لم تبخل الحوادث، أو الحدثان، على قول العرب، على الصحافيين اللبنانيين بالتأديب القاسي. فأوقعت الحوادث، من طرق إنسية معروفة، على الصحافيين التعزيرَ والسجن، ولم تعف عن القتل في غير موقف من المواقف. فقتل نسيب المتني، عشية "حوادث" عام 1958 الأهلية والعربية، أو الأهلية العربية من غير عطف شأن معظم حوادثنا وفتننا، وبقيت ملابسات اغتيال رئيس تحرير "التلغراف"، إحدى الصحف الشعبية والعروبية، غامضة. وغداة "الحوادث" التي اتفقت مع "أول وحدة عربية في تاريخ العرب الحديث"، وهي الوحدة المصرية السورية شباط / فبراير 1958 - أيلول / سبتمبر 1961، قتل ناصريون لبنانيون من "المقاومة الشعبية" فؤاد حداد، "أبو الحن"، كاتب عمود يومي في صحيفة "العمل" الكتائبية، اللبنانية وغير العروبية، أي "الرجعية" و"العميلة" - في لغة تراشقنا بالتعدد والتعايش وتجديد المعنى -. وكان حداد أقذع في كلامه، السجالي والخطابي السياسي، على "الريس". وفي عام 1966 قتل قتلة معروفون، ناصريون عروبيون، كامل مروة، منشئ "الحياة" ورئيس تحريرها. وكان اغتيال مروة جزءاً من الرد الإرهابي على حلف "إسلامي" مزمع، على معنى الإرهاب المعجمي. وفي أثناء الحروب الأهلية العربية، الملبننة، هجر صحافيون كثر الأراضي الوطنية" وهي وطنية على معنى الإقليمية، أولاً، وعلى المعنى المحلي الذي يحمل الوطنية على العصبية العروبية، ثانياً. فإذا اضطر بعض المهاجرين إلى العودة إلى الأراضي الوطنية، على المعنيين المتقدمين - والإضطرار كان السبب في عودة سليم اللوزي صاحب "الحوادث" الأسبوعية إلى طرابلساللبنانية أو طرابلس "الشام" - أُدبوا التأديب الذي لا فائدة من بعده لأديب أو لطالب أدب ومتأدب. وقتل صحافيون غير اللوزي، مثل إدوار صعب، رئيس تحرير "لوريان - لوجور" اليومية الفرنسية، قنصاً. ولم يثبت التعمد والقصد على قتلة بقوا مجهولين. ونجا السيد طلال سلمان، صاحب "السفير"، من محاولة قتل، قنصاً، غداة انتصار "الحركة الوطنية"، والإسلامية، و"انتفاضتها" في 6 شباط فبراير 1984. ولم يشك السيد سلمان في ضلوع "أجهزة أمين الجميل" في المحاولة الخائبة. ونجا السيد حسن صبرا، صاحب "الشراع" الأسبوعية، من محاولة اغتيال، غداة إفشائه ملابسات ما عرف ب"إيران غيت"، أو صفقة السلاح الإيرانية والأميركية، في عام 1988. وقتل مصطفى جحا، صاحب "الخميني يغتال زرداشت" وصاحب "الإمام المغيب موسى الصدر"، غداة عودة "السلم الأهلي" إلى أراضٍ وطنية بعضها كان ما زال منقوص الوطنية. وكان جحا، الشيعي المهاجر قسراً من بلاد صور إلى ضواحي بيروت "الشرقية"، آخر حبات العقد المدمى. وفي الأثناء، قامت الدولة، أو "عادت"، على قولٍ لبناني شائع ومشخِّص. ومن الأمارات على عودتها إحالة الصحافيين على القضاء، وتولي القضاء الرد على بيانات جمعيات حقوق الإنسان الدولية في صفة الحال اللبنانية لهذه الحقوق، ومنافسة وزير الداخلية القضاء على الرد أو إيعازه إليه بالرد. ومن الأمارات كذلك السعي الحثيث في توحيد الإعلام الوطني على معيار واحد، عروبي. فإذا حسب بيار عطاالله، صحافي "النهار" اللبنانية، أن معيار العمل الصحافي، المهني والإعلامي، يقضي بمحادثة "أبو أرز"، أحد المنحازين إلى السياسة الإسرائيلية في لبنان، ظُن فيه توزيع بيان صادر عن "القوات اللبنانية" المحظورة، ثم أخلي سبيله. ثم وهذه زمنية وليست سببية ضرب على قارعة الطريق، قبل أن يطلب السلامة من طريق الهجرة إلى باريس. وكان مصدر التهمة، في الحوادث هذه كلها أو معظمها، "الحزب" العروبي. فالصحافيون هؤلاء نُسبوا إلى حزب غير الحزب "الوطني"، ما خلا من التبس أمرهم، ولم يقتل معظمهم، و"اقتصر" على محاولة اغتيالهم. فكأن بين الصحافة، الكثيرة الآراء شأن كثرة الجماعات وأهوائها ومصالحها، وبين السياسة "الوطنية" الواحدة، خلافاً لا يهدأ. ويقسم الخلافُ هذا الصحافيين و"جسمهم" المهني المتفرق، وغير المجمِع ولو على مصالح أهل الجسم وعلى آداب المهنة. فالجماعة، وعصبيتها، فوق