يروي أحد اللبنانيين انه أدخل والده المستفيد من تقديمات الضمان الصحي، أحد المستشفيات الكبرى في بيروت. ولما كان والده المضمون يحتاج الى عملية جراحية في الرأس لاستئصال احدى الغدد، أدخل الدرجة الثالثة التي لا يؤهله ضمانه دخول سواها في المستشفى. وهنا بدأ الإبن والوالد رحلة من الشقاء في أقنية علاقات المستشفيات والاطباء بمؤسسة الضمان الاجتماعي. فقد أبلغه الطبيب الجراح ان تسعيرة الضمان للطبيب الذي يجري العملية لا تتجاوز 300 الف ليرة لبنانية، وانه في هذه الحال يكتفي بالاشراف على تنفيذها، في حين يتولى طلابه المتدربون العمل الجراحي. وبعد استشارات قام بها المريض وابنه، ونصح على أثرها بإتيان ما يلزم لموافقة الطبيب على اجراء العملية بنفسه، كونها ستجرى في مكان حساس من الرأس، قررت العائلة جمع كلفة فرق درجة من افرادها، وجعل مريضهم نزيل الدرجة الثانية وبالتالي رفع أجر الطبيب. لكن الضمان الاجتماعي الذي من المفترض ان يدفع الكلفة الاساسية لم يوافق على خطوة العائلة، وهو أبلغها ان المستشفى يخالف اتفاقه معه عندما يدفع بالمرضى المضمونين الى عدم الاكتفاء بدرجة الضمان، وشرع مندوب الضمان في المستشفى يحرض العائلة على الطبيب والمستشفى، رافضاً توقيع الموافقة وطالباً منها مفاوضة المستشفى من جديد ومطالبته بحقها. فتوجه نفر من العائلة الى الطبيب من جديد، فشرع هذا الاخير يرفع تظلماته من الضمان وتسعيراته، مؤكداً انه لا يستطيع اجراء عمل جراحي بهذه الضخامة بأجر لا يتجاوز مئتي دولار أميركي، وأنه يعتبر المبلغ بدل إشراف. ولكن أهل المريض يريدون دفع الفارق، ولا يرغبون في التهاون بصحة الوالد. فعادوا الى مندوب الضمان الاجتماعي وأبلغوه إصرار الطبيب والمستشفى، وان هذا الامر معتمد في معظم الاعمال الجراحية التي يغطيها الضمان، وانهم حسموا أمرهم لجهة دفع الفارق. فانتفض المندوب معلناً لهم ان كرامة مؤسسته لا تسمح له بالموافقة على تحميل المستفيدين اعباءً اضافية، وانهم اذا أرادوا مهادنة المستشفى فما عليهم الا دفع كل المستحقات. وفي الجولة الثانية مع الطبيب شرع هذا الاخير يشرح لهم ان الضمان الاجتماعي مؤسسة رابحة، وان تقطيره في التسعيرات لا يتناسب وحجم الرسوم التي يقتطعها من المؤسسات في مقابل استفادتهم من خدماته، وبعد أخد ورد لم يتواجه فيه قط الطبيب والمندوب، فقد افراد العائلة سيطرتهم على أعصابهم، وانتهت القضية بان وقعوا تعهداً لم يفهم القصد منه، ينص على انهم دفعوا فروقات الدرجة بارادتهم ووعيهم. وقد تختصر هذه الحكاية بعضاً من جوانب علاقة المريض بالمستشفيات والمؤسسات الضامنة. لكنها لا تحيط بها كلها. ولعل أغرب ما جاء فيها ذلك التفاوض عبر المريض. فالمؤسستان، اي الضمان والمستشفى، تحتاجان في شدة بعضهما الى بعض. ولكن في لبنان ايضاً الحاجة لا تكفي لانتظام العلاقة. فهناك تحايل المستشفيات على الفواتير المقدمة الى الضمان وهناك تأخر هذا الاخير في دفع مستحقاته لها. وهناك الغايات الربحية التي لا يبرأ منها الطرفان، اضافة الى طموحات الطبيب في الصعود السريع، وانخفاض راتب المندوب وما يستتبع ذلك من وسائل للتعويض. وبين كل هذه الاعتبارات