب الفكري الجزائري بتجلياته المختلفة اعلامياً وسياسياً وأدبياً واجتماعياً، لم يرق بعد الى مستوى الأزمة فيقاربها مقاربة تحقق حداً أدنى من الموضوعية والمقبولية لدى كل الأطراف ببقائه أسير العصبيات المختلفة. دينياً وسياسياً وثقافياً ولغوياً. يبقى النص الأدبي الجزائري في معظمه محكوماً بمرجعيته السياسية. فيظل الخطاب الأدبي ظلاً للخطاب السياسي وتابعاً له. فكما كان الأدب السبعيني مرتبطاً في قسم كبير منه ارتباطاً وثيقاً بالخطاب السياسي الذي كان سائداً آنذاك وصدى له، بقي الأمر على ما هو عليه بعد التعددية السياسية. فكانت نصوص كثيرة تعبيراً مفضوحاً عن رؤية سياسية معينة فلم تحقق بذلك أدبيتها وبقيت مجرد بيانات حزبية لهذه الجهة أو تلك مثل رواية "الإنزلاق"، التي لقيت اهتماماً عند صدورها وترجمت الى الفرنسية في فترة وجيزة، ليس لأنها نص جيد، بل لأنها تقول بالعربية أشياء ترغب جهات كثيرة في سماعها. يؤدي بنا هذا الى ملاحظة ان الكتابة عن العنف بهذه الصورة تصبح بدورها عنفاً مضاداً. - لا تصدق هذه الملاحظة على الرواية الثانية، التي هي أنضج من هذه الناحية بعض الشيء. وبإمكانها ان تؤسس للنص المتزن الذي لا يضحي بأدبيته لحساب موقفه السياسي. اضافة الى ان لغتها حسنة وأسلوبها على شيء من الجمال مما لا نلاحظه في النص السابق. الذي تضمن بالإضافة الى ذلك مقاطع مكتوبة بالفرنسية والحروف اللاتينية. - يتميز النصان بقصرهما المفرط، فهما صغيرا الحجم من حيث القطع ومن حيث عدد الصفحات. وهي ملاحظة تشترك فيها معظم النصوص القصصية الجزائرية من روايات ومجموعات قصصية، بل وحتى المجموعات الشعرية.