"كان الوقت صديقاً لي، فالزمن إما أن يكون عدواً لدوداً، أو صديقاً ودوداً، وأنا من أولئك الذين كان الزمن صديقاً ودوداً لهم، لدرجة أنني كنت أتمنى لو كان عدد ساعات اليوم 25 ساعة أو أكثر". بهذا الهدوء غير المعهود وبصوت خفيض تحدث جبر مطلق وشاح 48 عاماً عن الوقت والزنزانة. إنها مفارقة غريبة أن يتمنى سجين أفنى زهرة شبابه في الزنزانة ان تزداد ساعات اليوم الواحد ساعة إضافية أو أكثر، إذ أن السجين يتمنى عادة أن تنقضي الأيام في الزنزانة بأسرع ما يمكن حتى يخرج إلى الحرية. يسترسل وشاح قائلاً: "انجزت بعض الدراسات التي تم تعميمها على الأسرى والمعتقلين في السجن، وأعددت دراسة شاركت بها في المؤتمر الثاني لتطوير المنهاج التعليمي الفلسطيني الذي اعتمدها وأعكف حالياً على إعداد دراسة بدأتها داخل الزنزانة عن مدى انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على وضعية الأسرى الفلسطينيين في فترة ما بعد اتفاقات "أوسلو". وشاح، الذي أفرجت عنه سلطات الاحتلال في التاسع من أيلول سبتمبر الجاري تنفيذاً لبنود اتفاق "شرم الشيخ" المذكرة التنفيذية لمذكرة واي ريفر، دأب على كتابة مقالات سياسية من داخل السجن، نشرت في إحدى الصحف اليومية المحلية تحت عنوان "دقات على جدران الخزان". يقول وشاح أبو فداء ل"الحياة" في الحوار الذي أجرته معه بعد أيام على اطلاقه من زنازين سجون الاحتلال، إن السجانين حيرهم كيف كان يقضي وقته داخل زنزانته، التي كان ضوئها يبقى مشتعلاً طوال الليل، معتقدين أنه يخطط لعمل ما، فيما كان هو يكتب، أو يقرأ، بشكل كان يتمنى معه لو ان اليوم يطول أكثر. ولد "أبو فداء" في 13/2/1950 في خيمة من خيم اللاجئين في مكان قريب من وادي غزة، وسط قطاع غزة، لأبوين لاجئين من قرية بيت عفّا نحو 25 كيلومتراً شمال شرقي مدينة غزة ومتزوج من طبيبة وله بنتان فداء 17 عاماً وحنين 16 عاماً. قبل عامين ونصف عام التقت فداء الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لدى زيارته مدينة غزة وسلمته رسالة من أهالي الأسرى، يطلبون فيها منه القيام بدوره في ضمان اطلاق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين. وعن مشاعره تجاه ابنته التي تركها طفلة صغيرة لا زالت تحبو عندما اعتقل عام 1985، يقول:"شعرت بالفخر، وبالخوف أيضاً، الخوف من كيفية التعامل مع هذه الطفلة التي تركتها قبل نحو 15 عاماً، عندما يفرج عني". ويضيف، وهو ينقل بصره بين الحاضرين، لعله يرى مدى تأثير ما يقول فيهم: "قبل فترة وجيزة من اطلاقي، بدأت ادرب نفسي على التوفيق بين الصورة المطبوعة في ذهني لفداء وحنين قبل 15 عاماً، وصورتيهما الآن، وتساءلت بيني وبين نفسي: بأي طريقة يجب عليّ أن أتعامل معهما؟ حنين التي تركتها عندما كانت في الشهر الثالث من عمرها جاءت في أحد الأيام تزورني في السجن، وشاهدتني من خلف الشباك الفاصل بيننا وصرخت خائفة". ويستدرك قائلاً: "لا أشعر بالألفة الأبوية الصادقة العفوية تجاههما. إني ابحث عن هذه الألفة... لم أجد صعوبة في التعامل مع زوجتي، ولكني أجدها في التعامل مع طفلتيّ". وتسأله "الحياة": أما زالت الفجوة قائمة؟ ويجيب بلهجة المتشكك: "ربما الفجوة قائمة، فإحداهن صارحت والدتها بأنها تحس بمشاعر مشابهة لتلك التي تنتابني... هي تبحث عن أب، والاب ليست كلمة موثقة في عقد... الاب ممارسة، ومشاعر تُترجم يومياً بعواطف انسانية". ولا ينسى وشاح أبناء الأسرى، إذ يقول: "إنهم يبحثون عن آبائهم الذين ما زالوا غائبين عنهم إلى الآن". كما أنه لا ينسى اصدقاءه في القيد والسلاسل، ويتمنى لو أن الإسرائيليين اطلقوا علي البياتي العراق وسمير قنطار لبنان وموسى خميس السودان ومحمد عفيف سورية وسالم أبو غليون وسلطان العجلوني الأردن وخليفة الصفير ليبيا، والأصدقاء المصريين، والرهائن لدى سلطات الاحتلال من عناصر وكوادر "حزب الله". ويعود ليذكر أسماء الأسرى المرضى والألم يرتسم على قسمات وجهه. هل أنت حر الآن؟ "لا أشعر تماماً بالحرية". هل أنت خائف من المستقبل؟ "دائماً كنت من دعاة التحدي لصناعة الواقع وأكررها لا للاستسلام ويصنع الحاضرون المستقبل أبداً". وراء هذه القوة والتحدي الذي يدعو إليه وشاح "ضعف" وقدرة على التأثر إلى حد البكاء. بكى "أبو فداء" ومن معه من الأسرى من سجن "نفحة" الصحراوي عندما سمعوا حواراً يدور بين سجين وابنه وابن اخيه. ففي فترة من الفترات سمح السجّان بادخال الأطفال الذين يأتون لزيارة آبائهم بالدخول إلى داخل السجن، فكان ان أجلس أحد السجناء ابنه على ساق وابن شقيقه على ساق أخرى، فأمسك ابن الأسير بأربعة من أصابع إحدى يدي والده، واعطى ابن عمه الاصبع الخامس ليمسك به. وسأل السجين ابنه: لماذا أنت تمسك بأربعة يا ولدي وتعطي ابن عمك اصبعاً واحداً؟ فأجاب ابنه: ابن عمي له والد في الخارج حر، فيكفيه اصبع واحد من أصابعك، أما أنت يا ابي فلست عندي لأمسك بيدك كل يوم... عندئذ انفجر الاب الأسير بالبكاء وانضم إليه في ذلك كل من كانوا حوله. والباقون خلف القضبان... ماذا سيفعلون؟ يقول وشاح: "قد يستخدمون حقهم الإنساني في المطالبة بالعمل من أجل اطلاقهم". وهل من حق التنظيمان والفصائل أن تلجأ إلى طرق ووسائل أخرى لتأمين حريتهم؟ يقول: "مقابل حفنة من الجنود أو أشلاء الإسرائيليين تم اطلاق نحو ثمانية آلاف من الأسرى في عمليات التبادل التي جرت في الأعوام 1979 و83 و85 وبعد ذلك أيضاً. وإذا كانت عملية سلام يُراد لها أن تكون تاريخية لم تستطع ضمان حرية مئات، واستطاعت عملية تبادل عدد صغير من الجنود اطلاق الآلاف، فأي الاسلوبين أنجح؟". الكل يتساءل لماذا لم يتم اطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين والعرب من سجون الاحتلال بعد ست سنوات على توقيع اتفاقيات أوسلو. يجيب وشاح ببساطة ان ذلك بسبب اتفاقات أوسلو "الخطأ - الخطيئة". ويرى وشاح ان المفاوضين الفلسطينيين ارتكبوا اخطاء بحق الأسرى يجب تدارك نتائجها، ويطلب عند التفاوض في المرة المقبلة أن يتم استشارة ما يمكن تسميته "لجنة مركزية للأسرى" قبل التوقيع على أي اتفاق جديد "لأن أهل مكة أدرى بشعابها".