لم تستقر الحياة الدستورية في العراق طوال نصف قرن من الزمان، إذ صدرت سبعة دساتير خلال هذه الفترة، وهي: القانون الأساسي العراقي الصادر في 21/3/1925 الذي عُدل في تموز يوليو 1925 ثم في تشرين الأول اكتوبر 1943، ثم دستور تموز عام 1958 وتبعه دستور نيسان ابريل 1963 ثم دستور 22 نيسان عام 1964ودستور 29 نيسان 1964 ثم دستور أيلول سبتمبر عام 1968 وآخرها دستور تموز عام 1970 الذي تعدل مرات من دون أن تلحظ أي حرمة لقواعده حتى الآن، إذ ما يزال الكلام عن الدستور الدائم والتعددية السياسية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان من الجرائم العمدية ضد النظام وكلاماً غايته تخريب الوطن. وحين نشر الدكتور غسان العطية - مشكوراً - مقالاً في "الحياة" ص10 يوم 28 أيار مايو الماضي "مقترحات في الوضع الدستوري لعراق ما بعد نظام صدام"، ترددت كثيراً قبل التعقيب على المقال لأسباب ليست خافية على من ذاق الظلم والطغيان. إلا أن محبتي لوطني الجريح دفعتني أن أخط بعض الأفكار والحقائق لمن يتجاهل مأساة شعب الرافدين في عصر صار فيه مقياس رقي الشعوب في مدى الاحترام الطوعي للقوانين والاتفاقات الدولية وفي خضوع الحكام والمحكومين للقانون. خرافة الدستور الدائم في عام 1976 حاور الرئيس صدام نائب الرئيس البكر الملقب آنذاك "السيد النائب" السيد عامر عبدالله وتجاذب معه الحديث عن القوانين ودور المرأة الحقوقي والقواعد الأميركية في كوبا. وكانت الجبهة الوطنية مع الشيوعيين في حينها في مرحلة شهر العسل. وقبل أن يعقب "السيدالنائب" على كلمات الحقوقيين العراقيين، كان وزير العدل السابق حسين جميل طرح فكرة كشفت خرافة "الدستور الدائم". واتذكر أنه تجرأ في طرح ضرورة وجود دستور دائم للعراق وإنشاء محكمة دستورية عليا تراقب تطبيق القوانين وشرعيتها الدستورية إلى تفعيل دور المنظمات التي تحمي حقوق الإنسان. وطرحت السيدة المحامية أديبة الشبلي موضوع حقوق المرأة وتفعيل دورها في الدولة والمجتمع العراقي. وعقب السيد النائب آنذاك بأن الرأي الجريء لا توجد عليه ضريبة، وأضاف: "ليس لدينا شيء اسمه دستور دائم" والدستور الدائم هو بدعة غربية لا مكان لها في الأنظمة الثورية. وان القوانين هي انعكاس للأفكار والمصالح الاقتصادية السائدة في المجتمع ولهذا فإنها تتغير وليست ثابتة ولا نسمح بوجود فكرة "الدستور الدائم" بيننا ما دامت القوانين هي من صنعنا. كما أن قضية المرأة العراقية سنوليها كل الاهتمام، لكننا لا نريد فتح جبهة مع الرجعية الآن! الدستور الدائم عام 1988 مع انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية في 8/8/1988، كانت بيوت العراقيين مثخنة بالجراح، دعت القيادة العراقية إلى فتح صفحة جديدة للبلاد واستيعاب الدروس والاستفادة من بدايات تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار ديكتاتورية شاوشيسكو. طرحت مرة أخرى فكرة "الدستور الدائم" و"التعددية السياسية" مع التذرع بأن الحرب هي السبب في تأخير إنشاء دولة القانون والمؤسسات الدستورية. ووقع الاختيار على مجموعة من أساتذة القانون في كلية الحقوق في جامعة بغداد للحديث عن تصورات الدستور الدائم، وكنت واحداً من