صور بعض النصوص الروائية منذ بداية الثمانينات اعراض الأزمة الجزائرية وبوادرها، فكان تنبؤاً استشرافياً بتصويره للسلبيات والتجاوزات واظهاره للنقائص التي كان يجتهد البعض في اخفائها. فكيف عبَّر الأدب عن الأزمة في التسعينات، وكيف تجلّت هذه الاخيرة فيه؟ وكيف عبَّرت النصوص الجزائرية عن العنف؟ لمقاربة هذه الإشكالية إرتأينا قراءة نص روائي صدر اخيراً، هو "الانزلاق" لحميد عبدالقادر. و"الإنزلاق" هي العمل الروائي الأول للمؤلف وتروي قصة عبدالهامل الصحافي المهدّد بالقتل من "الأئمّة الجدد". تنفتح في فصلها الأول على كابوس يرى فيه البطل نفسه وكأنه يركض في دهليز طويل مخيف لا ينتهي … وراءه يركض رجال يريدون اللحاق به. والشرر يتطاير من اعينهم المكحّلة ليقتلوه. فيستيقظ مفزوعاً. قبل ذلك يشير الى موت جدّه مقتولاً بضربات فأس غرسها مسؤول الحزب في ظهره بعد ان رفض قرار تأميم اراضي اجداده. وحيداً في غرفته بالنزل الحقير الذي لجأ اليه بعد ان اضطر الى هجر منزل عائلته بالضاحية الغربية حيث كان ينعم بحياة هادئة في غرفة واسعة، تبدأ رحلة البطل الذهنية بعودته الى ذاكرته مستعيداً احداثاً كثيرة متعددة. يبدؤها بنزوح عائلته من منطقتها الاصلية في الربع الأخير من القرن الماضي هرباً من ملاحقة الغزاة ومصادرتهم لأراضيها عقب فشل ثورة المقراني. ثم يمضي في استعراض المسيرة النضالية الطويلة لجدِّه بدءاً بمشاركته في الحرب العالمية الاولى وانتهاءً بمشاركته في حرب التحرير وهروبه ثم عودته الى الوطن بعد الاستقلال ثم اعتقاله وسجنه بسبب افكاره المعارضة، معارضته التي امتدت الى اعتراضه على تأميم اراضي عائلته ووقوفه في وجه مسؤول الحزب، مروراً بهجرته الى فرنسا في شبابه ونشاطه النقابي وقربه من الشيوعيين الفرنسيين ثم انخراطه في الحركة الوطنية. لينهي هذا الفصل بالاشارة - على لسان جدِّه - الى ان احلامه تهشَّمت لما ضحى المسؤول الأول في العهد الثاني من عهود الاستقلال وقبله سلفه بالديموقراطية والعقلانية في سبيل وطنية مقدسة تقوم على أسس مزيفة. ولم ينس ملاحظة خوف الجد على مستقبل حفيده البطل الذي يحب مثله الشعر والكتب والموسيقى الكلاسيكية. جده الذي علمه كيفية البقاء فأنقذه بذلك من ان يصبح لقيطاً في عالم مزيف شوه فيه المسؤول حقائق التاريخ. هذا الحاكم غير الشرعي الذي لم ينتخبه احد، والذي استحوذ على السلطة بالقوة فاستند الى التاريخ ليستمد منه الشرعية. ويمضي في تصوير بؤس حياته الحاضرة في مقارنة بما كانت عليه في الماضي القريب لما كان يتوجه يومياً الى المركز الثقافي الفرنسي لالقاء نفسه بين الكتب والاستماع الى الموسيقى الجنائزية. وقد أغلق المركز ابوابه بعدما توعدت كتائب الموت كل الأجانب بالقتل، ما جعله يحس باليتم حيث لم يكن يجد راحته الا فيه، على رغم الاحباط الذي كان يحس به يوم الجمعة اثقل الأيام عليه وأتعسها لديه، حتى تلقيه رسالة تهديد