هناك لحظة ذات مغزى في فيلم "المحارب الثالث عشر" هي تلك التي يتقدم فيها رئيس مجموعة المحاربين هرغر يقوم بأدائه دنيس ستورهوي ويطلب من ابن فضلان انطونيو بانديراس أن "يرسم له الصوت" أي أن يكتب. ثم في مشهد آخر قريب، يتقدم هرغر من ابن فضلان ويرسم له هو خطوطاً عربية. يقرأها بانديراس بصوت مسموع، فإذا بها تقول: "اشهد أن لا إله إلا الله". تتسع ابتسامة المشاهد العربي حيال ذلك وبصورة طبيعية، ليس فقط للمغزى المباشر، بل لأن المشهد واحد من تلك التي ترمز إلى تقدم روحاني وحضاري أعلى كان للعرب على الأوروبيين حتى زمن غير بعيد. من هذا الطرح استخلاص سريع آخر: "المحارب الثالث عشر" أفضل مرة تم فيها تقديم شخصية عربية على الشاشة العالمية منذ "لورنس العرب" الذي سيتردد ذكره، علماً بأن "لورنس العرب" البديع على أكثر من صعيد، ووجه، ولا يزال، بنقد متزمت يتهمه بأنه كان مشيناً ومسيئاً للعرب! في كتاب مايكل كريتون "أكلوا الموتى" الذي تم اقتباسه إلى فيلم "المحارب الثالث عشر"، وهو الكتاب المستوحى من مذكرات الرحالة والأديب العربي ابن فضلان، هناك الكثير من الوقائع المشابهة. تكاد تشعر بأن كريتون إنما يحاول أن ينقل إلى الغرب صورة مشرفة عن حضارة عربية سبقت الغرب بمراحل كثيرة. الفيلم لا يتخلف كثيراً عن توفير هذا الشعور، وذلك منذ لحظة تعرفنا على هؤلاء الفايكنغ وهم يبصفون في الماء الذي يتداولونه لغسل وجههم، إلى المشهد النهائي عندما نشعر بأن العربي ترك لدى هؤلاء المحاربين الأقوياء ذكرى مختلفة، فحواها حضاري وثقافي وروحاني. الفيلم ليس عن قوم أفضل من قوم، بل هو أبعد من ذلك: عن ثقافة متحضرة وديانة قائمة هي في صميمها مفضلة، ايديولوجياً هنا، عن اللاديانة التي لدى الفايكنغ. والأمر لا يتوقف حينها عند حدود التاريخ ضمن طبيعة وزمن الأحداث، بل ينتقل إلى مقارنات لا يمكن تحاشيها عما هو آني اليوم. الفلسفة الإسلامية العربية التي كانت سائدة آنذاك، تبدو لمشاهد اليوم كما لو كانت درراً لا تزال صالحة في عالم قد لا يختلف كثيراً عما كان عليه آنذاك، إلا بالوسائل المستخدمة. 65 صفحة في 3 ثوان هذا الإدراك متوافر في الكتاب حتى عبر ترجمته الانكليزية التي جمعها مايكل كريتون تحت عنوان "آكلو اللحوم" على شكل قصة مروية تسجيلياً. لكن بما ان الكتاب لا ينقل كما هو على الشاشة، فإن المرء كانت لديه شكوك كبيرة حول: كيف سيطرح الفيلم تلك المسائل القائمة على مواجهات الكاتب الحضارية مع عالم يدينه ويعجب بشجاعة أبناؤه في آن؟ الأمر يبدو نظرياً "على الأقل، بحاجة إلى مخرج ذي نفس ملحمي وغاية مختلفة عما يفرضه الفيلم الهوليوودي عادة مخرج مثل الراحل ديفيد لين. وفي الدقائق الثلاث الأولى، يلغي كاتبا السيناريو، ويليام ويشر وورن لويس، 65 صفحة من الكتاب إلغاءً شبه كامل، لكن من دون إلغاء الشخصية ومنطلقاتها. ولم يلبث الفيلم إلا أن برهن على ذلك، لكن من دون أن يخيب الآمال المعقودة عليه في الوقت ذاته أنه ليس الفيلم الفني الخالص، لكنه الفيلم الجاد في منطلقاته ومحاولاته سبر غور حضارتين احداهما أعلى قيمة معنوية وروحانية وثقافية من الأخرى. في الفصل الأول من العمل هناك تقديم الشخصيات الأساسية. في الكتاب تمر قافلة ابن فضلان التي انطلقت من بغداد صوب