مع بداية كل عام دراسي ينكشف حجم الضائقة الاقتصادية التي تعانيها أسر لبنانية كثيرة، والتي تزداد حدة عاماً بعد عام وتبدو في ذروتها هذه السنة. وتتجلى هذه الضائقة في ظاهرتين نادرتين، فغالبية المدارس الخاصة لم ترفع، وللمرة الأولى أقساطها، بل عمد بعضها الى خفضها لمواجهة ازدياد التحول الى المدرسة الرسمية، على رغم اقتناع الأهل والطلاب بأن المدرسة الخاصة هي الأفضل. أما الظاهرة الثانية فهي في اتساع حلقة "فاعلي الخير" لمساعدة الطلاب على اكمال تعليمهم ضاربين عصفورين بحجر! وليس مستغرباً أن يُظهر اللبنانيون تذمرهم مع بداية موسم تسديد الأقساط وشراء الكتب والقرطاسية فتعليم أولادهم بحسب الدراسة الإحصائية عن الأوضاع المعيشية للأسر في العام 1997، يُعتبر ثالث أولوية بعد تأمين الغذاء والطبابة. ويتبين أن معدل النفقات الدراسية هو الأعلى في بيروت أكثر من ثلاثة ملايين ليرة تليها الضواحي وباقي جبل لبنان، حيث ينخفض المبلغ في شكل ضئيل. ويقل حتى النصف في المحافظات الأخرى بسبب النسبة المرتفعة التي ترتاد المدارس الرسمية ووجود مدارس خاصة ذات أقساط مدرسية مخفوضة. وتشير الدراسة الى أن نسبة الذين يتابعون تعليمهم سجلت تراجعاً ملحوظاً في العام 1997 إذ بلغت 9،30 في المئة بالمقارنة مع معطيات العام 1970 حين كانت النسبة 1،34 في المئة، وتظهر أن مدة تلقي العلم بالنسبة الى ثلث الأولاد قصيرة خصوصاً للذكور الذين يتحولون الى سوق العمل باكراً. "التسرب" من المدرسة الخاصة الى مثيلتها الرسمية أو من الأخيرة الى سوق العمل، دفع بالمدرسة الخاصة الى تجميد أقساطها هذا العام سعياً الى استقطاب أكبر عدد من الطلاب. لكن اللافت أن الأهالي الذين أقبلوا على المدرسة الرسمية غير قادرين في معظم الأحيان على تسديد رسومها ما يعادل مئة دولار عن كل تلميذ، وهو ما دفع نواباً أخيراً الى اطلاق النداءات الى الحكومة لإعفاء التلامذة من الرسوم والبعض طالب بتقسيطها أسوة بما يفعله اللبناني يومياً إذ بات التقسيط يشمل حتى فاتورة الكهرباء. يقول صاحب مكتبة مدرسية في مدينة بعلبك أنه فوجىء قبل أيام بعجز مهندس عن دفع فاتورة بثمن كتب وقرطاسية لأولاده لا تتجاوز قيمتها 150 دولاراً. في حين أن قاصدي احدى مدارس الراهبات في المدينة أو هم في غالبيتهم من طالبي الإفادات المدرسية، لا من الساعين الى تسجيل أولادهم فيها. ومن المآسي التي تسجل في المدارس أن نسباً لا بأس بها من الأهالي لم تسدد حتى الآن القسط الكامل عن العام الدراسي الماضي، وان عدداً من هذه المدارس لم يدفع بدوره الرواتب كاملة لمعلميه، عن العام نفسه، ووعمد البعض الى تسريح أعداد منهم خفضاً للنفقات. ويتوقع الرئيس السابق للجان الأهل في المدارس الخاصة الطبيب علي حسن أن يتجاوز عدد الطلاب "المتسربين" من المدرسة الخاصة الى الرسمية الخمسين ألفاً وهو مجموع ما سجل العام الماضي. لكن المشكلة في رأيه تكمن في "أن المدرسة الخاصة ترفض اعطاء ولي أمر التلميذ افادة دراسية عن العام الماضي بسبب عدم تسديده القسط كاملاً، وبالتالي فإن المدرسة الرسمية ترفض تسجيله ما لم يؤمن هذه الإفادة فتتحول المدرسة الرسمية محصّل رسوم للخاصة. ولو كان في امكان التلميذ دفع المتبقي عليه للمدرسة الخاصة، لما لجأ الى المدرسة الرسمية". تلك الدوامة التي يعيشها أولياء أمور التلامذة تظهر في طَرْقِ كُثر منهم أبواب أحزاب وشخصيات سياسية، أو طامحة الى اداء دور سياسي، وحمل شكاواهم الى القصر الجمهوري. وإذا كان المرجع الأخير غير قادر على معالجة هذه المشكلة كما صرّح مسؤول غرفة الشكاوى ل"الحياة" بسبب "عدم توفر نظام المساعدات المادية لدينا" فإن "حزب الله" يبدو الأكثر استقطاباً لهذه الفئات الاجتماعية في ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع والجنوب وتصب مساعداته في خانة الجذب السياسي. ويحصي مسؤول التعبئة التربوية في الحزب الدكتور بلال نعيم أربعة آلاف تلميذ في البقاع، لم يتمكنوا العام الماضي من متابعة دراستهم في المدرسة الرسمية وتمت مساعدتهم بتسديد الرسوم عنهم. ويتوقع أن يرتفع العدد هذا العام الى خمسة آلاف، في حين تقتصر مساعداته في الضاحية الجنوبية على تأمين منح دراسية للطلاب