يقوم تطارح القول بين السيد وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي و"التقدمي" اللبناني، وبين "الوكالة الوطنية للإعلام"، وهي جهاز حكومي من أجهزة وزارة إعلام الدولة "الحياة" في 6 نيسان / أبريل، قرينة بليغة على مداومة العلاقة بين الأهل وبين الدولة على مثال واحد وثابت يحاكي الإعداد لحرب داخلية، أهلية، وشيكة. وهذا ما لا يتستر عليه صاحبا المطارحة. فيذهب السيد جنبلاط إلى إثبات نَسَب ما يجري اليوم في حقه، من إهمال دعواه على العابث بصومعة والده وسارقها أو الغمز من قناته ونزاهته وكرامته في الكلام على النزاهة والفساد وإهدار الأموال العامة، بمحاصرة قوى الأمن اللبنانية معقل أسرته الأهلي والطائفي في عام 1957، قبيل "حوادث" 1958 الأهلية. وقد يكون صلب الأمر، والباعث على القلق، هو استمرار سياسيين، هم قادة جماعات مذهبية وعصبية، على معالجة مسائل عامة، يدخل البت فيها تحت حد القانون وهيئات الدولة، بحملها على مسائل أهلية وعصبية. فيتجدد ظهور الدولة بمظهر الحلف المضطرب بين الجماعات الأهلية، ولا تتحرج الجماعات المتماسكة وراء زعاماتها، أو "تحتها"، من تناول الدولة كلها، حكاماً منتخبين وقضاءً وأجهزة أمن وإدارة، على وجه الجماعة الأهلية المناوئة والخصم، وتوعدها بما يُتوَعد به العدو، أي بالحرب. وكان تناول الدولة، على هذا النحو، يُعزى إلى تسلط جماعة أهلية عليها، وإلى إلحاق هذه الجماعة الدولة، وقوانينها وتشريعها ومرافقها، بمصالحها وأهوائها، ووقفها الحقوق، بل الحق، والمنافع على نفسها. وحُملت أسباب الحروب الداخلية الطويلة، المستتر منها والمعلن، البارد والحار المنفجر، إلى هذا التسلط. ولخصت الأسباب والوجوه بما سمي "انعزالية" الجماعة، أو الجماعات، المتسلطة والمستأثرة. ومعنى "الإنعزالية"، على حسب تأويل "وطني" أي عروبي سائر، الجمع بين الإنفكاك من الداخل العربي والإسلامي وسورية "بوابته"، والإنحياز إلى السياسات الأميركية والأوروبية القاهرة والمستغلة، وبين قصر السلطة والمنافع على جماعة دون غيرها. وهي عينها الجماعة المناوئة للعروبة والإسلام والمنحازة إلى السياسات الأجنبية والصليبية، استطراداً. ويسوغ هذا التعريف التنقل بين الحدين: الحد السياسي والحد الإجتماعي، ومزجهما، والكناية عن الحد الإجتماعي بالحد السياسي، وعن الحد السياسي بالحد الإجتماعي. وعلى هذا جاز، وما زال جائزاً، نسبة تفاوت مداخيل اللبنانيين، والفرق بين موارد المناطق، وجازت نسبة السياسة الضريبية، وتردي حال التعليم العام، والقوانين الإنتخابية، إلى ضعف الهوى العربي والميل إلى القوى الأجنبية، والعمل بإيحائها وبمقتضى سياساتها. ويسمى هذا، في رطانة القوم، وحدة المسألة الوطنية والمسألة الإجتماعية، ووحدة قواهما. والوحدة المزعومة هذه تنيط، فعلاً وعملاً، بجماعات طائفية ومذهبية بعينها حمل المسألتين المتصلتين والمتشابكتين، على زعم أصحاب المسألتين ووحدتهما، والإضطلاع بهما. والسيد وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي اللبناني والعربي والصفة الأخيرة للدلالة على مكانة الرجل من الجماعة المذهبية المنتشرة في غير بلد مشرقي، هو وريث هذا التناول لحال لبنان منذ نحو العقود الثلاثة، وهي شغل الإقتتال الداخلي معظمها. وفي الأثناء نقل أصحاب هذا التناول ولاءهم من المنظمات الفلسطينية المسلحة إلى السياسة السورية. وافترض هؤلاء أن اتفاق الطائف 1989 عالج على نحو مقبول مشكلات لبنان المزمنة والملازمة لقيام دولته وكيانه. وهم يرددون أن رعاية السياسة السورية الإتفاق هو ضمان معالجة المشكلات العصية على الحل. وفي مقدم مرددي هذا القول السيد وليد جنبلاط. ولكن حملة الزعيم الدرزي الشوفي على السيد إميل لحود، وعلى حكمه وحكومته، ومنطق هذه الحملة، يدلان على تهاوي تناول حال لبنان على وجه توحيد المسألتين الوطنية والإجتماعية. ويترتب على تهاوي هذا التناول تداعي الركن الذي نهض عليه اتفاق الطائف، وأرساه عليه ضامنه المفترض. وضامنه هو صاحب اليد العليا في أحوال لبنان منذ عقد تام، لا يشاركه في إنفاذ أمره شريك. فالحملة الجنبلاطية - على قائد الجيش السابق ورئيس الجمهورية الحالي، وعلى الحكومة والإدارة والقضاء والأمن و"المدرسة الليبرالية في الحكومة" جميعاً - وهي فصول ولا تقتصر على فصلها الأخير، هذه الحملة تنوه ب"عدالة الحزب" التقدمي الإشتراكي، الجنبلاطي وتعد ب"تطبيقها على هؤلاء