عصفت الأحداث في القوقاز على كافة الاخبار في العالم، وتصاعد الحديث عن انتفاضة الشعب الداغستاني وتأثيرها على استقرار الحكم الروسي الهش الذي حاول القفز على هذه المفاجأة بتعيين رئيس وزراء جديد يملك القدرة على قصم ظهر الانتفاضات وسحق أي محاولة انفصالية لهذه القطعة الغالية على الروس. "فليس ثمة من مجال للتنازل عن هذا الجزء من الفيديرالية بأي حال" حسب تعبير الرئيس الروسي بوريس يلتسن الذي أكد لرئيس وزرائه الجديد، بأنه - ومهما كان عليه الملف الداغستاني من تعقيد - لا مجال أمامه لحل هذا الإشكال الخطير غير سحق هذه المقاومة وإبادتها تماماً. تحركت مدرعات وطائرات ومدفعية الجيش الروسي لصب جحيمها على فصائل المقاومة الوطنية في داغستان، والتي تصفها صحف العالم بالحركة الاسلامية، التي تأتي بحسب تحليلاتهم كحركة متأثرة ومنفعلة ومُقادة من طرف الحركة الاسلامية في الشيشان. على ان التوقف أمام هذه التحليلات بذاتها، ثم محاولة فهم هذه الانتفاضة الوطنية "الطبيعية" وابعادها يحتاج منا الى معاودة سريعة لتاريخية الإشكال، اذ تشكل الداغستان الى جانب الشيشان أحد أهم مناطق القوقاز التي تصنع مرتفعاتها الفاصل الطبيعي بين حدود آسيا وأوروبا. وذلك بالقياس الى موقعها الاستراتيجي المهم شمال أذربيجان على امتداد الساحل الغربي لبحر الخزر في الشمال الشرقي للقوقاز. وتمثل بالنسبة للفيديرالية الروسية التي حلت محل الاتحاد السوفياتي السابق أحد أهم المنافذ الطبيعية على هذا البحر، ومنطقة للاحتياطي الاستراتيجي لمختلف الموارد الطبيعية. كانت داغستان، كغيرها من الجمهوريات الاسلامية، في اطار الاتحاد السوفياتي السابق ترزح تحت وطأة التخلف الاجتماعي والاقتصادي وصعوبات الحياة بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية، على أن الأهم في هذا الاتجاه، كان ذلك التعسف المركزي الديكتاتوري تجاه خصوصيات هذه المناطق الحضارية والثقافية. وعلى رغم ان انتفاضة شعب داغستان اليوم تأتي زمنياً بعد انتفاضات شعوب المناطق الاسلامية الأخرى في تركستان أو اوزبكستان أو طاجيكستان والشيشان... إلا أنها في حقيقة الأمر سابقة على غيرها. تاريخية النضال الوطني دخلت داغستان الى دائرة الاسلام في نهاية عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب الذي أرسل بجيوش الفتح الى هذا الديار، ولم يكن عهدها بالاسلام نهائياً الا مع الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان. على ان ديار داغستان لن تدخل كلياً ونهائياً بالمقابل الى دائرة الاسلام الا مع فتوحات مسلمة بن عبدالله بن مروان الحاسمة في القرن الثامن الميلادي. هكذا خضعت الداغستان وكامل بلاد القوقاز للخلافة الاموية، ثم للخلافة العباسية... وسيرثها لاحقاً الحكم المغولي على النحو الذي سيعيدها هؤلاء المغول الى رحاب الاسلام بعد ان حاولوا تدميرها. فاعتنقوا الاسلام. وصاروا حماة هذه الحضارة. مع نهايات القرن السادس عشر الميلادي 1578 تحديداً سيرث الاتراك العثمانيون بعض من خانيات المغول في المنطقة وستخضع لهم الداغستان حتى عام 1640، اذ سينتفض هذا الشعب ويشق عصا الطاعة على الخلافة في الاستانة ويعلن إمارة داغستانية مستقلة في جنوب مناطق الداغستان الحالية بزعامة الأمير حسن خان. هكذا اضطرت الخلافة العثمانية ان تعترف بهذا الوجود المستقل وتتعامل مع امارة الداغستان وفق خيار الانضمام الى دائرة الخلافة في تحالف سياسي واستراتيجي في الدرجة الأولى، في وقت كان التنافس على أشده بين الدولة الصفوية في ايران والخلافة العثمانية للسيطرة على مناطق القوقاز، فخضعت أذربيجان للدولة الصفوية بينما خضعت بقية المناطق الواقعة على البحر الاسود - والقريبة جغرافياً من تركيا - للدولة العثمانية. غير أن قدر هذه الامارة سيأخذ سياقاً آخر، وفق طبيعة التغيرات السياسية التي أخذت تطبع العالم بأسره، اذ انشغلت خلالها الخلافة العثمانية بحروبها