لا تزال شخصية ايهود باراك تبدو لغزا للمعلقين الاسرائيليين، ناهيك عن المعلقين الأجانب، خصوصا العرب. وكان باراك قضى مرحلة تكوينه، من سن 18 الى 30، ضابطا ثم قائدا لوحدة الكوماندو الأكثر امتيازا في اسرائيل، "سياريت متكال". لكن الفترة تبقى طيّ الغموض بسبب الرقابة العسكرية. كما لا نعلم حتى ظروف منحه ثلاثة من أوسمته الأربعة للشجاعة في ميدان القتال التي جعلته الجندي الاسرائيلي الأكثر أوسمة. ولا نعرف شيئا عن تأثير دراسته في الولاياتالمتحدة، حيث حصل على شهادة "ماستر" في الرياضيات التطبيقية وتحليل الأنظمة. كما لا نعرف عن السنين التي قضاها في قيادة الجيش، من تعيينه قائدا مساعدا لقسم العمليات في 1976، وتسلم قيادة الاستخبارات العسكرية، وصولا، بعد 18 سنة، الى انهائه الخدمة العسكرية رئيساً للأركان. واذا كان هناك ما نعرفه اكثر عن باراك فهو آراؤه الاستراتيجية، مثل تركيزه على الردع المعتمد على الأسلحة المتطورة القوة الجوية، الصواريخ، الغواصات النووية، وليس عن طريق احتلال الأراضي والدبابات. يعرف عنه ايضا تفضيله الانسحاب من الجولان، لكنه لم يوضح حتى الآن على الأقل ليس علنا الاسلوب الذي ينوي استعماله ل"العزل" الذي يريده بين اسرائيل والكيان الفلسطيني. من الصعوبات امام الراغبين في اطلاع أوسع على شخصية باراك وآرائه ان هناك كتاب واحد فقط عن الموضوع، وهو من مستوى متواضع من حيث الاسلوب والمحتوى. عنوان الكتاب "الجندي الرقم 1"، وهو من تأليف ايلان كفير وبن كاسبيت، اللذين ألفاه بالعبرية وأصدراه مع ترجمتين الى الانكليزية والروسية. والواضح ان المؤلفين كتباه بسرعة كجزء من حملة باراك الانتخابية. مع ذلك فالكتاب، اضافة الى التقارير الكثيرة في الصحف الاسرائيلية الرئيسية الثلاث، مفيد جدا للمحلل الذي يستطيع وضع المعلومات في سياقها الحقيقي، كما انه قد يفيد في شكل خاص في تصحيح افتراضات بعض المعلقين العرب عن باراك. لا اقصد المعلقين الرافضين بعنف عملية السلام، الذين لا يهمهم سوى البحث عما يدل الى ان باراك نسخة جديدة عن نتانياهو، بل اولئك الذين يحاولون مخلصين فهم اسرائيل كما هي، مهما كان موقفهم الانتقادي منها أو من عملية السلام. وسأعطي هنا ثلاثة أمثلة على تلك الأخطاء الممكنة. المثال الأول هو ان المعلق قد يستنتج من نشأة باراك في حركة الكيبوتز، على وجه التحديد في كيبوتز مشمار ها شارون، وهو "ذلك النوع من الكيبوتز الذي يعطي الأرض والأمن أهمية قصوى" كضمان للبقاء، أن رئيس الوزراء الجديد ينتمي الى صنف الصقور الذي يلتزم فكرة "اسرائيل الكبرى"، وان من منظور علماني. لكن علينا ان نعرف أيضا ان نسبة "الحمائم" أي المؤيدين للانسحاب من معظم الأراضي وايضا لاقامة الدولة الفلسطينية الى "الصقور" في حركة الكيبوتز هي ثلاثة الى واحد، فيما النسبة متساوية تقريبا في الرأي العام الاسرائيلي ككل. من هنا فان هذا المنشأ قد يقود الشخص في اتجاه معاكس تماما للمتوقع. من النقاط المثيرة للاهتمام في هذا السياق ان باراك، مثل غالبية شباب الكيبوتز، لم يمر بمراسيم