أصدر الرئيس العراقي صدام حسين في حزيران يونيو 1999 أمراً بالعفو عن المدرسين الجامعيين الذين غادروا العراق بصورة غير مشروعة وإسقاط الاجراءات القانونية المترتبة عليهم بعد عودتهم إلى العراق. ونشر هذا العفو في صورة "مكرمة من الرئيس صدام"، أعقبته تصريحات مسؤولين في وزارتي الخارجية والتعليم العالي توضح إعلامياً مزايا "المكرمة" والاجراءات السريعة الجديدة لتجديد جوازات السفر العراقية في السفارات. وقبل أن نناقش هذا القرار الذي يمس الألوف - أو أكثر - من العقول العراقية غادروا بلدهم لظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو لإنعدام ضمانات الحياة ومنها انتهاكات حقوق الإنسان أو لظروف عدة لا يتسع المجال هنا لذكرها، لا بد من القول إن هناك حوالى ثلاثة ملايين عراقي أو أكثر غادروا العراق منذ عام 1980، خصوصاًَ بعد حرب الخليج الثانية وكانت المغادرة قهراً أو طوعاً أو تهجيراً خلافاً لقواعد القانون الدولي وانتشروا في بقاع الأرض بأوصاف متعددة. كما أن البعض منهم غادر ضمن وفود رسمية وفضل البقاء في المنفى وعدم العودة للعراق. وإذا كانت هناك ظاهرة معروفة من المثقفين العرب تخص هجرة العقول من البلدان العربية لأسباب كثيرة، لعل أهمها تباين احترام حقوق الإنسان في هذه البلدان، عدا الظروف الاقتصادية والسياسية والعوامل الأخرى، فإن الذي يلفت الانتباه في هجرة العقول العراقية هو محاولة "مسك الحقيقة من ذيلها" كما يقال، من دون الوقوف على الأسباب الجوهرية للمشكلة وتدارك حقيقة الخطر على مستقبل العراق وأجياله في هدر هذه الثروة التي ليس من السهل تعويضها. فقد عانى لبنان من هذه المشكلة بعد الحرب الأهلية التي تركت آثارها على الإنسان والدولة والمجتمع وعلى رؤوس الأموال أيضاً لعدم توافر الاستقرار آنذاك. وعانت الجزائر أيضاً من هذه المشكلة بفعل عوامل عدة منها العامل السياسي والاقتصادي وعوامل أخرى. في ما يلي نتعرف أولاً على المقصود بالعقول العراقية، وثانياً بيان أسباب هجرتها، وثالثاً إعطاء بعض الحلول والتصورات، عسى أن تنفع في حل المشكلة وتسهم في الهجرة المعاكسة إلى العراق أو إلى العالم العربي. ليس المقصود بالعقول المهاجرة حملة شهادة الدكتوراه أو ممن يحملون الشهادات الجامعية العليا كالماجستير أو الدبلوم فقط، وإنما نقصد بذلك كل كفاءة وخبرة في المجالات الإنسانية والعلمية. فهناك خبراء يحملون شهادة البكالوريوس مثلاً لكنهم من ذوي الخبرات أو التخصصات ويمكن اعتبارهم العقول المهاجرة. ونستطيع القول إن الأشخاص الدين يعملون بعقولهم ممن أثبتوا كفاءة وكانت أو صارت لهم خبرات علمية أو أكاديمية أو فنية يمكن اعتبارهم من العقول المهاجرة من العراق. بل نعتقد ان كل عراقي غادر الوطن هو عقل وطاقة وقوة لا يمكن مبدئياً أن تستغني عنها الدولة أو المجتمع. وما قرارات الحرمان من المواطنة إلا مخالفة خطيرة لحقوق الإنسان وللدستور والقوانين النافذة. وهي قرارات باطلة، لأن معاملة البشر على أساس الدين أو العنصر أو اللغة أو المذهب أو الرأي السياسي أو العشيرة أو المنطقة الجغرافية مخالفة للدستور والقانون ولقواعد حقوق الإنسان. ونعتقد بأنه أياً كان شكل المغادرة من العراق فهي ليست جرماً خطيراً، على رغم وجود