يؤثر عن شاعر في بلاد الرافدين أنه نظم أحد أرق بيوت شعر الغزل عند العرب «لا يعرف الشوق إلا من يكابده// ولا الصبابة إلا من يعانيها». وينسب إلى عراقي عُرِفَ بلقب «الأبله» في الإشارة إلى توقد ذهنه وشدة ذكائه، وأُعطي اللقب من باب التسمية بالضد، وهو أمر كان شائعاً لدى العرب قديماً. والأرجح أن البروفسور نادر عبدالغفور أحمد القاسم (مواليد مدينة البصرة- 1951)، يعرف جيداً الشوق إلى العراق، بل يكابده ويعاني توقاً يكاد لا يهدأ لترابه وشعبه. ويختص القاسم في الفيزياء والهندسة الكهربائية، وهو أستاذ محاضر في جامعات بريطانية، وصاحب 5 براءات اختراع، ومؤلف كتب علمية عدة حمل أحدها عنوان «تقنية الطلاء الأيوني» فكان أولاً عن ذلك الموضوع. وإضافة إلى قدراته العلمية، لم يشأ القاسم أن «يتهرب» من وطنه العراق المقيم في ضميره ووجدانه، فتصدّى لإجراء دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية المفكرة وكيفية استثمارها لخدمة عراق المستقبل. وأصدر كتاباً بعنوان «العقول العراقية المهاجرة: بين الاستنزاف والاستثمار» الذي أصدرته «مؤسَّسة الرافد». ويتضمن الكتاب «بعض المقترحات والملاحظات التي تهدف إلى وضع اللبنات السليمة لتخطيط استراتيجية واضحة المعالم وواقعية التطبيق، لمشروع الاستفادة من العقول والكوادر العراقية المهاجرة إما بواسطة إعادتها للعراق أو استثمار طاقاتها الإبداعية عن بُعد» (ص8). لم يعُد خافياً مكامن العِلَل المُسببّة في ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان العربية إلى الغرب، خصوصاً الولاياتالمتحدة. إذ تشمل فظاظة الأنظمة الحاكمة عربيّاً وتغييبها قسراً أو قصداً خطط التنمية، وتمركز التفوق العلمي والاقتصادي والتطور في بلدان الغرب وغيرها. وتساهم تلك المعطيات في استدامة الأسباب المؤدية لهجرات العقول العربية إلى الغرب المتفوق الذي يتميز أيضاً برصد موازنات ضخمة للبحوث العلمية فيه. وتبلغ تلك الأموال في الولاياتالمتحدة قرابة 13 بليون دولار سنوياً (ص17) في حين لا تتعدى ال5 في المئة في بلداننا العربية التي تعاني أيضاً تضخّماً مذهلاً في الأموال المخصصة لشراء الأسلحة، وفساداً منتشراً بل أنه «أم الأوبئة» (قياساً على تعبير «أم المعارك» المعروف) في النظم السياسية العربية التي لم ولن تلد سوى العبث والاهتراء. في الكتاب عينه، يذكِّر القاسم ب «العدد الهائل من العقول العراقية المهاجرة الذي يبلغ وفق بعض التقديرات أكثر من 30 ألف كفاءة عراقية تعيش وتعمل في دول الغرب» (ص59). ودفعه الأمر إلى جدولة خطة تتمحور حول استراتيجية التعامل مع تلك العقول، ووضع مشاريع لجذبها على غرار ما فعلته بلدان كسنغافورة وتايوان والهند. وفي تلك البلدان، جرى العمل على استعادة العقول المهاجرة ضمن خطة ممنهجة تضمَّنت الرواتب المرتفعة، وإعطاء التقدير للعلم والعلماء، وتوفير المناخ العلمي للبحث والتطوير وغيرها. وكذلك أبدت البلدان المذكورة تفهماً لظروف عمل عقولها المهاجرة في ظل العولمة، فدعتها لاعتماد خيار الاستثمار عن بُعد. ويرى القاسم أن «هذا الخيار بدأ يبرز