المجرمين"، وهم من يشتبه السيد جنبلاط، وجهازه الحزبي، في عبثهم بخلوة والده وسرقتها. وينكر التنويه ب"عدالة" حزبية وأهلية، منفصلة ومستقلة عن القضاء اللبناني، على القضاء هذا قيامه بتبعاته عن مصالح المواطنين وأمنهم قياماً عادلاً ومنصفاً. ويذهب إلى أن "المؤسسات والقانون ... شعارات مزيفة"، وعلى "كل واحد ... أن يحافظ على كرامته بنفسه لأن الدولة لا تستطيع إلا أن تهين كرامة الناس والرموز الوطنية". ويجمع المقدَّم الدرزي هذا ومثله إلى "إجهاض مكاسب الطائف بالمطلق في ما يتعلق بالمشاركة" - أي في ما يتعلق بمشاركة الطوائف الإسلامية، على رأس الحكومة والمجلس النيابي، في السلطة. والذريعة الظاهرة والقريبة إلى هذه الحملة، وهي "تأخر" القضاء والأمن عن الظن والإشتباه في العابثين بالخلوة الجنبلاطية، تبدو، قياساً على تداعيات الحملة وأبوابها ولغتها، ضعيفة. وهي ذريعة إلى الطعن على مجرى سياسي عام كان انتخاب السيد لحود مستهله وأوله، ثم كانت عودة رئاسة الجمهورية، المارونية، إلى الصدارة شارته البارزة. وإذا كان السيد جنبلاط غير قادر على الطعن في الإنتخاب، ولو تورية، ولا على الطعن الصريح في الصدارة المتجددة، وذلك لصدور الأمرين عن "إرادة" يستظلها الزعيم الدرزي والعروبي ولا ينكر رجحانها ولا إنعامها، فهو لا يمتنع من الوصل بين الرئيس الجديد وبين الرئيس الأسبق، خصم والده، كميل شمعون، من طريق استعارة "حصار" المختارة في العام الذي سبق خروج بعض الزعامات المسلمة والناصرية على سياسة كميل شمعون "الأميركية". ويسعى رد "الوكالة الوطنية للإعلام" في صرم النسب، الماروني و"الأميركي" و"الإنعزالي"، الذي يحاول السياسي الشوفي إلباسه الرئيس الجديد وسياسته. فتكتب الوكالة، أو محررها السياسي، إن الرئيس الجديد هو راعي سياسة الحلف "العربي" مع سورية ورئيس دولتها، على خلاف مناوئة الدولة اللبنانية، في 1957 - 1958، العروبة الناصرية وقائدها ورئيسها وهذا الجزء من الرد أغفلته صحف لبنانية تعلن مواثيق الحرية من بيروت. ويضمر الرد هذا خروج الدولة اللبنانية، اليوم، من انتسابها السياسي والتاريخي إلى الدولة اللبنانية قبل أربعة عقود" وهو يضمر نفي الدولة نفسَها من حلقات النسب الشرعية التي ترقى بها إلى إنشائها. والعروبة هي ذريعة الخروج والنفي هذين. فيلتقي الخصمان على نزع الشرعية عن الدولة اللبنانية - الجنبلاطي عن دولة اليوم، والرسمي عن دولة الأمس - من طريق العروبة، والإنتساب إليها، وتقديمها على الهوية السياسية والوطنية والدستورية. فيبدو السيد جنبلاط معذوراً في خروجه من الدولة الواحدة، اللبنانية، وعليها، ومصيباً في انكفائه إلى "عدالة" حزبه وجماعته وعصبيته. فالدولة التي ينبغي أن تتعالى عن الجماعات الأهلية و"عدالتها" لا مرجع لها من نفسها وشرعيتها أو من تاريخها وحلقاته. وهي تتوسل إلى إرساء شرعيتها على ركن مكين بالعروبة الأهلية التي يسند إليها السيد جنبلاط، خلفاً عن سلف، سبقَه، وسبق أسرته وأهل مذهبه، إلى الإقرار بها واعتناقها واعتقادها. فيتساوى الزعيم الأهلي مع "الدولة" في الخروج على منطق الدولة الوطنية وشرعيتها. وجلي أن "الهوية العربية" التي جعلها اتفاق الطائف محل "الوجه العربي"، لم تعالج شقاق الجماعات العصبية على الدولة، ولا عالجت استقرار الدولة على شرعية وطنية متصلة، وإقرار الجماعات بهذه الشرعية ودخولها فيها من غير شرط دخولاً "نهائياً". وما يذهب إليه المقدَّم الدرزي، اليوم، محامياً عن مصالحه، وعما يحسبه مصلحة غرضيته في القيام السياسي الانتخابي برأسها، يسع كل المقدَّمين الأهليين الآخرين الذهاب إليه. والحق أن السيد سمير جعجع، الماروني، لم يذهب مذهباً مبايناً حين قال أو استدرج إلى القول، لا فرق غداة مقتلة في كنيسة صغيرة إلى الشمال من بيروت، إن عجز الدولة عن ضمان أمن "مناطقهم"، وهو يعني بلاد جماعته، قد يدعو أهلها إلى تولي أمنهم بأنفسهم. والفرق هو في العبارة، "تولي أمن مناطقنا بأنفسنا" محل "تطبيق عدالة الحزب". وإذا بدا لمقدَّم شيعي، أو سنّي، أو أرثوذكسي، في وقت آتٍ، أن مؤسسات الدولة وقانونها "شعارات مزيفة" فلن تحول عروبة الرئيس الماروني السياسية دون استقواء المقدَّم المظلوم، أو المشتكي الظلم، بعروبة أعرق من العروبة الطريفة والمظنونة على الدوام. ولن يحول دون الإنفجار إلا إقامة ضامن السلم، من خارج، على حاجته إلى هذا السلم، وقدرته على ضمانه. * كاتب لبناني.