الجسم المهني. وإذا أجمع الجسم المهني فشرط إجماعه ألا تتطاول التهمة إلى "وطنية" المظنونين. فإذا تطاولت التهمة إلى "وطنيتهم" صح فيهم قول الشاعر: "ليس للمساء إخوة". وفي ضوء هذا التأريخ المختصر جاء في بيان وقّعته نقابتا الصحافة نقابة ناشري الصحف وأصحاب "امتياز" نشرها والمحررين، اللبنانيتان وأذاعتاه في 3 آب أغسطس، أن لبنان هو "الوطن الذي لا يمكن إلا أن يكون وطن الحرية والديموقراطية في هذا الشرق. فإذا نال هذه الميزة أي انتقاص، فان هذا الانتقاص لا بد أن ينعكس سلباً على جوهر لبنان ومعناه ودوره الحضاري ... وهذا الموقف الذي تعتمده الصحافة لم يكن يوماً موقفاً ظرفياً ... وتبقى الحرية الضمان الأكيد لقوة لبنان وعنصراً من أهم عناصر تعزيز صموده الوطني ... ولم ينتج من ممارسة الحريات الصحافية في أي يوم ضرر لأي قضية وطنية ...". ويفترض القول المتشعب المعاني هذا، وهو قيل في معرض الإنتصار لصحافيين وضعوا موضع الظنة والتحقيق الماليين والإداريين من طريق الصحافة وأخبارها، أن "وطن الحرية والديموقراطية" مستقر على هذه الحال، وجامع لصفاتها متمتع بها، إلى حين الحادثة المشؤومة والمنكرة التي يندّد بها بيان النقابتين. فيستفاد من هذا الوصف أن ضعف الفرق بين صحافة لبنانية، أي تصدر في لبنان، "مناضلة" ومتحزبة، وبين صحافة خبر وتحقيق تقدم هذين على رأيها ودعوتها، غير قائم أو ليس خطيراً ولا مهماً يبعث على الهم والإهتمام. ويستفاد من هذا الوصف أن انقلاب التعليق والتعليل الصحافيين، في الصحافة اللبنانية، إلى "أسرار آلهة" يوكل إلى صحافيين مقربين ومؤتمنين إذاعتها في الناس القراء وعليهم، فيخرج الصحافي من دور الرقيب والناقد، المميِّز الغث من السمين والثمين، ويلبس دور الصدى الممالىء والمتملق، ويتحوّل السياسي الى صاحب الفعل والمعلق عليه جميعاً - يستفاد أن هذا الإنقلاب غير ذي شأن، ولا يطعن لا في وظيفة الصحافة ولا في "معنى لبنان". ومؤدى هذا الوصف أن انضباط الصحافة اللبنانية، والإعلام التلفزيوني اللبناني، على معايير واحدة في البث، وصوغ الخبر، واختيار ما يخبر عنه وما يسكت عنه، وفي استحكاء من يستحكى وإغفال من يغفل - سُنَّة لا تخالف سنن الحرية ولا تخرج عن تقاليد الأحرار ومثالاتهم ومعانيهم. ومعنى الوصف ان انصياع الصحافة اللبنانية وانقيادها المتدرجين والثابتين إلى إجماع "وطني"، مزعوم، على قضايا ومسائل وسياسات هي أشدّ القضايا والمسائل والسياسات إثارة للخلاف والمطاعن والفُرقة، إنما حصلا الإنصياع والإنقياد طوعاً، ولم تُلزم الصحافة بهما جراء تقويض تطاول إلى أركان العلاقات الإجتماعية والسياسية اللبنانية، وهَدَم أجزاء برمتها من المباني اللبنانية، المعنوية والمادية. وينبغي أن يُخلص من الوصف هذا إلى أن الصحافة اللبنانية لا تشكو، على ما هي اليوم وإذا استثنيت الحادثة المنكرة، خللاً قد يصيب علاقاتها التنظيمية والمهنية الداخلية العلاقة بين الناشر وصاحب رأس المال وبين جسم المحررين، أو يصيب تمويلها "الشفاف" وتنوعها وأمانتها وصدقها وليس "صدقيتها" المضمونة. والحق أن كل ما قد يخلص إليه من رأي النقابتين الصحافيتين، وما مرّ جزء قليل منه، هو إنكار صريح للوقائع وتستر متواطىء عليها، وعلى دلالاتها أو دلالتها الأولى والثابتة وهي أن ما يحذر منه ليس آتياً، ولا هو في طي الغيب والمقاصد والنوايا. فمعظمه حصل ووقع. وهو أفدح بكثير مما يستنكر ويدعو، اليوم، إلى الإنكار والتحذير والتخويف. ولعل أفدح ما في الأمر أن الصحافيين كانوا، هم و"أفكارهم" وعصبياتهم وتستيرهم على صنيع هذه العصبيات ومماشاتهم لها، آلة تقويض الحريات اللبنانية عموماً وحرية الصحافة خصوصاً. ويعالج الصحافيون، و"أهل الرأي"، ورطتهم على النحو الذي عالجوا به، من قبل، المشكلات التي ألمَّت بلبنان. فهم يتعصبون ويتآخون ويتنصلون ويوقعون اللوم والعتب والنكير على غيرهم، وهو غير "الوطني"، على ما فعلوا وفعلنا على الدوام. * كاتب لبناني.