يقع المريض اللبناني ليس فريسة مرضه فحسب، وانما ايضاً في دوامة لا تنتهي من الاجراءات المتبادلة، علماً ان المريض المذكور كان أكثر حظاً من أولئك الذين تقع الواقعة وهم في حال لا تسمح بتأجيل علاجهم. وعلاقة المستشفيات بالضمان الاجتماعي وانعكاسها على المريض ليست أسوأ من علاقة المستشفيات بالمؤسسات الضامنة الاخرى. فوزارة الصحة أخذت على عاتقها علاج جميع المرضى اللبنانيين غير الخاضعين لتغطيات المؤسسات الضامنة، عبر تحديد عدد من الأسرة في كل مستشفى، اضافة الى تبنيها نفقات الحالات الطارئة والزامها المستشفيات استقبالها من دون السؤال عن الجهة الضامنة. و لكن ما يروى وما هو موثق ايضاً يجافي هذه الحقائق. ولعل حكاية ذلك المريض الذي أصيب في منتصف الليل بآلام مفاجئة في البطن. وذهب الى قسم الطوارىء في أحد مستشفيات بيروت ايضاً تطرح اسئلة أكثر تطاول هذه المرة السلوك العلمي للطبيب وآداب المهنة وأخلاقها. فما ان وصل المريض الى قسم الطوارىء وأجريت له الفحوصات الأولية، حتى سأله الطبيب عن الجهة الضامنة، فأجاب شقيقه بانه اتصل بمسؤول يعمل في الصحة وانه نال موافقة على العلاج على حسابها. عندها قال له الطبيب ان "الزائدة" ملتهبة جداً عنده ومن المحتمل ان تنفجر في أي لحظة وان عليه البحث عن مستشفى آخر يستقبله في أقصى سرعة ممكنة. أما سبب عدم التمكن من إدخاله المستشفى نفسه فهو ان لهذا الاخير ديوناً كبيرة على الوزارة ولا يستطيع مراكمة مبالغ جديدة له عليها. الدولة هي الجهة الضامنة الأكبر في القطاع الصحي في لبنان. وقال وزير الصحة اللبناني كرم كرم ل"الحياة" ان هناك مستشفيات كثيرة في لبنان تعيش من مواردها المتحصلة من الوزارة فقط، في حين تعتمد باقي المستشفيات على مواردها من الدولة بنسب تفوق الخمسين في المئة من مجمل مدخولها. واعترف كرم بضعف أجهزة الرقابة التي تتولى التدقيق في الفواتير المقدمة من المستشفيات والتأكد من حاجة المريض الى دخول المستشفى، ومن أنواع الخدمات الطبية المقدمة اليه فيها. وما لم يقله الوزير الا تلميحاً، هو قدرة المستشفيات على الضغط على الدولة من خلال حجم الديون المتراكمة للأولى على الثانية والتي وصلت في بعض الاحيان الى ما يفوق المئتي مليون دولار. ولا شك في ان هذا التوازن السلبي تراكم ديون من جهة، وإتاحة اهدار من جهة ثانية يزيد من قتامة وضع قطاع الصحة ومن تعقيداته. وبما ان الدولة ليست جهازاً ادارياً منفصلاً عن "الخرائط المناطقية" والطائفية ودوائر النفوذ الموازية، فان خضوعها لمنطق المراعاة وتوزيع الحصص اصبح امراً نافلاً، يمكن الوزير ان يشتكي منه ولا يمكنه وضع حد له. فباعتراف كرم، توزع الاسرة التي تستأجرها وزارة الصحة على المستشفيات وفقاً لاعتبارات طائفة صاحب المستشفى، ولكل طائفة حصتها. اما اذا أرادت الوزارة معاقبة مستشفى ما بسبب مخالفته القوانين في علاقته معها، فان طائفة صاحب المستشفى متحالفة مع الطائفة التي يوجد المستشفى في محيطها، حاضرة للإحتجاج ولارسال نوابها الى لجنة الصحة النيابية. ويقول وزير الصحة انه يتحدى أي مسؤول أو نائب لم يتدخل يوماً لزيادة عدد أسرة الوزارة في مستشفى ما. ومن مفارقات