قبل يوم من موعد "الاحتفال" بالاعلان عن انطلاق مفاوضات الحل النهائي، رمى باراك شباك السيناريو الاسرائيلي المخطط له والمعد سلفاً لاخراج هذه المفاوضات وفقاً لما تقتضيه المصلحة الاسرائيلية. وغني عن القول الآن، بعد تكشّف شريط وقائع عملية التسوية التي ابتدأ تنفيذ برمجتها انطلاقاً من مؤتمر مدريد، ان الحل الدائم الوحيد الذي يمكن استخراجه من هذه العملية محكوم بحدود المشروع الاسرائيلي لانهاء القضية الفلسطينية واسدال الستار على ملفاتها. وقد استطاع باراك عن طريق اعادة فتح باب التفاوض على اتفاق "واي"، واستخلاص اتفاق "واي 2" من الفلسطينيين، ان يستحصل على افضل موضع لحشر الجانب الفلسطيني في نفق السيناريو الاسرائيلي ل"الحل الدائم". يبرز من بين ما استطاع باراك ان يستخلصه من الجانب الفلسطيني بواسطة اعادة التفاوض ثلاثة امور على غاية من الاهمية الاستراتيجية. اولها، انه استطاع ان يستخرج من الجانب الفلسطيني موافقة على ضرورة التوصل خلال خمسة اشهر الى "اتفاق اطار" يحدد الخطوط العريضة للحل الدائم المنبثق من عملية التسوية الحالية. وعدا عن ان هذا الاستخراج يطيح مرجعيات طالما تمسك بها الفلسطينيون نظرياً، مثل قراري مجلس الامن 242 و338، فإنه يفتح لاسرائيل الباب على مصراعيه لتثبيت وقائع "الامر الواقع" الذي فرضته على الارض الفلسطينية بالقمع والاحتلال، والانطلاق منها لغرض الحل الاسرائيلي الدائم للقضية الفلسطينية. اما الامر الثاني فيتلخص بأن اسرائيل استطاعت فرض التداخل بين تنفيذ المقتطفات المستأصلة من "المرحلة الانتقالية"، والتي انحسرت من خلال التعديلات المدخلة على اتفاق "واي"، والتفاوض على "اتفاق اطار" مفاوضات المرحلة النهائية والتداخل بين المسارين الانتقالي والنهائي مهم جداً لاسرائيل كونه يمنحها الافضلية والقدرة على ممارسة المزيد من الضغوط على الجانب الفلسطيني المتلهف على استمرار "المسيرة السلمية"، وزيادة مساحة الارض المسيطر عليها عبر ما تقبل اسرائيل بمنحه للسلطة الفلسطينية عبر "اعادة الانتشار". فالتداخل يربط بين استمرار التنفيذ الاسرائيلي لاتفاق "الواي" المعدلة في شرم الشيخ، وهو ما يريده الجانب الفلسطيني بقوة، وبين "تليين" الموقف الفلسطيني والقبول باتفاق اطار اسرائيلي للتفاوض على المرحلة النهائية. وقد عبّر باراك عن غبطته لنجاحه في تحقيق هذا التداخل في تصريح للاذاعة الاسرائيلية قال فيه: "ان اهم انجاز حققه اتفاق شرم الشيخ يتمثل بارجاء المرحلة الرئيسية من اعادة الانتشار في الضفة الغربية ثلاثة اشهر الى حين التوصل الى اتفاق حول اطار مفاوضات الوضع الدائم". ويعتبر تحديد سقف زمني قوامه عام واحد لانهاء مفاوضات الحل الدائم والتوصل الى اتفاق ينهي الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي ثالث الامور المهمة التي حققتها اسرائيل من اعادة التفاوض على اتفاق "واي". إذ ان تحديد موعد العام يضع ضغوطاً على الجانب الفلسطيني للتساوق