عقدت ندوة فنية بالغة الأهمية في مدينة صفاقس تحت عنوان "موقع الفنان التشكيلي اليوم"، وهي جزء من برنامج فعاليات المهرجان العالمي للفن التشكيلي في المحرس الدورة الثانية عشر. تتجلّى أهمية الندوة التي اشرفت عليها ليس فقط في ارتقاء مستوى الاختصاص فيها الى تقنية رفيعة، وإنما وهو الأهم في الطابع التعدّدي الذي جمع شتى العقائد النظرية والتشكيلية والتي وصل تباعدها الى درجة كُشف فيها الصراع المضمر بين المختبر النظري والمختبر الحرفي أو العملي، وبلغ الحوار حالة من المواجهة الصدامية الفكرية في بعض الحالات. عُرف المحترف التشكيلي التونسي بخصائص اللقاح والاندماج بين دوري الفنان الممارس والفنان الباحث خصوصاً في ساحة معهد الفنون، وقد عرفنا من هؤلاء سمير تريكي، ونورالدين الهاني، كان غيابهما واضحاً في الندوة، أما الثالث فهو رشيد فخفاخ وقد تناوب على إدارة الجلسات مع الفنان سامي بن عامر. ومما يجمع هؤلاء هاجس "المفردة التشكيلية" التي حاولوا أن يصالحوا في برزخ توليفها بين الأبجديات الهندسية للرقش الأرابسك والتجريد الغربي ولم ينج من هذا التوجّه حتى رفيق الكامل وقويدر التريكي، فانعكس هذا الهاجس في محاضرة حياة التليلي التي كانت تحت عنوان "الترجيع والقيم الجديدة في التشكيل"، وتوزعت لغة المؤتمر بين العربية والفرنسية. شارك في الندوة اذاً متخصصون في علم الجمال: رشيدة تريكي، حياة تليلي، أسعد عرابي، ونقاد فنيون: بادي بن ناصر، شربل داغر، وفنانون ممارسون وهم الأغلبية على مثال الحبيب بيده وجعفر الكاكي وريشار كونت ونازلي مدكور. كما شارك في الحوار عدد من الفنانين والنقاد والصحافيين اللامعين من المدعوين: بلخوجه، حمودة، فاتح بن عامر، بسمة هلال، بكر شيخون وعدد من المثقفين. لم تأخذ الندوة إذاً طابع المختبر الاختصاصي أو الجامعي المعزول أو المغلق، وانما على العكس فقد اتسمت بطابع المنبر الحرّ المعتمد على المواجهة والتقابل والحوار والاختلاف بين هذه الميادين والاختصاصات الفنية المتعددة. افتتح المؤتمر المثقف التونسي المعروف فتحي التريكي دارساً موضوع عالمية الثقافة واشكاليات العولمة وخصائصها الشمولية ومخاضاتها المترقبة على مشارف القرن الحادي والعشرين، على المستوى العالمي والمحلي، وجسدت دراسة رشيدة تريكي رفعة المستوى الفلسفي ودقته الإصطلاحية التي بلغها تطور مبحث علم الجمال في معاهد الفنون الجامعية التونسية، لدرجة أن المداخلة بدت وكأنها موجّهة الى المتخصصين ابتداء من عنوانها: "الإبداع وجاهزية التحفّز"، وهي رئيسة جمعية الجمالية و"الإنشائية في تونس، والمتوازية مع توأمتها التي أسسها عالم الجمال باسرون في باريس. تمركزت حيوية الندوة في المواجهة المباشرة والصريحة والشجاعة بين الفنانين الممارسين والمنظرين في ميدان علم الجمال الى الصحافة مروراً بالنقد الفني. وقد كشفت المساجلات بين الطرفين عمق الهوّة التراكمية المزمنة التي شكلتها مساحة سوء الفهم أو العلاقة الشائكة بين المختبر التشكيلي وأصحاب النقد الفلسفي أو الأدبي أو الإعلامي. وتعرضت شخصياً في مداخلتي لهذه العلاقة المأزومة تحت عنوان "العلاقة الملتبسة بين الناقد والفنان"، وتحدث الحبيب بيده تحت عنوان "كن فناناً واصمت"، ووضع الناقد ناصر بحثه تحت عنوان "النقد الفائض" بمعنى غير الضروري، وقد رجحت كفة النقاش لصالح التشكيليين الممارسين بدليل تعاطف الجمهور مع عروض جعفر الكاكي على رغم تواضع قدرته الشرحية على التعبير بالكلمة على عكس بلاغة أعماله الطباعية التي عرضت في وسط القاعة. واستحضر المناقشون في هذه المناسبة مفهوم "الصمت" الذي يتمسك به التشكيليون والإحالة هنا الى أندريه مالرو الذي استخدم التعبير لأول مرة في الخمسينات في كتابه الذائع الصيت "أصوات الصمت"، مؤكداً فيه على الصوت النوعي للغة التشكيل والتي تعصي على نقد الكلمة أو الفلسفة. فالعلاقة التي تمسك بوحدته في هذا المقام تتصل بالتيار السحري والنواظم الموسيقية. وقد عرض بعد ذلك الفنان الفرنسي ريتشار كونت شرائح ملونة سلايد عن تجربته الأخيرة المتصلة باجتياح لعبة كرة القدم وأرفقها بالشرح. ولم تكن منطلقاته التوليفية مقنعة، لأنها تناقضت مع فحوى نتائجه التشكيلية التي تجتر طبائع الفرشاة والعجائن الخاصة "بالتعبيرية التجريدية" التي تعود الى سنوات الستين وتتعارض مع دعوته النظرية "ما بعد الحداثية". وقد احتل الفنانان جزءاً كبيراً من أسئلة الحضور واهتمامه، كما استضيفت الفنانة المصرية نزلي مدكور فتعرضت لخصائص الحركة التشكيلية النسائية في مصر منذ الحبوات النهضوية المبكرة وحتى اليوم. حفلت الندوة ختاماً بالمواجهة الصريحة الأولى من نوعها بين الفنانين والنقاد، ونبش أسباب الاختلاف منذ تنظيرات أفلاطون حول نظرية التقليد. وتجرأ الفنان لأول مرة على نقد النقد الصحافي المتسرّع والاستهلاكي، بعد أن عانى من علاقة المكابرة والحذر والخشية. فسلاح النقد أشدّ مضاء من الفرشاة والصباغة والإزميل. وكم مرة رمى هذا السلاح بتجارب وضاءة في مساحة الظل، ودفع بتجارب هجينة الى مستوى النموذج الثقافي. وقد آن الأوان لمراجعة هذا الالتباس، اذ ان الكيل قد طفح حقاً. لعل اهمية الندوة انها ألقت الضوء الساطع على العلاقة التي طالما قامت بين الفنانين والنقاد على أكثر من مستوى.