منذ العدوان الإسرائىلي في الأسبوع الأخير من حزيران يونيو الماضي على البنى التحتية اللبنانية، العلاقة بين رئىس الجمهورية إميل لحود ورئيس الحكومة السابق رفيق الحريري تشهد تراجعاً ملحوظاً في ظل غياب أي شكل من أشكال الإتصال أو التواصل، ما عدا المصافحة التي تمّت بينهما على هامش مشاركتهما في تشييع جثمان العاهل المغربي الملك الحسن الثاني في الرباط، في مقابل نجاح الجهود السورية في تحضير الأجواء امام قيام رئىس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب وليد جنبلاط بزيارة للقصر الجمهوري في بعبدا شكّلت أول مناسبة للبحث في الشأن السياسي العام. قبل الخوض في الأسباب الكامنة وراء تدهور العلاقة بين رئيس الجمهورية وبين رئىس الحكومة السابق من جهة، وفي المعطيات السياسية التي انتهى اليها اجتماع الأول بجنبلاط، هناك من يعتقد بأن لدى الحكم مفهومين للتعامل مع المعارضة. المفهوم الأول ينطلق من القاعدة القائلة بأن هناك إمكانية لاستيعاب المعارضة من خلال الانفتاح عليها والتشاور معها بغية إيجاد المناخ لإطلاق حوار يتجاوزها الى الشخصيات والقوى السياسية الموالية التي تجمعت لديها ملاحظات لا بد من مصارحة سيد العهد بها، رغبة منها في الحفاظ على الإجماع الشعبي والسياسي الذي حظي به انتخاب لحود رئىساً للجمهورية، خصوصاً أن بعض الموالاة قرر أن يرسم لنفسه مسافة، رافضاً البوح في العلن بالملاحظات لئلا يصنّف في جوقة المعارضة. ويرى أصحاب النظرية الإستيعابية بأن بقاء المعارضة على اتصال وثيق برئىس الجمهورية من شأنه توفير الحماية للعلاقة الشخصية التي تسهم في التخفيف من حدة المواقف وتلعب دوراً في إيجاد المخارج على الأقل لعدد من القضايا العالقة أو تلك المطروحة على الساحة اللبنانية، وعلى خلاف مؤيدي النظرية الثانية الذين يعتقدون بأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع أو ربما لدفع المعارضة الى التوقيع على بياض من دون أن تحرك ساكناً. واللافت ان دمشق كانت وما زالت على الدوام تنصح بتغليب الحوار وتتعامل معه على انه الطريق الوحيد ليس للحفاظ على الاستقرار السياسي فحسب وإنما لقطع الطريق على الذهاب بعيداً في الخلاف على نحو يعيد العلاقات الى نقطة الصفر، خصوصاً وأنها لا تتردد في التأكيد على دعمها للعهد في موازاة تشديدها على اهمية الحوار. وعلى رغم ان البعض في السلطة يرفض التعاطي مع جنبلاط على انه قوة سياسية مستقلة ويتعامل حيال ما يطرحه من زاوية ان الحريري يدفعه الى المعارضة وبالتالي لا بد من تركيز الجهود بهدف تحقيق فك اشتباك بينه وبين رئىس الحكومة السابق لذلك فان هذا البعض لا يرى في الزيارة التي قام بها جنبلاط لرئىس الجمهورية سوى محاولة يراد منها الترويج لعودة الحريري الى رئاسة الحكومة وأن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اثار هذا الموضوع اثناء اللقاء ولم يلقَ أي تجاوب. وقد آثر جنبلاط، عدم الدخول في سجال مباشر حيال ما ذكرته مصادر رسمية عن فحوى اللقاء واحتفظ لنفسه بسرية المداولات التي دارت مع رئىس الجمهورية ليكون في مقدوره اطلاع المسؤولين السوريين على النتائج انطلاقاً من تقديره للدور الذي لعبوه لجهة تحضير الأجواء امام الإجتماع. والشيء الوحيد الذي أكدته مصادر جنبلاط "أنه لا يسمح لنفسه بأن ينوب عن لحود والحريري في طرح قضايا ثنائية تخصّهما مباشرة"، رافضة "ما اشيع انه انتدب نفسه وسيطاً بين الطرفين"، ومؤكدة ان اسم رئيس الحكومة السابق "طرح في سياق مبادرة جنبلاط الى اثارة الآثار السلبية المترتبة على استمرار فتح الملفات والتي اصبحت تعني ملاحقة الحريري شخصياً وتعقبه في حله وترحاله". واضافت "ان جنبلاط سمع من لحود تأكيده على استقلال القضاء اللبناني وعدم تدخل السلطة التنفيذية في شؤونه ومن ثم رغبته في التعاون مع الحريري لكن لحود فوجئ باعتذار الحريري ومن ثم قيامه بالتحرك على المستويين المحلي والخارجي ضد الحكم والحكومة". وأشارت المصادر الى ان جنبلاط "شدد على ضرورة تطبيق اتفاق الطائف الذي يتيح الفرصة لمشاركة الجميع في السلطة التنفيذية من