في الآونة الأخيرة كبديل عن خيار العودة، بسبب فشل معظم الدول النامية في الاستقطاب المباشر لعودة الكفاءات» (ص70). ويعتقد أيضاً أن ذلك الخيار يبدو منطقياً وعملياً في الظروف الراهنة، لأنه يتيح ربط العقول المهاجرة بإقامة مشاريع وبرامج للبحث العلمي والتقني، مع تولي الكفاءات العاملة خارج أوطانها مهمة الإشراف على البحوث العلمية. وكذلك تشمل «محاسن ذلك الخيار عدم حاجة الحكومة إلى الاستثمار المادي المكثف في تأسيس البنية التحتية العلمية والتقنية» (ص71)، ما يعزز حجة القاسم، خصوصاً أن ذلك الأمر يعني أن تعمل بحوث العلم بعيداً عن الحكومات التي تقبع تحت شبكة عنكبوتية من الفساد. وفي بلد كالعراق، باعتبار أنه موضوع الكتاب، تتصدر الثروات النفطية مرتبة متقدمة عالمياً، لكن بلاد الرافدين تقبع في المرتبة 166 من أصل 176 دولة تشملها قائمة الأممالمتحدة للفساد! ودفع ذلك الأمر حكومة الرئيس حيدر العبادي إلى توقيع اتفاقية تعاون مع الأممالمتحدة في العام 2016، لإشراك محققين دوليين في ملفات الفساد الكبرى كتهريب الأموال إلى الخارج أو الاختلاس في مفاصل الدولة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أورد الخبير العراقي النفطي الدكتور وليد خدوري في مقال نشرته «الحياة» في 3 نيسان (أبريل) 2016، أن قيمة الأموال المنهوبة من الدولة في السنوات ما بين عامي 2006 و2014 (في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي) بلغت نصف تريليون دولار! هل تنجح عملية «موسم صيد الحيتان» التي أطلقها الرئيس العبادي، ثأراً للمواطنين الذين قضوا بالسيارات المفخخة والتفجيرات لأن أجهزة الكشف على المتفجرات التي اشترتها الدولة كانت غير صالحة ولا تعمل؟ وفي كتابه «العقول...»، يعتبر القاسم أن هجرة العقول المفكرة من أخطر المشاكل التي تواجه برامج التنمية في العالم الثالث، خصوصاً دول العالمين العربي والإسلامي. ويركز على العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، مستعرضاً أسباب هجرة تلك العقول، مشيراً إلى أنها تشمل عوامل سياسية كاستبداد نظام الرئيس الراحل صدام حسين، التي «أدت إلى هجرة 6848 طبيب ومهندس وتقني وأستاذ جامعي عراقي إلى الولاياتالمتحدة بين عامي 1972 و1976 «(ص39). ويتناول أيضاً العوامل الاقتصادية لتلك الظاهرة، في مرحلة التسعينيات من القرن العشرين التي شهدت غزو الكويت والاضطهاد الطائفي والعرقي في الداخل العراقي وغيرها. ولا يفوت القاسم الإشارة إلى أنه خلال سبعينيات القرن العشرين وثمانيناته، «أرسل العراق كثيراً من طلبة البعثات للتخصص في مجال الكيمياء الصناعية والفيزياء النووية وهندسة المفاعلات الذرية، ووفرت الجامعات الغربية في تلك الفترة المقاعد الدراسية لطلبة البعثات العلمية العراقية لدراسة تلك المواضيع المهمة بسبب تعاطف الغرب مع العراق أبّان حربه مع إيران .. وبعد غزو الكويت تم منع منح مقاعد الدراسات العليا إلى الطلاب العراقيين في الجامعات الغربية» (ص44 و45). في المقابل، يُلاحَظ أن كتاب «العقول...» لا يشير إلى نتائج الاحتلال الأميركي