تثير التجاذبات الحاصلة بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني التساؤلات حول مصير المفاوضات بينهما على قضايا الحل الدائم التي تتعلق بمستقبل القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية، وغير ذلك من القضايا السيادية. فالطرفان معنيان بدءاً بتعيين الخطوط الحمر التي يتوقف عندها كل منهما، من دون ان يعني ذلك انهما غير مستعدين للمفاوضة في شأنها للتوصل الى حلول وسط، أو ربما الى استطاعة طرف منهما إملاء حل معين على الطرف الآخر، سواء عن طريق الأمر الواقع أو عن طريق المفاوضات. فمن جهتها تؤكد اسرائيل ان ثمة خطوطاً حمراً لا يمكن المساس بها، تتمثل بعدم العودة الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، وبقاء القدس موحدة تحت السيادة الاسرائيلية، والحفاظ على غالبية المستوطنين في كتل استيطانية، وعدم السماح بتواجد جيش أجنبي غرب النهر، وبالطبع لا عودة للاجئين الفلسطينيين الى المناطق التي شردوا منها في العام 1948. وتنطلق اسرائيل في صوغها للخطوط المذكورة من أولوية أمن اسرائيل، ومن ضرورة التخلص من العبء السياسي والأمني والأخلاقي الناجم عن الاحتلال والسيطرة على شعب آخر، عبر الفصل بين الشعبين: الاسرائيلي والفلسطيني، ومراعاة الاجماع الداخلي حول قضية التسوية النهائية. وكان ايهود باراك قد عبّر عن التزام حكومته بهذه النقاط بعيد انتخابه رئيساً لوزراء اسرائيل، وكرر هذا الالتزام في الكلمة التي ألقاها في الكنيست الاسرائيلية يوم 4/10/1999. في مقابل ذلك يبذل الطرف الفلسطيني جهداً كبيراً للتأكيد على أنه هو أيضاً لديه خطوط حمر لا يستطيع التنازل عنها، لأن هذا التنازل قد يودي بالعملية السلمية، أو يفقدها صدقيتها، على الأقل. فقد أكد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، في خطابه أمام الجمعية العمومية للامم المتحدة 23/9/1999 على ان السلام والاستقرار يتطلب وضع حد فوري لسياسة الاستيطان، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف، وتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين بتنفيذ القرار 194 الذي ينص على حقهم في العودة الى وطنهم، معتبراً إنشاء دولة اسرائيل، على حساب اللاجئين كارثة ألمت بالشعب الفلسطيني، انتزعته من أرضه وفرّقته في الشتات في واحدة من أكبر المآسي الانسانية في القرن العشرين. وقد طالب عرفات المجتمع الدولي بالتدخل للضغط على اسرائيل لإيجاد حل عادل لهذه المأساة. وكان محمود عباس أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قد اكد على هذه النقاط في كلمته التي ألقاها في افتتاح مفاوضات قضايا الحل الدائم 13/9. وقد ذهب فيصل الحسيني المسؤول عن ملف القدس في السلطة الفلسطينية أبعد من ذلك بتأكيده ان القدسالشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية، وانها لن تكون موضوع بحث في المفاوضات النهائية، لأن وضعها محسوم بموجب القرار 242، وان التفاوض سيتناول الوضع النهائي للقدس شرقاً وغرباً، بغية التوصل الى انسحاب اسرائيل من الشطر الشرقي ومنعها من ادعاء السيطرة على الشطر الغربي. يقول الحسيني: "إننا نمتلك 70 في المئة من القدس الغربية كشعب وكمؤسسات، وجزء من ال30 في المئة المتبقية هو أراض حكومية ورثها الاسرائيليون عن الانتداب، لكن لا يعني ذلك انها أصبحت من حقهم لأن القدس الغربية ليست من حق اسرائيل لأنها جزء من منطقة دولية كما حددت في قرارات الاممالمتحدة. في كل هذه التصريحات والمواقف يحاول الطرف الفلسطيني التمييز بين مفاوضات المرحلة الانتقالية وبين مفاوضات الحل الدائم، للايحاء بأنه اذا كان قد اضطر لأسباب ذاتية أو موضوعية، الى التنازل في مفاوضات الحل الانتقالي فإنه غير مضطر هذه المرة الى ذلك، معتبراً ان التنازلات السابقة لم تجحف بالقضايا الاساسية المطروحة على مفاوضات الحل الدائم. ويؤكد الطرف الفلسطيني في خطابه السياسي التفاوضي بأنه لن يقبل بأقل من الحقوق التي اقرها المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني، وانه من جهته قدم تنازلات وتضحيات كبيرة، من أجل عملية التسوية، وبات على الطرف الاسرائيلي دفع ما عليه في سبيل استقرار هذه العملية. يقول محمود عباس: "ان أي قائد فلسطيني لن يقبل أو يجرؤ ان يتنازل عن