ال"بار متزفاه"، اي العمادة كيهودي. وهو بهذا يشابه اسحق رابين في تنشئته العلمانية الصرفة خلاف التنشئة الدينية لشمعون بيريز ونتانياهو ولا يعطي اهمية لشعارات الحركات الدينية - السياسية، مثل غوش امونيم، التي تلتزم "البقاء في يهودا والسامرة أرض الاجداد". المثال الآخر على استنتاج متعجل هو اعتبار تعيين باراك رئيسا للأركان قرار من رئيس الوزراء الليكودي المتشدد اسحق شامير ووزير دفاعه موشي آرينز دليلا الى تقارب في الرأي بين الثلاثة. لكن هذا يقلل من التزام شامير وآرينز المقاييس المهنية البحتة في التعيينات العسكرية، ولا يمكن للاثنين، على خلاف نتانياهو، ان يقحما الاعتبارات السياسية في تعيين القيادات العسكرية العليا. من الأمثلة على ذلك انهما قاما بترقية أوزي دايان، ابن اخت موشي دايان والمعروف بميوله "الحمائمية"، الى رتبة جنرال، وهو الآن نائب رئيس الأركان. لكن، ماذا عن آريل شارون؟ ألم يساعد باراك اثناء وجوده في الجيش؟ ألم يكن باراك من بطانته وجوقة المعجبين به؟ هذا صحيح الى حد ما، أو انه كان صحيحا قبل عشرين سنة. والسؤال الآن هو عن مدى استمرار هذه العلاقة بين الاثنين، وامكان تأثيرها على التحالفات السياسية والقرارات. انها من دون شك نقطة تحتمل الكثير من الأخذ والرد. لكن، من السوابق التي يمكن اخذها في الاعتبار العلاقة بين رابين وشارون. فقد تولى رابين، عندما كان رئيساً للأركان، حماية شارون من اعدائه الكثر ورفعه الى رتبة جنرال على رغم معارضة رئيس الوزراء ليفي اشكول. وحافظ الاثنان على الاحترام المتبادل بينهما، على المستويين الشخصي والمهني، خلال السنين ال32 التالية، على رغم ذهاب كل منهما في طريقه الخاص، المعارض سياسيا لطريق الآخر. ويبدو ان هذه هي حال العلاقة بين شارون وباراك. فقد واجه باراك أواخر حزيران يونيو الماضي الخيار بين تحالف يضم حزب "شاس" الديني وآخر يضم ليكود. وكان معنى الخيار الأول اطلاق يده في مجال السياسة الخارجية مقابل الاستمرار في دعم المدارس الدينية وعدم فرض التجنيد على طلبتها، فيما عنى التعامل مع ليكود اطلاق اليد في القضايا الداخلية، ومن بينها الدينية، مقابل حق ليكود في استعمال الفيتو ضد مبادراته الخارجية. واختار باراك، على رغم المباحثات الودية مع صديقه القديم شارون الذي اصبح رئيس ليكود، التحالف مع "شاس". هل يعني كل هذا اننا تمكّنا من حل لغز باراك؟ لا أبداً. اذ لن نعرف الا بمرور الزمن قدراته التفاوضية والبرلمانية والادارية، ومدى سرعة تعلمه من الاخطاء التي لا بد انه سيقع فيها بسبب حداثة عهده في السياسة دخلها قبل اربع سنوات فقط عندما عينه رابين وزيراً للداخلية. هذه هي الاعتبارات التي ستحدد فاعليته كمؤيد لعملية السلام، وليس النقاط الثلاث اعلاه. مع ذلك فان النقاط تشكل مؤشرا لا يخلو من اهمية لمدى عدم معرفة بعض الدوائر العربية بشؤون اسرائيل. وكما نعلم فان عدم المعرفة يقود الى سوء الفهم، واذا أسأت فهم جارك، سواء احببته ام كرهته، فقد يضر ذلك بمصلحتك. عدم المعرفة قد يكلفك الكثير. * كاتب اسرائيلي.