النص القانوني الذي لا مبرر له، بل نعتقد بضرورة تعديل النص الذي يحظر مغادرة العراقي أو غيره إلا من طرق أو بوابات المغادرة، فلم تعد الحدود تعني شيئاً في ضوء التطورات العلمية ووسائل الاتصال الحديثة اليوم، بل ان دولاً كثيرة في العالم لم تضع قيوداً تذكر على حدودها بالصورة التي نراها اليوم في العالم العربي، إنطلاقاً من احترام حق الإنسان في التنقل بحرية. ومن حق البلدان أن تراقب حدودها جيداً لمنع الجريمة، كالتهريب أو الحفاظ على أمنها الوطني أو حماية اقتصادها، إلا أن نظرة سريعة إلى طبيعة العلاقات الجديدة اليوم بين الدول، خصوصاً في أوروبا، تكشف عن عدم أهمية القيود الصارمة على البشر في السفر بحرية. وقد عقدت مؤتمرات ضمن نشاطات جامعة الدول العربية أو غيرها عن هذه المشكلة، غير أن هناك حقائق ربما لم يتم التطرق إليها لاعتبارات عدة أو تم التطرق إليها، إلا أن أسبابها ارجعت، في ما يخص العراق، إلى الحصار الاقتصادي فقط المفروض على الشعب العراقي، أو لأسباب أخرى، وهي حجج غير دقيقة. بدأت ظاهرة هجرة العقول العراقية منذ عام 1963، أي بعد سيطرة حزب البعث على السلطة في شباط فبراير من العام المذكور، وما تبع ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان واعتقالات وتصفيات جسدية في الوسط الجامعي، ولأطباء ومثقفين عراقيين ولشرائح مختلفة، ويذكر الكثيرون جرائم ما سمي ب"الحرس القومي"، فلم يسلم كثير من الأموال أو الأعراض أو الحقوق أو الحريات من التعدي أو الانتهاك. ويذكرون ما تعرض له العالم العراقي المعروف الدكتور المرحوم عبدالجبار عبدالله رئيس جامعة بغداد، وكثيرون غيره من أبناء العراق الأحياء والأموات المعروفين في عقولهم وشخصياتهم. وبقيت حالات الارهاب وإنعدام الحقوق والتصفيات الجسدية وانعدام المساواة والظلم والقيود هي الأساس في الجامعات العراقية والمؤسسات العلمية كما في المجتمع العراقي. وأمام استفحال هذه الظاهرة أصدر المرحوم الرئيس أحمد حسن البكر قانون عودة الكفاءات العراقية لعام 1975، وبموجبه سمح لمن يرغب من العراقيين العاملين أو الدارسين في خارج العراق فقط بالعودة إلى العراق مع بعض الحوافز. ولهذا عاد البعض إلى العراق ولم يرغب البعض الآخر بالعودة، بل إن الكثير ممن عاد آنذاك شد الرحال وغادر العراق ثانية بعد فترة أو قبيل اشتعال فتيل الحرب ضد إيران عام 1980، تاركاً وراءه أمواله وحقوقه وعقاراته لعدم توافر المناخ الفعلي للعمل بحرية وفق ضمانات قانونية. ومن الخطأ أن يتصور النظام ان الامتيازات المادية كافية لوحدها لعودة العقول إلى العراق أو استمرار بقائها. وبعد تسلم الرئيس صدام حسين السلطة عام 1979 صار العراق أشبه بسجن كبير تنعدم فيه الحرية وتسود فيه شريعة الغاب وينعدم فيه احترام الدستور والقانون. فكم من العلماء والمفكرين ومن أصحاب العقول ومن الطلاب اعدم لأسباب تافهة أو لوشاية أو لرأيه السياسي المناهض أو لرفضه الحرب، وكم من اختفى ولا يعرف مصيره حتى الآن، وهناك من فصل من عمله أو عوقب من دون ذنب أو أحيل إلى التقاعد في وقت مبكر عقاباً. وحين اشتعلت نار الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980 تعطلت القوانين وسادت الاستثناءات والقرارات الخاصة وانتشرت