من آداب الصحف العربية ألا تخوض في شؤون احداها الأخرى. هذا أدب، إلا أنه ليس صحافة. الصحافة الأجنبية لا تترك على أحد "ستراً مغطى"، كما تقول العبارة العربية، مع أن هذه الصحافة تملك من الحرية ان تهاجم حكومات، وأن تنشر الأسرار العامة والخاصة. أما صحافتنا فلا تملك من الأمر العام شيئاً، ثم يمنعها الأدب من خوض أمر نفسها، فلا يبقى غير الفتات. في مثل هذا المجال، ميثاق الشرف الصحافي، في أي بلد أو منطقة، هو رقابة ذاتية باسم آخر، أو رقابة اضافية تضاف الى كل الرقابات الأخرى التي تحاط بها رقاب الصحافيين. غير أنني لست عنتر عبس زماني، ولن أكسر القاعدة المهذبة المؤدبة بالخوض في محظورات، وانما اكتفي بالحديث عما أتابع في الصحف الأجنبية. اقرأ مجلة "برايفت آي" الانكليزية، وهذه تكاد تقف نصف مادتها على مهاجمة الصحافة والصحافيين، وفضح كل تقصير حقيقي أو متوهم. وهي تضم زاوية دائمة بعنوان "شارع العار"، أي "فليت ستريت"، أو شارع الصحافة، كما ان فيها ركناً باسم "مراقبة الصحافيين"، والويل للمخطئ منهم، وفي العدد الأخير قرأت كلاماً لبعض الصحافيين الانكليز عن كوسوفو، ثم كلاماً لهم يناقضه، مع سخرية المجلة من التناقض وأصحابه، ولا يكاد يمضي عدد من دون قضية في المحاكم لهذه المجلة، وهي ربما كانت السبب الذي اقنع السير جيمس غولدسميث بترك الصحافة، بعد أن خاض مع "برايفت آي" معركة في المحاكم استمرت سنوات. ولا يقتصر الأمر على مجلة واحدة، أو صحف الاثارة، فالصحف الرصينة تنتقد احداها الأخرى، من دون خجل. وقبل أيام قرأت مقالاً ذكياً الى درجة الخبث في "الاندبندنت" كتبه اندرو نيل، الذي عمل في السابق رئيساً لتحرير "الصنداي تايمز"، فقال فيه ما لم يستطع قوله في جريدة يملكها روبرت ميردوخ. اتهم اندرو نيل الصحف كلها بالتعتيم على الأخبار الخاصة لميردوخ، فهي لا تذكر الا عرضاً انه ترك زوجته وأم أولاده وصادق شابة صينية هي وندي دينغ، أصبحت خطيبته الآن، رغم فارق أكثر من 30 سنة في العمر بينهما، ولاحظ الكاتب ان ميردوخ منع صحفه من الخوض في تفاصيل فضائح زوجة اللورد روذرمير، ناشر "الديلي ميل"، ولقبها "بابلز"، فلعل هذه الجريدة ترد الجميل لميردوخ الآن. في الوقت نفسه كتبت الصحف كلها عن كونراد بلاك، ناشر "الديلي تلغراف"، فزعيم حزب المحافظين المعارض رشحه للقب "لورد مدى الحياة"، إلا أن الحكومة الكندية اعترضت على منحه اللقب طالما انه يحمل الجنسية الكندية. ووجدت الصحف في الموضوع سبباً للخوض في أدق تفاصيل حياة بلاك، في كندا وانكلترا، وفي الحديث عن زوجته الصحافية بربارة أميل، وعلاقاته السابقة من مهنية وغيرها. وواضح ان مثل هذه الأخبار مقروء، لذلك تطرقه الصحف المثيرة والرصينة. إلا أن تعامل هذه الصحف، بعضها مع بعض، لا يقتصر على ما قد يعتبره القارئ العربي، اخباراً اجتماعية، فهي تنتقد نفسها في كل مجال. وأمامي الآن مقال لاذع كتبته اميليا جنتلمان ودنكان كامبل موضوعه مقارنة بين تعامل الصحف البريطانية مع موضوع بطلته، أو شريرته، بيضاء، وموضوع بطلته من لون مختلف. والقارئ ربما كان يذكر قصة المربية الانكليزية لويز وودوارد التي دينت بهز طفل حتى الموت في اميركا، وحكم عليها، وتابعت الصحف البريطانية قضيتها باهتمام بالغ حتى غادرت السجن وعادت الى انكلترا. قبل أيام دينت امرأة تحمل الجنسية البريطانية في كاليفورنيا بهز طفل حتى الموت، إلا أن الصحف البريطانية لم تكد تنشر الخبر، فالمرأة اسمها مانجيت كور باسوتا، وهي سمراء من أصل هندي، فلم تنهض صحيفة انكليزية واحدة للدفاع عنها، كما حدث مع لويز وودوارد. إلا أنه وجد صحافيان شجاعان يفضحان تقصير بقية الصحافة الانكليزية أو عنصريتها. أين نحن من كل هذا؟ عندنا مواثيق شرف، هي في الواقع رقابة اضافية باسم آخر، والصحافي العربي يمنع من متابعة أخبار حكومته بجهد شخصي واجتهاد، ثم يطلب منه باسم الشرف ان يبتعد عن الأمور الخاصة، بما فيها أموره، ومع ذلك فهو مطالب بتحري الدقة، كأن الاخبار متوافرة له من مصادرها، ومع تحذيره من "الاثارة والتجريح والفتنة" كأن القارئ جاهل يحتاج الى وصاية، ولا يفرق بين الخيط الأبيض والأسود. وكنت وعدت نفسي والقارئ ان أتحدث عن صحافة "الخواجات" فقط، فأكمل غداً.