شبر واحد من أراضي 67، لقد قمنا بتنازل تاريخي عن حقوقنا، والحل الوسط على حل وسط لن يكون مقبولاً". وهذا ما يؤكده نبيل شعث بقوله: "الناس فهمت مرونتنا الزائدة في المرحلة الانتقالية فهماً خاطئاً. في الحل الانتقالي كنا نراكم، وبدأنا من الصفر، وكل شيء نافذة اضافية الى الحل النهائي. أما في الحل النهائي فإن أي شيء نتراجع عنه يخصم من حقوقنا". وبدوره فقد اعتبر فيصل الحسيني لاءات باراك المعروفة مجرد تصريحات تفاوضية مذكراً بلاءات اسرائيل السابقة: لا لمنظمة التحرير لا لدولة فلسطينية لا وجود للشعب الفلسطيني، قائلاً: "ليقولوا ما يشاؤون ونحن حاضرون ولنا مواقف ولنا شعب على الأرض". ان مجمل هذه المواقف الصادرة عن المسؤولين الفلسطينيين، هي على غاية في الأهمية في الصراع التفاوضي بين الطرفين، وهي مواقف من شأنها ان تعيد التوازن الى العملية التفاوضية بعد الاجحافات التي تضمنتها اتفاقات الحل الانتقالي. ويمكن القول انه من المستغرب ان لا تلفت هذه التصريحات والمواقف انتباه المعارضة الفلسطينية للبناء عليها وتدعيمها ولأخذها حجة على السلطة الفلسطينية! في حين انها أثارت الجانب الاسرائيلي، حيث قام وزير الخارجية الاسرائيلي ديفيد ليفي باستنكار هذه التصريحات وحتى انه طالب وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت بالضغط على الفلسطينيين للاقلاع عنها. ولكن على أهمية الموقف السياسي، فإنه ما ينبغي التأكيد عليه هنا، هو إدراك الفرق الاساسي بين الخطوط الحمر التي يضعها الاسرائيليون والخطوط الحمر التي يضعها الفلسطينيون في الصراع الجاري بين الطرفين، على كل شبر من الأرض وعلى كل قضية صغيرة أو كبيرة. وهذا الفرق لا ينبثق من ارادة هذا الطرف أو ذاك وانما من موازين القوى، ومن طبيعة الأوضاع على الصعيدين الدولي والاقليمي والمعطيات الناجمة عنهما إزاء عملية التسوية. وبالطبع فإن هذا الفرق حاضر في ذهن القيادة الفلسطينية وفي صراعها التفاوضي مع الاسرائيليين، ولكن ما يغيب عن بالها حتى الآن هو ضرورة بناء العملية التفاوضية على سياسات حقيقية وراسخة. طوال المرحلة الماضية تجاهلت السلطة، سواء العوامل التي من شأنها ان تقوي أوضاعها في مواجهة الطرف الاسرائيلي، أو العناصر التي تعزز صدقيتها في الشارع الفلسطيني، مبررة كل ذلك بعملية التسوية التي تأخذ كل اهتمامها وجهدها وامكاناتها. لكن المهم الآن ان السلطة وهي أمام استحقاق مفاوضات الحل الدائم معنية بالعمل على مراجعة السياسات والأولويات وبخاصة اشكال إدارتها للمهمات الكبيرة أو الصغيرة التي تقع على عاتقها. واذا كانت هذه السلطة مثلاً قد انشغلت خلال الفترة السابقة بعملية التفاوض فهي معنية بنفس القدر ببناء المرتكزات الاساسية للكيان الفلسطيني الناشئ، بالانتقال من مجرد النضال لإعلان الدولة الفلسطينية الى الشروع بالعمل على قيامها فعلاً، وذلك من خلال انجاز مشروع الدستور والاعداد لانتخابات تشريعية جديدة، وإيجاد آلية لاحترام الفصل بين السلطات. وإذا كانت هذه السلطة انشغلت بجلب الاموال من الدول المانحة وتشغيل عشرات من الألوف في دوائرها فإنها معنية بإيجاد الآليات والوسائل التي يمكن ان تدب الروح في القطاعات الاقتصادية الفلسطينية، بخاصة في البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية الانتاجية، على اساس من الشفافية وديموقراطية الادارة، ومكافحة الفساد. واذا كانت قد انشغلت بتوطيد سلطتها في المجتمع وبناء الاجهزة التي تمكّنها من ذلك فإنها معنية اليوم بتقليم أظافر هذه الاجهزة والحد من تجاوزاتها وإعادة بناء العلاقة على اساس الثقة المتبادلة القائمة على اساس احترام القانون والحريات باعتبار ذلك اساساً وضرورة لتوطيد بناء دولة المستقبل من جهة، وأساساً لمواجهة مختلف التحديات الاسرائيلية، من الجهة الثانية. في هذه المرحلة ثمة مهمات كثيرة، صغيرة وكبيرة، تنتظر السلطة الفلسطينية وكلها لا تقل في أهميتها عن العملية الصراعية التفاوضية الجارية، التي هي ستكون بلا أدنى شك عملية طويلة ومتدرجة ومريرة. وفي النهاية صحيح انه لكل طرف خطوطه الحمر وغيرها ولكن الوقائع والتطورات والمداخلات الذاتية والخارجية هي التي تساهم في صوغ الحقائق والمستقبل، اما المتفاوضون فهم يضعونها على الورق فقط. * كاتب فلسطيني، دمشق