خلال تأليف حكومة ذات طابع سياسي"، مشيرة الى "ان اللقاء انتهى عند حدود المصارحة المتناهية بتبادل الرأي حيال كل ما هو مطروح. وفي المقابل، لم يطرأ أي تبدل في موقف الحكم من الحريري إذ أن بعض المصادر الرسمية ما زالت تتهمه بأنه "يقف وراء الحملات الاعلامية في تحريضها على الحكومة، ويستمر في تحريض اطراف خارجية للتأثير سلباً على الوضعين الإقتصادي والمالي ولم يتوقف حتى الساعة عن تأليب أطراف لبنانية ودفعها الى المعارضة .. بدلاً من أن يلوذ بالصمت في وقت تسعى الحكومة جاهدة إلى إخراج البلد من وطأة التركة الثقيلة الموروثة عن الحكومات التي ترأسها والتي ما زالت آثارها السلبية تتفاعل على كل الصعد". ويبدو من الكلام الذي تتناقله بعض المصادر الرسمية أن "لا امل في المدى المنظور لإصلاح ذات البين بين لحود والحريري على رغم ان احد نواب كتلته القرار الوطني بادر لدى زيارته الاخيرة لرئيس الجمهورية في بيت الدين الى طرح مستقبل العلاقة، مبدياً استعداده للعب دور الوسيط". وقد حاول النائب، الذي سمع موقفاً من لحود مفاده انه لن يدخل في خلاف مع رئىس المجلس النيابي نبيه بري، إعداد نفسه للوساطة بعد ان اطلع الحريري على اجواء زيارته لرئىس الجمهورية. وكان ردّ الحريري ان "لا مشكلة لديه مع فخامة الرئىس، وأنه حاضر لزيارته متى يشاء، وأن لا نية عنده بمقاطعته". وتابع الحريري "سارعت فور عودتي من الخارج الى الاتصال بالرؤساء الثلاثة وكان العدوان الاسرائىلي لا يزال مستمراً، وأبلغت الرئىس لحود أنني أضع نفسي في تصرف البلد ومستعد للقيام بكل ما يطلب مني للتصدي للعدوان وللنتائج التي خلّفها". واضاف "بعد مضي يومين على الاتصال الاول، عدت واتصلت برئيس الجمهورية ونقلت اليه رغبتي في زيارته، وكان الجواب ان الوقت ضيق الآن لانشغاله في مواكبة الاجتماعات والاتصالات الهادفة الى اصلاح الاضرار الناجمة عن العدوان". وسأل الحريري امام النائب "هل يعقل لأحد ان يقول اني مقاطع لرئىس الجمهورية ولا أنوي زيارته في بعبدا، وكنت أول من أكد بعد اللقاءات التي عقدتها معه والتي أعقبت اعتذاري عن عدم تشكيل الحكومة بأننا تجاوزنا الآثار السلبية المترتبة على الإعتذار وأني على استعداد للتعاون معه في اي موقع اكون فيه؟". وأكد "ان البعض يتهمني بأني ما زلت أراهن على عودتي في وقت قريب الى رئاسة الحكومة، وأخذ يتطلع الى تحركاتي من هذه الزاوية، وأنا اقول لهؤلاء، ربما كنت افكر في العودة، لكنني اجدد اليوم التأكيد بأني مع بقاء الحكومة". وعاد الحريري الى التساؤل: "هل أنا مسؤول عن التخبّط الحكومي؟ لقد قررت الصمت في الأشهر الأولى من قيام الحكومة، وأكدت استعدادي لدعم العهد والتعاون معه، وكنت من علّق الآمال على انتخاب العماد لحود وراهنت على قيام دولة المؤسسات والقانون". واضاف "كنت اول من اعترف وأثناء رئاستي للحكومة بحصول إهدار وقد دعوت إلى إصلاح الإدارة، لكن الظروف السياسية حالت دون ذلك"، مشيراً الى "ان ما يحصل الآن تجاوز فتح الملفات في حق عدد من الموظفين الى الإنتقام السياسي". وتابع "ان الدولة كانت في حاجة الى ان تثبت صدقيتها امام الرأي العام، وأن تبعث على الثقة من خلال وقف الإهدار، لكنها ارادت الدخول في تصفية حساب بغية محاكمة العهد السابق .. ألا يحق لي الدفاع عن النفس في وجه الحملات التي تستهدفني؟ وهذا ما أردته من خلال المقالين اللذين أعددتهما ونشرتهما في عدد من الصحف اللبنانية؟". في ضوء تبادل المرافعات بين اوساط مقربة من الحكم وبين مصادر محسوبة على الحريري وجنبلاط لا بد من التأكيد بأن السجال لا يزال مسيطراً وأن الحوار ليس في متناول اليد الى حين بروز الضرورات الإقليمية التي تملي على الجميع اعتماد لغة جديدة في التخاطب السياسي، وهذا ما يراهن عليه من يتوقع مبادرة من دمشق للنزول بكل ثقلها لتبديد اجواء القلق، خصوصاً وأن هناك فريقاً ثالثاً هو في صلب الموالاة، وداعماً للعهد اختار لنفسه الصمت للتعبير عن عدم ارتياحه في وقت لا يجوز تغييب ما يصدر عن الرئىس بري من ملاحظات رغبة منه في تحسين أداء الحكومة، وتبديد ما يساوره من قلق.