وسط أوروبا، وعجزت بذلك عن حماية حلفائها في القوقاز أو آسيا الوسطى، اذ قامت جيوش بطرس الأكبر بمهاجمة الداغستان سنة 1722 وفرضت عليها السيطرة الروسية. رفض أهل الداغستان الرضوخ لمثل هذه الوصاية، وعرفت مناطقهم، ضمن جملة المناطق الاسلامية في المنطقة، بوادر أول انتفاضات مسلحة ضد الروس، لم تتوقف حتى تمكنت بفضل مساعدات جيوش الدولة الصفوية الجنوبية من استعادة استقلالها وطرد الروس عن تربكها عام 1735. هكذا ستحتفظ الداغستان - في اطار التحالف مع الدولة الصفوية تحت حكم نادر شاه - باستقلالها الذاتي، حتى بدايات القرن التاسع عشر، عندما انهزمت الدولة الصفوية أمام قوات القياصرة الروس عام 1806، عندها تنازلت الدولة الصفوية عن الداغستان للامبراطورية الروسية. تبلّور الهوية الاسلامية بالقياس الى طبيعة التركيبة الحضارية والعقائدية الخاصة لشعوب القوقاز وآسيا الوسطى عموماً، مرّ دخول الاسلام في هذه الديار بمراحل عسيرة. لقد قاومت هذه المناطق على أشد ما تكون المقاومة، حتى أن بعض المناطق هناك تم فتحها مراراً. على أن الفضل الأخير لترسيخ الاسلام وتثبيته يعود لرجال الصوفية. وستكون الهوية الصوفية بذاتها هوية أهل المكان، وسيكون لرجالها، وطرقها، مكان الصدارة في صيرورة تاريخ المكان، وجغرافيته. ويصعب الحديث عن الوجود الاسلامي في هذه المناطق من دون الحديث عن النقشبندية أو القادرية أو الكبراوية. على هذا النحو، سيتحول جهاد الشعب الداغستاني وفق ضراوة الرصد العسكري من طرف قوات القياصرة التي حاولت أن تلغي نهائياً وجه هذه "الهوية" الرافضة، الى حركة سرية تتم في الزوايا، و"الحضرات" الصوفية. وفي سياق الانتماء الطرائقي، الذي حلّ محل التنظيمات السياسية أو العسكرية المباشرة، نجد أهمها في الطريقة النقشبندية، التي فجرت في وجه الروس أول ثورة شعبية مسلحة بقيادة الشيخ شامل في الداغستان نفسها. استمرت هذه الثورة المجاهدة لما يزيد عن الثلاثين عاماً ولم تنته هذه الثورة إلا بالقبض على الشيخ شامل ونفيه الى الاستانة عام 1851. بعدها سيرحّل من الاستانة الى المدينةالمنورة التي مكث فيها الى وفاته ليدفن في بقيعها شاهداً على ما قدم هذا الشعب المسلم من جهاد حتى الآن. وفي الوقت الذي شكل فيه القبض على الشيخ شامل ضربة مؤثرة على صفوف المقاومة في الداغستان، واصل هذا الشعب مقاومته الى عام 1887 حين استطاعت قوات القياصرة حصد معظم شيوخ الطريقة. البلاشفة والحل الاشتراكي بحث زعماء الثورة البلشفيكية في روسيا 1917 مسألة التحالف مع زعماء المقاومة الاسلامية في القوقاز، وفي آسيا الوسطى عموماً، ممن عانوا من الاضطهاد القيصري. وفضل الزعماء المسلمون فعلاً التحالف مع برنامج الحل الاشتراكي الذي يضمن لهم العدالة والحرية الدينية كما وعدهم لينين. فوقفوا معه وحاربوا في صفوفه، واستطاعوا ان ينتصروا مع قواته ضد هذا الجحيم الروسي القيصري. وأخيراً انضمت بلدانهم كلها الى دائرة الاتحاد السوفياتي بناء على هذه الوعود الايديولوجية البراقة. وسرعان ما وقع الكيان التقدمي فريسة الستالينية التي تحولت الى جحيم. وعانى المسلمون مع الحكم المركزي الستاليني في موسكو ضراوة الاضطهاد الديني، والاضطهاد الفكري، والاضطهاد الاقتصادي، وصارت مناطقهم ترزح تحت وطأة مختلف أشكال التعسف والتخلف، والتبعية المغلوبة على أمرها. على أن الذي ظل مكابراً على رغم كل هذه السياقات الصامتة، تلك المقاومة الصوفية التي استمرت تلملم شمل الشعوب الاسلامية في المنطقة، وتؤكد على تجذّر الهوية الاسلامية التي ستشعل عن قرب حرب الجهاد في وجه كل من يحاول سحق هذه الحقيقة. هكذا ستنهض الثورات، والثورات، وستنسلخ هذه الشعوب تباعاً بدينها وأوطانها عن الكيان الظالم، وكان آخرها انتفاضة الشعب المسلم في الداغستان. * باحثة من ليبيا، عضو في مجموعة الأبحاث حول الاسلام في الصين، مركز الدراسات الصينية، ورئيسة تحرير مجلة "دراسات شرقية" - باريس.