قطاع الاستشفاء اللبناني، تلك الظاهرة المتعلقة بعمليات القلب المفتوح، اذ تعتبر نسبة اجرائها في لبنان من الأعلى في العالم. ويقول متخصصون في هذا المجال ان عدداً كبيراً من الذين يجرونها لا يحتاجون اليها فعلاً. ولكن بما ان وزارة الصحة اللبنانية تكفلت دفع تكاليفها للجميع، فان المراكز الطبية التي يجرى فيها هذا النوع من العمليات مقبلة على اجرائها للجميع، فالمريض هنا لا يتكلف شيئاً، والمستشفى يستفيد من الأجر. ويبقى أمر ثانوي لا يستأهل عدم اجرء الجراحة بسببه، وهو هل المريض يحتاج الى اجراء العملية؟ ويؤكد كرم ان مغتربين لبنانيين جاءوا من أميركا واوروبا للاستفادة من تغطية الوزارة لهذا النوع من العمليات، لم يسبق لهم ان قصدوا لبنان في حياتهم وان آخرين من كبار الاثرياء يستفيدون من أدوية مجانية لبعض الامراض المستعصية. وفي حين يأتي المرضى الآخرون بأنفسهم الى الوزارة للحصول عليها. يرسلون هم سائقيهم وموظفيهم ليأخذوها لهم مشفوعة بتوصيات من مسؤولين. وبينما يرى كرم ان مسؤولية إصلاح الوضع الصحي، وتحديداً العلاقة بين اطرافه تقع في شكل رئيسي على الطبيب، يرى نقيب اطباء لبنان غطاس خوري ان مسؤولية الخلل تقع في الدرجة الاولى على السلطات الصحية أي وزارة الصحة وكل من هو معني بالتخطيط الصحي. واذ يعترف النقيب بوجود منافسات غير مشروعة بين الاطباء، ودخول بعضهم في اتفاقات تبادل مرضى، فانه يحمل المسؤولية الى السياسة الصحية العامة. فبلد مثل لبنان لا يحتاج الى أكثر من ثلاثمئة طبيب جديد سنوياً تبعاً لمعدل النمو السكاني. ينتسب سنوياً الى نقابتي الاطباء فيه نحو تسعمئة طبيب أي انه معدل نمو الاطباء هو عشرة اضعاف معدل نمو السكان، مما يعيق ايجاد فرص عمل للاطباء. ثم نعود هنا لندخل في دوامات الطوائف والمذاهب والحصص. فمعدل النجاح في البكالوريا الذي يؤهل الى دخول كليات الطب سبق ان اتفقت وزارة الثقافة مع نقابة الاطباء على ان يكون سبعة من عشرة ثم خفضته الوزارة الى ستة ثم ألغي. وهذا ما أتاح للكثيرين الانتساب الى كليات الطب، وتضخم عدد الاطباء. ورخصت الحكومات المتلاحقة لكليات طب جديدة في الجامعات تحت تأثير ضغوط الفاعليات "الروحية" والزمنية مما أتاح تضخمات جديدة في اعداد الاطباء. الحكايات التي يرددها اللبنانيون عن وقائع حصلت لهم في المستشفيات ومع الاطباء وفي المؤسسات العامة والخاصة الضامنة، كوزارة الصحة والضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وشركات التأمين، يعيد المعنيون الآخرون بها الاطباء ومسؤولو المستشفيات وموظفو المؤسسات الضامنة روايتها منزوعة من محتواها الشخصي. اي ان المواطن حين يتحدث هنا، انما يتحدث عن مشكلة تتعلق بحياته. اما الطبيب أو المسؤول فيحولها مشكلة رقمية لا يستطيع بحسب وجهة نظره الا التعامل معها بصفتها حالاً من عشرات الحالات التي تعرض عليه. لكن السؤال هنا، أليست علاقة المريض بمرضه ثم بالطبيب، علاقة خاصة جداً فيها من الهواجس الشخصية ومن هموم العلاج ما هو كافٍ لقيام صلة مختلفة بين اطرافها ولهذا تسقط ربما كل التوصيفات والحجج التي قد تكون منطقية والتي تبرر هذا الخلل، أمام الحاجة الملحة للصحة؟