مع الاطروحات الاسرائيلية، خصوصاً ان جميع الاطراف تعلم علم اليقين ان ايجاد حلول مقبولة لجميع القضايا الاساسية المؤجلة، التي تشكل صلب القضية الفلسطينية، خلال مدة عام واحد يعتبر ضرباً من ضروب الخيال. ومع ان الجانب الفلسطيني المعني الاساسي بإيجاد حلول مرضية للقضايا الاساسية المعلقة يعلم هذه الاستحالة علم اليقين، الا انه اوقع نفسه في المصيدة الاسرائيلية وبدأ يشعر منذ الآن بالضغط الذي ادى به الى خروج جديد عن المتطلبات المرعية في العمليات التفاوضية والبدء باطلاق تمنيات ليست فقط غير واقعية، وانما ايضاً ساذجة. فقد ورد على لسان مسؤول فلسطيني كبير كان يعقّب على امكان تعثر المفاوضات النهائية وعدم بلوغها النهاية المأمولة خلال فترة العام انه يعتقد بامكان "التوصل الى اتفاق حتى في مدة اقصر من هذه اذا كان الاسرائيليون جادين في تنفيذ القرار 242 الذي تم الاتفاق على انه مرجعية المفاوضات، وان هدف كل مفاوضات هو تطبيق بنوده كاملة" !. وكان هذا المسؤول لا يعلم حتى الآن عدم جدية اسرائيل ورفضها تطبيق القرار 242 كما يفسره العرب والفلسطينيون! واذا كان باراك يعلم مثل غيره ان فترة سنة لن تكفي على الاطلاق لابرام اتفاق نهائي يقبل به الفلسطينيون، واذا كان حقق قبولاً فلسطينياً على التفاوض للتوصل الى اتفاق اطار لمفاوضات المرحلة النهائية خلال مدة خمسة اشهر تنتهي في شباط فبراير المقبل، وحقق التداخل بين المرحلتين الانتقالية والنهائية ليتمكن من ممارسة الضغوط على الجانب الفلسطيني، فما الذي يبتغيه باراك من كل ذلك؟ يتلخص ما يريده باراك فعلاً بعدم رغبة اسرائيل في التوصل الى اتفاق نهائي عبر آلية التفاوض الحالية مع الجانب الفلسطيني، لأنها تجرّ تدخلاً عربياً واوروبياً، واميركياً. بل يريد باراك ان يماطل في عملية المفاوضات وان يستغلها لاستكمال فرض المخطط الاسرائيلي كأمر واقع على الارض الفلسطينية، وتحديداً في القدس والضفة. كما يريد من ناحية اخرى ان يحقق من المماطلة ارتخاء الاهتمام الدولي وتقليص الضغط باتجاه التوصل الى تسوية نهائية على المسار الفلسطيني، خصوصاً اذا امكن فتح باب المفاوضات على المسار السوري - اللبناني. ومع ان توجهات باراك تتلاقى كثيراً مع موقف نتانياهو في تحديد الاستراتيجية على المسار الفلسطيني تحديداً، الا ان رئيس الوزراء الجديد ابرع من سابقه في مجال العلاقات العامة. فعوضاً عن تعطيل المفاوضات وتنفيذ الاتفاقات من الجانب الاسرائيلي كما كانت عليه الحال خلال حكم نتانياهو، يريد باراك ان يظهر امام العالم بأنه المبادر الايجابي للتوصل الى اتفاق نهائي ويترك مهمة تقويض ذلك على الجانب الفلسطيني، الا اذا ارتضى الفلسطينيون الشروط الاسرائيلية للتسوية النهائية. فاذا قبل الفلسطينيون هذه الشروط يكون باراك قد حقق لاسرائيل مبتغاها في انهاء القضية الفلسطينية بأقل قدر من "الخسائر". واذا رفض الفلسطينيون يصبح اللوم موجهاً اليهم والضغط متجهاً