بلاد البلغار بعدما طلب ملكها من الخليفة رسولاً يعرّفه بالإسلام، تمر ببلاد انطاكية وشمالي تركيا وتتجاوز بحر مرمرة وسط صقيع لم يعتد عليه ابن الصحراء. خلال ذلك، يتعرض أفراد القافلة إلى أقوام من الأتراك وغيرهم من الذين كانوا يعيشون هناك وابن فضلان يصف عاداتهم البشعة وقسوة طبائعهم وميلهم للخداع والسرقة. لكنه لا يفور في انتقاده كذلك رجال الشمال حينما يلتقي بهم بعدما أبحروا في نهر الدانوب ويصفهم ب"أوسخ من رأى في حياته". عملياً يتخلى الفيلم عن وصف ابن فضلان لغير الفايكنغ، ثم، وبسلاسة، يقدم نقده لهم قبل أن يجد نفسه مجبراً على الإبحار معهم إلى الشمال لمساعدتهم في الدفاع عن الملك الذي يهاجمه قوم أشبه بالوحوش. حسب بصّارة من لدنهم، على المجموعة المؤلفة من اثني عشر محارباً ان تضيف المحارب الثالث عشر على أن يكون غريباً عن المجموعة. ابن فضلان كان في المكان ويجد نفسه وقد انضم في حملة عسكرية وهو المثقف والشاعر والديبلوماسي الذي لا يجيد استخدام السلاح. بعد انطلاق المجموعة، يتابع السيناريو مسيرة الكتاب على أفضل نحو ممكن من دون اقتباس لفحواه الأدبي والوصفي الطويل. حين سألت المخرج جون ماكتيرنن متظاهراً بأنني لم أقرأ الكتاب عما تكون التغييرات الأساسية التي قام بها حين نقل المذكرات إلى فيلم، أجاب: - لم نعمد إلى تغييرات تذكر. أساساً حافظنا على كل ما فيه. وهذا حقيقي بعد تلك المقدمة. لكن السؤال انطوى أيضاً على الجانب التشخيصي للصورة العربية التي أهينت في السابق كثيراً في هوليوود. طرحت السؤال ثانية، فقال: - لم أسع إلى إضافة أي تصوير لما هو غير وارد في الكتاب. وإذا كنت ترى أن الكتاب كان ايجابياً تجاه الشخصية العربية، فإن الفيلم ايجابي جداً تجاهها أيضاً. لم نسع لتغيير هذه الصورة لأن ابن فضلان شخصية حقيقية. وهذا ما يواجه المشاهد بالفعل. لكن الفيلم مثير بحد ذاته. هذه المرة تقدم لنا هوليوود واحداً من الأفلام التي ما عدنا نراها على الشاشة. فيلم يشبه من حيث النوع أفلاماً مثل "الفايكنغز" ريتشارد فلايشر - 1958 أو بعض أفلام هركوليس وماشيستي الخيالية. الاختلاف الخفي الذي يعرفه من يعرف شخصية ابن فضلان هو أن القصة ليست خيالية إلا ربما بحدود ما سمح المؤلف لنفسه في بعض الحالات، والاختلاف الظاهر هو ان "المحارب الثالث عشر" غير مقدم على أنه فيلم مغامرة فقط، بل إنه فيلم موحش وسوداوي. إنه الفيلم الذي لم يذهب إلى حدوده المخرج جون ميلوس حينما قدم قبل أكثر من 20 سنة فيلم "كونان البربري". "المحارب الثالث عشر" مناقض ل"كونان البربري"، ليس لأن "برابرة الفيلم"، إذا صح التعبير، يواجهون حضارة أعلى من قيمهم العامة فقط، بل لأن الفيلم بأسره سوداوي. محاربو هذا الفيلم هم رجال شجعان وأقوياء ومتحالفون مع ذلك العربي الذي تحالف معهم. وكل ينقذ ظهر الآخر في المعركة. الأشرار هنا هم مجموعة متوحشة هائلة العدد والقوة تغير على المملكة الشمالية. لا أحد يعلم حقيقتهم وابن فضلان استمع بما فيه الكفاية عن أساطير تحيط بهم وتصفهم بأنهم غير آدميين، لكنه هو الذي يكشف في مفارقة أخرى للقاء مميز بين حضارة متقدمة وأخرى متخلفة، ان هؤلاء "المتوحشين" ليسوا "وحوشاً" و"دببة" كما يريد الآخرون أن يعتقدوا، بل آدميون أكثر همجية