يتوعده فيها بعضهم بأنه سيلقى جزاءه. ويواصل وصف مسار تشكل العنف بظهور عوامل آتية من الأزمنة القديمة كانت تتغلغل في نفوس الشباب عبر الخطب الحماسية التي كان يلقيها الأئمة في المساجد ايام الجمع. ويستعرض اثر ذلك احداث اكتوبر والتحولات التي اعقبتها. ليعود في الفصل الثامن الى حاضر السرد حيث يصور مرة اخرى بؤس الواقع وخوف الناس ورعبهم ويأسهم ليعود بعدها الى فجر الاستقلال فيبين كيفية استيلاء المسؤولين على إرث المستعمر من عقارات وأموال وسلطة وكيفية تفننهم في المحافظة على هذا الإرث بالأداتين الأمنية والاعلامية يعود بعد ذلك الى حاضر السرد فنعرف سبب حكم الأئمة الجدد عليه بالإعدام، وهو انه قال لا لأفكار متعصبة وشمولية تجددت على انقاض شمولية ثورية عتيقة. ينقلنا إثرها الى طفولته البائسة التي لم يحظ فيها بأي حنان من والده الذي لم يتزوج والدته الا لتعد له طعامه وتشبع حاجاته البيولوجية نتيجة اخفاقه في حبه لابنة احد المعمرين، وهو الاخفاق الذي جعله إنساناً محطماً مكروباً يائساً من الحياة. ويغتنم هذه الفرصة ليذكرنا بضياع حلمه هو ايضاً: حبيبته "آمال" وغرقه في عزلة قاتلة ينهشه الندم على عودته من باريس وتركه للحياة الناعمة هناك، وصديقته اليهودية "ميراي" التي نصحته بالبقاء وتنبأت له بأنه سيكون حزيناً. كل ذلك في تصوير لمشاهد الموت وعلاماته: تهديدات، اغتيالات، اختفاءات، تخفيات.. لنصل في الفصل الاخير الى الساعات الاخيرة من حياة الصحافي الشاعر عبر عودته الى النزل ومشاعره التي يبسطها لنا بمناجاته لنفسه او حواره لجارته "مريم" التي تسكن الغرفة المجاورة لغرفته هاربة هي ايضاً من زوج أمها الذي يتوعدها بالموت بعد ان اغتيل عشيقها… ويعرض علينا قصتها وقصة زوج امها وكيفية جمعه لثروته بعد اقامته شبكة دعارة… قبل ان يخرج الى الشارع فتصيبه رصاصات ترديه قتيلاً. الرواية اذن قراءة لتاريخ الجزائر الحديث، ارتكزت تقنيتها السردية على تنقُّل متواصل في شكل ذهاب/ اياب بين الحاضر والماضي. حاضر سردي يمتد الى ما يقارب الأربع وعشرين ساعة مع العودة المتكررة الى الماضي كلما استلزم الأمر ذلك. تمتد هذه العودة الى ما قبل بداية القرن العشرين بعقدين من الزمن، فتكون الفترة التي غطّتها الرواية متجاوزة القرن، مع تركيز واضح على عهود الاستقلال، لأنها تشكّل اكثر من غيرها مسار تشكل العنف الذي عمّ البلاد في التسعينات، وهو العنف الذي يعيده النص الى تجذُّر شمولية كانت في البداية ثورية مستندة الى وطنية تقوم على أسس مزيفة مع كل ما يصاحب ذلك من تركيز للسلطات وقمع المعارضة واستمتاع فئة قليلة بمقّدرات البلاد وخيراتها دون غيرها. فالعنف في "الإنزلاق" اذن مصدره الأفكار والممارسات الاقصائية والتلاعبات السياسية وتزييف التاريخ لتوفير شرعية للبقاء في الحكم وخلق الأوهام الكثيرة، وهي التصرفات التي انتجت تصرفات مماثلة تقوم على استغلال الدين