المحتاجين في المدارس الخاصة، إذ أن المدارس الرسمية في هذه المنطقة لا تستوعب أكثر من 25 في المئة من مجموع طلابها. ويشير الى أن تأمين المنح أو الحسومات على الأقساط يتم بالاتفاق بين الحزب والمدرسة، والأخيرة تقول أنها "تتجاوب عن اقتناع منها لا تحت الضغط". مساعدات "حزب الله" شملت العام الماضي عشرة آلاف تلميذ. ويتوقع أن يرتفع العدد الى 12 ألفاً هذا العام. وهو خصص مبلغ نصف مليون دولار لصرف المساعدات. عند أول تقاطع في شارع فردان حيث كانت مدرسة "كارمل سان جوزيف" قبل أن تنتقل الى خارج بيروت وصارت الأرض ملكاً لرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري تنتصب خيم موقتة تعج بنساء ورجال يتراكضون في كل الاتجاهات بعضهم انتظم في صفوف وآخرون راحوا ينعمون النظر في لوائح ثبتت الى لوح كبير بحثاً عن اسم وموعد. وعند المداخل يتنافس بائعو الكعك والمرطبات على خدمة زبائن قلّ توافرهم بهذا الحجم أمام دكاكين أخرى. الحرس المنتشرون في المكان حالوا دون دخول الصحافة "فهذه أوامر الرئيس الحريري التي تقضي بمساعدة الناس عبر اعانات مالية مقدرة بالدولار الأميركي لتسديد أقساط الأولاد وسط تكتم اعلامي". وتشير أوساط الحريري الى أن المساعدات التي يقدمها الى الناس في مثل هذا الموسم كانت تتم سابقاً، لكن بسبب تردي الأوضاع المعيشية هذا العام "اضطر الى تعميمها". خبر توزيع الحريري لمساعدات كان انتشر في المدينة في سرعة البرق، وتجاوزها الى المناطق لكن المساعدة مقتصرة حتى الآن على أهالي بيروت التي صار الرئيس الحريري منذ سنوات قليلة واحداً من أبنائها وممثليها في المجلس النيابي، وتردد أن المساعدة تتفاوت بين 200 دولار و300 عن التلميذ الواحد، شرط أن يوفر ولي أمره ايصالات بدفع الرسوم للمدرسة بعد ملء استمارة تستوضح تفاصيل سجل قيده ومهنته ومهنة زوجته، ومكان اقامته، "لكن المساعدات غير مقتصرة على طائفة أو مذهب انما تشمل كل الناس". في مدينة طرابلس ينهج رجل الأعمال محمد الصفدي نهجاً مشابهاً. وهو لا يشغل الآن أي منصب سياسي. وقال ل"الحياة" أنه لا يفكر في الانتخابات النيابية حتى الآن. كان عاد الى لبنان قبل ثلاث سنوات ونصف السنة ليدير أعماله بين بريطانيا والمملكة العربية السعودية ولبنان وبدأ بالمساعدة العام الماضي ويواصلها هذا العام مركزاً على الأحياء الفقيرة في المدينة والشمال عموماً. وتنحصر المساعدة بطلاب المدارس الرسمية فيسدد رسومها عوضاً عن غير القادرين. وكانت مساعداته شملت العام الماضي عشرة آلاف تلميذ بينهم 1500 في مدارس خاصة تم الوصول اليهم عبر رجال الدين والمخاتير الذين هم على تماس مع ظروفهم الصعبة. وتوقع أن تشمل مساعداته هذا العام 20 ألف تلميذ نتيجة البطالة التي يعانيها الناس". ويقول الصفدي ان مساعداته "ليست جديدة لأبناء المنطقة" فهو اعتاد خلال الحرب "تقديم مساعدات غذائية عبر تأمين وجبات طعام الى تلامذة المدارس الرسمية وألواح صابون". وعلى عكس الصفدي فإن رجل الأعمال فؤاد مخزومي لا يخفي طموحاته للفوز بكرسي النيابية وحتى رئاسة الحكومة. ومحاولاته الدؤوبة لاقتحام عالم السياسة من باب الأعمال توجّها أخيراً بإعلانات نشرت في الصحف اليومية عن تقديم مساعدات الى تلامذة المدارس الرسمية عبر تأمين الرسوم والقرطاسية، وارتأى أن تشمل مساعداته "بيروت الكبرى" وذكرت المسؤولة الإعلامية في مكتبه الزميلة مهى حمدان "ان الظروف الاجتماعية صعبة جداً والناس يدقون الباب طالبين المساعدة فقررنا تعميمها". والمساعدات المدرسية لا تنحصر بالشخصيات السياسية والمؤسسات الحزبية بل تمتد لتشمل جمعيات إنسانية غير حكومية تجهد ضمن امكاناتها المتواضعة لتغطية حاجات طالبي المساعدة، وجمعيات تربوية ضمن الطوائف تؤمن مقاعد مجانية لأبنائها. الشائع أن اللجوء الى المدرسة الرسمية يكون عادة خيار الأسر التي تحاول تجنب طلب المساعدة، ولكن عندما يصبح طالب المدرسة الرسمية هو نفسه يحتاج الى من يسد عنه رسم التسجيل ويبحث عن المتبرعين في المساجد ولدى السياسيين ورجال أعمال وأحزاب متمولة، فإن المشهد ينذر بأكثر من مأساة ويطرح سؤالاً عن سبب غياب المجتمع المدني الذي يحمي مصالح المجموعات ولا يوظفها في حسابات شخصية.