وتخلفاً وقسوة من كل من رأى. بذلك يبدد الخرافة بالحقيقة، ويساعد المجموعة على معرفة كيفية مواجهة الغازين على النحو الذي يحقق النصر النهائي. في كليته، فإن ابن فضلان مقدم على أنه مسلم عربي، ذو مبادئ قومية وخاصة. لكنه أيضاً رجل تنقصه خبرة القتال وهذا حقيقي بالنسبة لنوعية القتال الذي يمارسه أبناء الشمال على الأقل، وفي مقابل ما منحه لهؤلاء الشماليين الشقر الطوال، أفادوه هم في تعليمه حمل السلاح والضرب بقوة والحرب كما لو كان واحداً منهم. في الأساس مجرد وصول ابن الصحراء إلى تلك البلاد القصية الباردة أمر يدل على قوة تحمل وشجاعة كبيرة حتى ولو ان الرحلة فرضت على ابن فضلان فرضاً. وللأسف فإن لا وقت لدى هذا الفيلم للتوقف عند محطات ذاتية يأتي ابن فضلان على ذكرها تنم عن حساسيته وشاعريته وتأملاته في الطبيعة والناس. وهذا، مرة أخرى، كان يحتاج إلى مخرج مختلف لفيلم مختلف. فأي فيلم أراد ماكتيرنن تحقيقه؟ سألته، فأجاب: - وجدت القصة التي في الكتاب مناسبة لفيلم مغامرات و"أكشن" يعود بالسينما إلى نوعية توقفت عن انتاجها. حاولت الابقاء على المضامين التي تحتويها بالنسبة لتلاقي الثقافات في تلك الظروف غير الملائمة، لكن الأساس هو تقديم ذلك النوع من الأفلام وعلى نحو مشوق ومثير للفضول. لكن الفيلم يبدو كما لو كان بحاجة إلى فترات من التأملات في المحيط الاجتماعي للفايكنغ استناداً إلى حقيقة أنه مأخوذ من مذكرات حقيقية؟ - هذا هو رأيك، لكن لو فعلنا ذلك لانتهينا إلى فيلم له طابع تاريخي. ما حاولناه، أعيد، هو فيلم "أكشن" ضمن الأحداث الحقيقية التي استخلصناها من صفحات الكتاب. التأملات المفقودة الحقيقة أن أحداً لن يعلم أنها أحداث حقيقية مستخصلة من مذكرات، إلا إذا كان يعلم شيئاً عن ابن فضلان، ليس على هذا النحو من الأعمال والمعالجات، مع تباين الفيلمين، يبدو "المحارب الثالث عشر" شبيه بفيلم "المصير" ليوسف شاهيم، من حيث أن هذا أيضاً عاد إلى التاريخ ليقدم شخصية ابن رشد، فلم ينجح في تقديم أية معلومات عنها، لكن الغاية في كلا الفيلمين مختلفة تماماً، وفيلم جون ماكتيرنن هو بالفعل فيلم "أكشن" حيث أنه يحتوي على شخصية عربية ايجابية وغير منمطة. الأكثر أهمية بالنسبة لمرامي الفيلم الجماهيرية، هي أن ما سيحد كثيراً من نجاحه على النحو المرغوب على الأقل هو سوداويته. إنها سوداوية جذابة وموجودة في المذكرات: الضباب الذي يلف الوادي الذي يستغله المهاجمون لتنفيذ غاراتهم. المعارك القاسية بسيوف باترة والعنف المستشري فيها. حتى رداء ابن فضلان يكاد لا يرى في الأحداث التي كان معظمها يتم ليلاً أو في أجواء داكنة. هذا النحو من التعامل مع الفيلم يخلق ميزته وإحدى أفضل حسناته في الوقت الذي ينقل الفيلم من حيز الاعجاب المباشر الذي يريد أن يتوخاه من جمهور اليوم الذي يفضل الألوان الفاتحة أو الرعب المصطنع على النواحي الميثالوجية التي تعبر عنها اختيارات المخرج لوناً وإضاءة ونمط اخراج مشاهد قتالية. تم تصوير الفيلم في العام 1997، لكن عرضه لم يقع إلا هذه الأيام في السوق الأميركية حالياً بإقبال متوسط. عادة ما يكون مثل هذا التأخير ناتجاً عن ضعف شديد في سياق الفيلم أو نتيجة ردات فعل غير ايجابية في العروض التجريبية التي تقيمها الشركات