وتفسيره وفق منطق معين يكون الجميع مطالبين بقبوله واعتقاده، والا فهم مرتدون تحلُّ محاربتهم ويحل الجهاد ضدهم. عرض النص هذه الأفكار لما جعل العائلة بأجيالها الثلاثة: الجدُّ والأبُ والإبنُ البطل ضحية لها. فكانت الرواية تصويراً لإخفاقات هذه العائلة وخيباتها، وتحميل السياسة والسياسيين وزر ذلك لا لشيء الا لأن افرادها معارضون للحكم القائم. وقد كان يمكن لهذه النظرة ان تستقيم لولا سلبية نماذجها التي انعكست على البطل فورث النفسية المستاءة لوالده التي انعكست في موقفه الرافض لكل شيء والمشكّك في كل شيء بنفوره من البلد وأصحابه سياسياً واقتصادياً وثقافياً. فقد عمل كل ما في وسعه حتى لا يبنى المسجد في حيه، ولم يكن ينعم بالراحة الا في الأوقات التي كان يتوجَّه فيها الى المركز الثقافي الفرنسي او في الفترة التي قضاها في باريس الى جانب ميراي اليهودية… اضافة الى ان أتعس الأيام عنده وأثقلها هو يوم الجمعة. والواقع ان التنقل بين الحاضر والماضي في هذا النص يتناسب وموضوعه والأصوات السردية التي تختلف باختلاف المستويات. ففي المستوى الأول نجد ان الصوت الأساسي هو صوت الراوي البطل "عبدالله الهامل" كلّما تعلّق الأمر بأحداث الحاضر والماضي القريب المتعلّق به هو شخصياً لأنه راوٍ شاهد على الأحداث وان لم يكن فاعلاً منجزاً مؤثراً بل هو فاعل وضعي. يتأثر بالمحيط الذي يتحرّك ضمنه اكثر مما يؤثر فيه. فيسرد هذه الأحداث بضمير المخاطب "الذي هو أحد تنويعات ضمير المتكلّم في السرد" او المتكلّم كما هي الحال في الفصل الاخير في ما يشبه المناجاة، مناجاة السارد لنفسه او الاعتراف. اما اذا تغيّر الضمير في هذا المستوى واختفت المناجاة فهو لسرد احداث عامة كما هي الحال في الفصول 6 و7 و9 وحتى في الفصل الاخير. اما في المستوى الثاني فان الصوت السردي يتغير، اذ يصبح الجدّ كما في الفصل الثالث او الشيخ سايح الذي يطلع البطل على تفاصيل قصّة والديه في الفصل العاشر. توضح الفقرة السابقة محدودة الأفق وضيق النظرة التي عرض بها الموضوع، وان كان الهدف الظاهر هو تصوير حالة المثقّف الذي هو دائماً عرضة لشمولية جهة ما. فقد كان الجد عرضة لشمولية زعيم حزب الشعب ثم ضحية شمولية قادة الثورة ثم ضحية شمولية عهدي الاستقلال الأول والثاني وكذلك كان حفيده ضحية بدوره لشمولية الحكم، وشمولية الأئمّة الجدد. وهي على اية حال عقدة المثقّف اليساري المضطهد التي لاحظناها ونلاحظها في كثير من النصوص الجزائرية. والحال ان الأمر لا يخص المثقف اليساري فقط ان لم يكن العكس هو الصحيح. فالمثقف مهما كان انتماؤه كان عرضة للشمولية. يقودنا كل هذا الى ملاحظة المباشرة والتقريرية والسطحية التي عولج بها الموضوع فأدّت بصاحب النص الى تقديم قراءة اختزالية تبسيطية للواقع الجزائري في مبالغة مخلة بالحقيقة والواقع، هي نظرة سياسية ضيقة اكثر منها نظرة موضوعية. * استاذ في جامعة الجزائر.