المتحدثين عن الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدستور الدائم لدولة القانون، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فاكتشفنا عدم الجدية منذ اللحظة الأولى. فالحضور من الأجهزة الأمنية جاء مع مجموعة من القيادة لسماع "من سيقع في الفخ". وكان أول من وقع أحد السائلين، وهو من طلبة كلية الحقوق المتفوقين في الدراسة، المعقبين على "ضمانات تثبت اخلاص عضو مجلس قيادة الثورة واحترامه للدستور الدائم"، فهرب بجلده إلى الأردن. لم نلحظ في حينها أي جدية نحو بناء دولة عصرية تكون للقانون حرمة وللدستور قدسية ولحقوق الإنسان قيمة فعلية ويسود فيها مبدأ المساواة ويخضع للقانون القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم. لهذا لم نجازف بأرواحنا لقول ما نؤمن به، ولم تمض إلا أشهر معدودة حتى حصل الزلزال بدخول القوات العراقية إلى دولة الكويت، ولتقع الكارثة التي ما بعدها من كارثة بسبب التفرد في الرأي والغرور. ويعرف الجميع مدى الانهيار التام في كل شيء، بسبب هذا الخطأ الجسيم، خصوصاً تعطيل الدولة وقوانينها وانعدام ضمانات التقاضي وتعطيل قواعد الدستور وتفشي الرشوة والرذيلة وانهيار التدرج التشريعي وانعدام الحرية الأكاديمية والخراب في مناحي الحياة المختلفة. تصورات غسان العطية لا شك في أن الدكتور العطية من الأكاديميين المعروفين في العراق وطرح مقترحاته في المشروع الدستوري لعراق ما بعد صدام انطلاقاً من خبرته العلمية. ويلاحظ أن المقترحات انحصرت في بيان الشكل السياسي للدولة العراقية وكيفية تصريف شؤونها بعد صدام من دون أن تذكر الأسس الاقتصادية والاجتماعية ومسؤولية رئيس الدولة عن أفعاله أو خيانته للقسم والوطن. فرئيس الدولة لا بد أن يحاسب أمام القانون ويخضع له وهو ليس فوقه. وجرت الأعراف على أنه يخضع للمسؤولية أمام المحكمة الدستورية أو مجلس الأمة أو مجلس الوحدة الوطنية أو غير ذلك، وذلك لكي لا تتكرر ظاهرة التفرد بالسلطة وارتكاب الأخطاء المدمرة على الشعب. ورئيس الدولة هو إنسان ولا بد أن ينتهي دور الشخصنة وعبادة الفرد والأصنام. ولم يذكر مسألة إبتعاد أو فصل الجيش عن السياسة، إذ لا يعقل، بعد هذه التجارب المريرة، أن يسمح للعسكريين التدخل في العمل السياسي وتكرار الانقلابات العسكرية. فالعراق لم يعد يتحمل المزيد من المعاناة، ولا بد من تأسيس قواعد المجتمع المدني التي تحتاج إلى وقت طويل تكون غايتها بناء الإنسان واحترام حقوقه الأساسية بعد تغييب لها. إن الآراء والمقترحات الواردة في مقال العطية تستحق كل الاهتمام، لأنها جاءت من خبرة جامعية طويلة وتجارب مريرة، واستكمالاً لها يجب العمل على إعداد مشروع الدستور الدائم الأسس العامة وبيان الأسس السياسية وشكل الدولة والأسس الاقتصادية والأسس الاجتماعية والنص على تعطيل أي قانون يخالف الدستور مع تفعيل دور المحكمة الدستورية العليا. كما لم يذكر الدكتور العطية حق العراقيين الثابت في الحصول على التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم سواء ممن هم في داخل العراق أم ممن هم في المنافي والمهجر. وهذا الأمر من المبادئ الدستورية العليا. * حقوقي عراقي مقيم في السويد.