المنتجة، لكن الوضع هنا ليس على هذا النحو، عندما سألت ماكتيرنن سبباً وجيهاً لهذا التأخير، أجاب: - ليس لديّ علم أكيد بأن هذا التأخير مقصود لغاية محددة. اعتقد ان ديزني وجدت لديها فيلماً خاصاً جداً لم يجر تحقيق مثيل له منذ زمن بعيد. ومن الطبيعي أن تبحث عن أفضل الأوقات المناسبة لعرض مثل هذا الفيلم لكي تتيح له فرصة النجاح. تم تصويره قبل فيلم "قضية توماس كراون" الذي أخرجته أنت أيضاً والمعروض منذ شهر تقريباً. كيف تشعر ازاء أن لديك فيلمين معروضين معاً؟ - أشعر أفضل من شعوري لو كان عندي فيلم واحد معروض، وبالتأكيد أكثر من شعوري لو لم يكن لديّ أي فيلم معروض. لكن، كما تعلم، الفيلمان مختلفان وبعيدان جداً في نوعيتهما ونوعية العمل عليهما من كل النواحي. لا أتحدث عن قصة مختلفة وأزمنة متناقضة فقط، بل عن العناصر التي يستخدمها المخرج لتنفيذ اللقطة فالمشهد فالفيلم. وجدت انطونيو بانديراس مناسباً لشخصية ابن فضلان... أقصر من أترابه، أسود الشعر وحقيقة أنه اسباني يجعله أقرب شبهاً تحت تلك الملابس من أي ممثل آخر، هل هذه هي الأسباب التي دفعت بك للاستعانة به؟ - ... هذه. وحقيقة أنه ممثل موهوب جداً، حينما استقر بانديراس في المشروع قبل البدء بتصويره أدركنا أنه بات لدينا الفيلم الذي نبحث عنه. ممثل من الماضي ليس ان الفيلم يبرز عنصر التمثيل كمادة أساسية. لا أحد من ممثلي الفيلم سيقترب من احتمالات الأوسكار أو الغولدن غلوب، لكن بانديراس ميزة ايجابية لفيلم أحياناً ما يبدو فيه كواحد من الممثلين وليس كقائده الأساسي. هذا مقصود لأن ابن فضلان، كما نستطيع أن نتخيل، لا بد أصبح في المعمعة الكبيرة التي دارت أكثر من مرة حوله، واحداً من الجماعة غير مميز عنها أو منفصل، بل هو يعترف في مذكراته بأنه اضطر لاكتساب بعض عاداتها بسبب طول بقائه في أرضها. ويقدم الفيلم الممثل عمر الشريف في عودة أولى إلى السينما الأميركية. وكان عمر الشريف ترك هوليوود آسفاً بعد انتصاراته من مطلع الستينات "لورنس العرب" لديفيد لين - 1962 حتى منتصف السبعينات "أشانتي" لريتشارد فلايشر - 1975، ذلك الفيلم لم يكن نهاية ظهوره في الأفلام الأميركية، لكن بداية ظهوره في أفلام غير ذات قيمة في معظم الحالات، مثل "خط الدم" و"الثلج الأخضر" و"سريّ جداً". دور عمر الشريف في هذا المثال الأخير كان من السوء بحيث أشاع حتى بين المشاهدين الأميركيين نوعاً من الأسى لما وصل إليه حاله فيه. في العام 1997 لبى دعوة المخرج الفلسطيني الأصل ايزادور مسلّم وسافر إلى تورنتو حيث لعب دور جبران خليل جبران في فيلم لا يدور عن تلك الشخصية بل يقدمها في مشهد واحد هو "الجنة قبل أن أموت" يعرض الفيلم في مهرجان الاسكندرية المقبل، وهو العرض العربي الأول له. في "المحارب الثالث عشر" لا يتمتع عمر الشريف بدور كبير، إذ يظهر لنحو ربع ساعة في مطلع الفيلم فقط، لكنه يثير الكثير من الاحترام. وربما لأن انطونيو بانديراس مثل عمر الشريف في نقطة مشتركة مهمة: كلاهما لم يتحول إلى نجم عالمي في هوليوود إلا بعد أن مهد لإنطلاقته بسلسلة ناجحة من الأفلام المحلية. ربما لأنه يلعب شخصية العربي مرة أخرى وللمرة الأولى عالمياً منذ "لورنس العرب" مثيراً الذكريات الحانية لنفسه ولذلك الفيلم الكلاسيكي الخالد.