للعراق، الذي رمى بأثقال مدمرة على حياة العراقيين كما واكبته حروب لم تنته بعد ولم تُعَالج آثارها بطريقة فعالة. ويزيد في أهمية ذلك الغياب، تلك اللائحة الطويلة من العلماء التي وضعها الاحتلال الأميركي مع سعيه إلى اعتقالهم، إضافة إلى ما سبقها من شلل تمددت ظلاله على حياة الشعب العراقي، بمساهمة من النظام آنذاك، في المرحلة المعروفة باسم «النفط مقابل الغذاء». ولمزيد من الاطلاع على تلك المناحي، من المستطاع الرجوع إلى كتاب الدكتور هيثم الناهي بعنوان «تفتيت العراق»، وهو صادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية». لمحة عن حاضنة علمية لبنانية الأرجح أن ظاهرة هجرة العقول العراقية تفاقمت مع حروب «داعش» والتدمير الذي ألحقته بالعراق، الأمر الذي يصبح معه غير مستغرب أن يرمي بكوكبة من العلماء والأطباء والمهندسين والمفكرين من أبناء العراق في مهب الهجرة والترحال في شتات الأرض. هناك تجربة في بيروت في التفاعل بين البنى العلمية في الوطن ومسارات العلوم عالمياً. وفي لقاء مع «الحياة»، رأى عميد كلية الطب في الجامعة الأميركية الدكتور محمد الصايغ أنّ «المركز الطبي» في «الجامعة الأميركية في بيروت» (تأسس في 1902) أضحى معلماً أساسياً ورائداً في المشهد الصحي اللبناني والعربي، لا بل عنصر تحوّل جذري وكبير في ذلك المشهد. وكذلك كان المركز مشمولاً في الرؤية الإستراتيجية التي أطلقها رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري أخيراً، مشيراً إلى أنها تضمن استمرار الريادة، بحلة مطورة من حيث الرعاية الصحية. ووعد خوري بأن تنهض الجامعة بتفعيل دورها الصحي الريادي في المنطقة العربية، عبر منظومة متكاملة تشمل كليات الطب، والتمريض، والصحة العامة وغيرها، إضافة إلى «المركز الطبي» و «مركز الصحة العالمية». تحمل تلك الرؤية عنوان «رؤية صحة 2025». وترمي إلى مقاربة صحية تتخطى دور الخدمة الطبية المباشرة لتشمل عناصر الوقاية وتحسين الصحة المجتمعية والنظم الصحية، في لبنان بل كامل المنطقة العربية وصولاً إلى مجموعة من الدول النامية. ويبرز في ذلك السياق، دور «معهد الصحة العالمية» الذي أنشىء في تموز (يوليو) 2017 ليكون أولاً في كونه حاضنة للبحوث الصحية المتعددة التخصصات، ومركزاً لبناء القدرات في المنطقة العربية. وكخلاصة تتصل بظاهرة العقول العربية المهاجرة، من المستطاع تذكر مقولة لعالم الرياضيات والفيلسوف العربي رشدي راشد، قوامها «أن العلم كان أحد أسس الحضارة الإسلامية، والمؤسسات البحثية الحقيقية تؤسس للبناء الحضاري... (ولا يتأتّى ذلك عبر) منح الجوائز وعقد المؤتمرات التي لا تنتهي إلى شيء». وفي سياق متصل مع تلك الكلمات، من المستطاع الحديث عن أهمية ثقافة الشعوب ونماذجها الأخلاقية، وموروثاتها الحضارية. وتناولت ذلك الأمر الهندية أنجيلا سايني في كتابها «أمة العباقرة» الذي تحدثت فيه عن بلاد فيها الفقر والإبداع والتواضع، وهي سمات شعب يعطي ثلث علماء ومخترعي «وادي السيلكون» في كاليفورنيا الذي يقود ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة حاضراً.