نحوهم. وفي كلتا الحالتين يكون الفوز من نصيب رئيس الوزراء، الاستراتيجي البارع باراك. لتنفيذ هذه الاستراتيجية اتبع باراك سيناريو محكماً، فقد اوعز لوزير الاتصالات بنيامين بن اليعازر، احد مقربيه السياسيين، لتمهيد الطريق قبل افتتاح جلسة "الاحتفال" ببدء المفاوضات النهائية وتقليص التوقعات منها بالقول: "من الصعب الاعتقاد بأننا سنتوصل الى اتفاق حول المواضيع الخطيرة التي تمس جوهر النزاع في غضون سنة واحدة". وقد اتى ذلك بأكمله بسرعة، اذ سارع صائب عريقات الى الاجابة مصرّحاً بعزم الفلسطينيين "على بذل اقصى جهودهم للتوصل الى اتفاق اطار في غضون الاشهر الخمسة المقبلة". وبذلك سلّم الجانب الفلسطيني منذ مطلع المفاوضات النهائية بضرورة التوصل الى هذا الاتفاق - الاطار المطلوب فلسطينياً، مع ان الادعاء الفلسطيني كان دائماً يقول بأن ذلك موجود اصلاً في قرارات الشرعية الدولية! انبرى باراك بعد ان حقق الهدف الاول في استراتيجيته الحالية الى توجيه ضربته الاساسية. فقد صرح للاذاعة الاسرائيلية بنياته قائلاً: "اذا وصلنا الى اتفاق على اطار اتفاق الوضع النهائي يتضمن حلولاً للمشكلات الرئيسية فإننا نكون قد حققنا خطوة كبيرة للامام، وان لم نحقق ذلك وتوصلنا مع الفلسطينيين الى استنتاج ان الحل هو عبارة عن سلسلة من الاتفاقات المؤقتة طويلة الاجل حول معظم القضايا فسيكون هذا انجازاً مهماً". لا يريد باراك في واقع الامر التوصل مع الفلسطينيين الى ذلك الاستنتاج، لكنه يريد ان يقودهم اليه اذا رفضوا التسليم بالاطار الذي يريده مرجعية للمفاوضات النهائية، اي اذا لم يسلّموا بالحل الاسرائيلي للقضية الفلسطينية. فإذا تم التسليم انتهى الامر على ما تنبأ به صائب عريقات بأن الشهور الخمسة المقبلة ستشهد ولادة اتفاق الاطار الذي سيكون اسرائيلياً مشفوعاً بالموافقة الفلسطينية. اما في حالة الرفض الفلسطيني وتعثر التوصل الى مثل ذلك الاتفاق، وهو الامر المرجح، فان باراك سيقود المفاوضات النهائية لتصبح من جديد انتقالية، وسيسعى وهو مستمر في فرض الوقائع التهويدية على الارض الفلسطينية الى توريط الفلسطينيين في مسار تفاوضي يفكك القضايا الجوهرية العالقة عن بعضها البعض، ويسير باتجاه اعادة مرحلة التفاوض على كل منها على حدة. وبالتالي يتم تفتيت اركان القضية الفلسطينية والاستفراد الاسرائيلي بكل واحد منها على حدة. عندها سيتجه الضغط الدولي، وحتى العربي، باتجاه ضرورة "حلحلة" الازمة، والعمل على التوصل الى حلول جزئية، ستدعى انتقالية، لكل مسألة من المسائل الجوهرية، كالقدس واللاجئين والاستيطان والسيادة والحدود، وبدأ باراك عملياً التمهيد لهذا السيناريو عن طريق التلميح بامكان قبوله دولة فلسطينية رمزية مقابل تفكيك المسارات التفاوضية على القضايا الجوهرية عن بعضها بعضاً، وتأجيل مرحلة الاتفاقات بشأن كل منها. انها مصيدة باراك، "الشريك" الجديد في "سلام الشجعان". * استاذ العلوم السياسية، جامعة بيرزيت.