قوانين عسكرة الدولة والمجتمع مما ترك أثره البليغ على هجرة العقول التي لا يمكن أن تعيش في ظل أجواء الحروب وانعدام القوانين. إلا أن المشكلة التي دفعت بالعراق إلى نفق طويل مظلم هي احتلال دولة الكويت عام 1990 وما تبع ذلك من تفضيل العيش في المنفى على العيش في الوطن طوعاً أو قهراً. فالحريات بوجه عام والحريات الاكاديمية بوجه خاص لا توجد مطلقاً في العراق وفي ذلك خرق واضح للمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وافق عليه العراق. وغادر العراق بعد رفع قيود السفر عام 1991 مئات الآلاف من العراقيين من مختلف التخصصات. واحتل الكثير منهم مواقع وظيفية وعلمية ممتازة، بفعل قدراتهم العلمية في أميركا وأوروبا وغيرهما من بقاع العالم، ولا أظن ان هناك احصائية دقيقة، إلا أنه من المؤكد أن العراق حقق أعلى رقم في عدد العقول المهاجرة بعد أن كان لبنان يحتل موقع الصدارة في منتصف السبعينات. ونعتقد ان إعلان الحكومة العراقية بأن العدد المهاجر من هذه العقول هو مجرد خمسة آلاف شخص غير صحيح، وان الرقم الحقيقي أكبر. من ناحية ثانية، كان من أخطر المظاهر في الجامعات العراقية مثلاً شيوع سياسة التمييز الطائفي حسب العنصر أو العشيرة أو المذهب أو العرق أو الدين، والتمييز في البعثات وفي حضور المؤتمرات خلافاً للدستور وللاتفاقيات الدولية ولحقوق المواطنة، بل إن انعدام المساواة في الدخل الشهري بين أصحاب الكفاءة ذاتها مخالفة خطيرة للدستور وللقوانين والاعلان العالمي لحقوق الإنسان وتسبب الشعور بالظلم والتمرد. ويعود هذا الاختلاف إلى الانتماء للحزب أو للدور الأمني الذي يؤديه الاستاذ الجامعي أو عميد الكلية أو رئيس القسم الذي يغرد مع السرب الشمولي، فالاستاذ البعثي يتميز براتب أعلى وامتيازات كبيرة وخاصة تختلف عن غير البعثي. وتداخل العمل الأكاديمي والعمل السياسي في العراق. وجرى تسييس مؤسسات الدولة، بل عسكرتها. ويحضرني قول أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في 1990، مخاطباً أساتذة الجامعات: "نحن لا نرغب بمن يفكر في عقله، وإنما نريد من يفكر في قلبه معنا". لذلك فإن القيم الأكاديمية التي عرفت بها الجامعات العراقية انهارت تماماً بعد عام 1990، ما دفع بالعديد من الأكاديميين، بالطبع، إلى ترك العراق أو عدم العودة وظل الباقي يصارع من أجل البقاء. وتحولت الجامعات والمؤسسات العلمية إلى مراكز أمنية ينتشر فيها المخبرون في كل زاوية بحجة حماية الأمن الوطني من الأعداء، ففي جامعة الموصل مثلاً يوجد سجن خاص وغرف للتحقيق مع الطلاب والأساتذة المشكوك في ولائهم أو ممن وردت في حقهم تقارير حزبية أو وشايات. وهناك مكاتب دائمة لضباط الأمن داخل الحرم الجامعي والمؤسسات العلمية. عدا عن حجب جميع وسائل الاتصال مع العالم الخارجي مثل الانترنت والفاكس والاشتراك في المجلات والصحف العربية والأجنبية، وفرض الرقابة على المراسلات والكتب الواردة أو الصادرة، وتحريم الاتصال مع الأساتذة الأجانب أو العرب. ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه، فقد اعدم سقراط بتهمة افساد عقول الشباب حينما ناقش طرقاً غير مألوفة في تحديد مفهوم الديموقراطية. ولهذا ضاقت الدنيا في نفس افلاطون بعد إعدام سقراط، فهجر أثينا إلى كثير من البلدان هرباً من الطغيان، فقد عرف جيداً كيف يعيش الطغاة في بذخ وظلم وعدوان وحرس ووشاة ومنافقين، واكتشف ان الطغاة لا يحترمون القوانين لأنها تقيد سلطاتهم المطلقة. ولم يسلم الإمام أبو حنيفة من ظلم الظالمين ولا من جهل الجاهلين حين تعرض إلى التعذيب والاضطهاد ودس السم له في النهاية لأنه رفض ولاية القضاء، كما تعرض الإمام مالك إلى الظلم والضرب لمواقفه. وتعرض الإمام أحمد بن حنبل أيضاً للضرب والتعذيب والسجن للتأثير عليه كي يغير آراءه. ولا ندري هل ان التاريخ يعيد نفسه في العراق ثانية - بلاد النهرين ومهد الحضارات البشرية - بعد آلاف السنين؟! نعتقد ان هذه العقول المهاجرة التي تركت العراق لا يمكن لها أن تعود، مهما كانت المغريات أو الامتيازات المالية أو قرارات الاعفاء عن ما يسمى بالأخطاء التي ارتكبوها، ما دامت طبيعة النظام السياسي في العراق لم تتغير. ولا نعتقد أن للتظاهرات الإعلامية مثل دعوات المغتربين إلى العراق ستفلح في تشجيع العقول أو الطاقات للعودة إلى الوطن بفعل عوامل كثيرة قد لا يتسع المجال لذكرها، ولهذا فهناك من يفضل العودة إلى بلد عربي مثل الأردن أو المغرب على سبيل المثال، أو إلى بعض البلدان العربية الأخرى والاستقرار فيها حيث ينعم المواطن بالحرية والامان واحترام القانون وضمانات التقاضي والمؤسسات العلمية المتطورة، أكثر من التفكير للعودة إلى العراق في الظروف الحالية. كما لا يمكن اغفال حقيقة ان الحصار الاقتصادي ضد الشعب العراقي جريمة ضد الإنسان وهو عقوبة قاسية ضد الأبرياء، تركت آثارها على عموم الشعب العراقي ومنهم الشباب والعقول والخبرات، ولهذا فإن استمراره هو عمل غير اخلاقي. وفي هذا الصدد نشير إلى أن النظام استغل معاناة الشعب العراقي من العقوبات الاقتصادية للأغراض الدعائية. وقد اعتبر ان هذه المعاناة للإنسان في العراق سببها العقوبات الدولية، متجاهلاً ان السبب الحقيقي هو سياسة النظام الخاطئة داخلياً وعربياً ودولياً. فالعراق - طبقاً لتقرير الهيئة المشكلة من مجلس الأمن الدولي لتقويم الوضع الإنساني في كانون الثاني يناير 1997: "بات الآن من أعلى البلدان التي تحصل فيها معدل الوفيات للأطفال في العالم، وان نسبة السكان الذين يستطيعون بصورة منتظمة الحصول على مياه نقية لا تزيد على 41 في المئة، وان اعتماد السكان على الإمدادات الإنسانية زاد من سيطرة الحكومة على مقدراتهم. وهذا من العوامل التي دفعت وتدفع إلى الهجرة من العراق. وذهبت منظمة العفو الدولية في تقريرها الرقم 99-144 الصادر في 29 تموز يوليو 1999 إلى تأييد توصيات هيئة الشؤون الإنسانية التابعة لمجلس الأمن الدولي بضرورة الاهتمام العاجل للوضع الإنساني في العراق رقمها 8-1997-12CE. وهذا الانهيار للوضع الإنساني من العوامل التي دفعت إلى مغادرة العقول العراقية للعراق أو تفضيلها البقاء في المنفى، خصوصاً أن سياسة النظام في عسكرة الدولة والمجتمع ما تزال مستمرة، وامتدت لتطاول الأطفال ممن تراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً في إجبارهم على الدخول في معسكرات والخضوع للتدريب القاسي، وهو ما يخالف اتفاقية حقوق الطفل والدستور العراقي. * أستاذ جامعي عراقي مقيم في السويد