كان على مديرية الأمن العام اللبنانية ألا تحذف سبعاً وأربعين دقيقة، من تسعين دقيقة، هي مدة شريط المخرجة السينمائية رندة الشهال، "متحضرات"، بل الدقائق التسعين برمتها. فهي لو عمدت إلى إسكات كل الشريط، وإطفاء صوره كلها، لوافق عملها وفعلها، أو وجودها، ماهيتها وحدَّها. فماهية الرقابة، المتحققة فعلاً وعملاً وعلى وجه التمام والكمال، إنما هي العبارة أو التعبير التامة عن الحوادث كلها: ما يصح قوله فيها وما يجب السكوت عنه. فالرقابة، أي حقيقتها، ليست النهي عن قول، وإجازة قول، بل التصدي، وحدها، للقول. ولكن الفاجع في العالم السفلي، أي الدنيا، هو اضطرار الحقائق والمثالات والأفكار إلى النزول عن مراتبها وشرفها. وعلى هذا، لا مناص للجهاز الأدبي والفني في مديرية الأمن العام من القبول بالإفراج عن ثلاث وأربعين دقيقة من شريط سينمائي تضج في شريط صوته "كلمات غير قابلة للنشر"، على قول بيان المديرية العامة للأمن العام، و"ترانيم صلاة مسيحية تنشد بسخرية"، وشتائم تبدأ بالألف وتثني بالكاف وتثلث لشين فلا تطبع كلماتها إلا إشارة وتنبيهاً. أما الصور نفسها، وهي لب السينما الخفي والظاهر معاً، فتسرح فيها وتمرح، "عورات" وأعمال قنص ونوايا خطف وتطاول على المقامات. وهذا وحده، أي القبول بنصف الشريط، ولو غير بريء من كل موهوم ومستقبح، قرينة على تسامح الرقيب الأمني والإداري والجهازي. فهو يقتسم مع محترفي القول والعبارة قولهم وعبارتهم، ويرضى منهما بحصة خرساء ومعتمة هي الشطر الذي يلتهمه الرقيب، ويترك لأصحاب الصور والقول الشطر المتكلم والمنير. فهل بعد هذا من التزام أشد صرامة بالقانون ودولته ومؤسساته؟ وبعض النظر في إنكار الرقيب ما ينكر على الشريط المدان يحمل على الروية في الكلام على الرقيب والرقابة. فالرقيب لا ينكر على الشريط، ومنه، إلا ثلاثة على زعم صاحبة الشريط: الدعوة الى خطف طبيب فرنسي، وركل تابوت، وقتل قناص رجل دين. وأنا أصدق زعم السيدة الشهال، وأسلم لها من غير ان أرى شريطها. وأظنّ أن ما ترد به على الرقيب الأمني والجهازي إنما يكني عن أمر تكتمه السيدة في ردها على الصحافة "النهار" اللبنانية، في 22 تشرين الاول / أكتوبر، قد يكون، أي ما يكتمه الرد، نزولها عن الكلمات "غير القابلة للنشر"، وتمسكها بصور لا تقبل الحذف من غير الإخلال بحبكة الشريط. وطلب الرقيب حذف الأمور الثلاثة هذه، وإصراره على حذفها، يقودان الى جوهر الرقابة: على "متحضرات"، وعلى المسرحية الإيرانية "المسابقة وساعة الظهور"، وقبلهما على "حروف شيطانية" رواية سلمان رشدي وهي "حروف"، أو حرفان على قول أبي جعفر الطبري، وليست "آيات". فما يريد الرقيب قوله هو أبعد غوراً، على ما أزعم، من الملاحظة على عفة اللسان واليد "اللبنانيين"، على ما تصور صاحبة الشريط. فهو يقول، بالفم الملآن والمقص القاطع، أن "الدولة"، وهو من أجهزتها الساهرة على أمنها وأمن من تتعهدهم، هذه "الدولة" ليست بنت الحروب التي فرقت اللبنانيين، وانتهكت حيواتهم وأواصرهم وأرحامهم وهيئاتهم ولغتهم ومقالاتهم وهي حروب تصر السيدة الشهال على نعتها ب"الأهلية"، شأن "الدولة" وطاقم حكامها، وشأن الأوصياء، عليهم، والرقابة نفسها. ويقول الرقيب كذلك: ليس من يتولون اليوم السلطة على اللبنانيين مولودين، معنى ومجازاً وكناية، من القنص والقتل والقصف والتعسف والبذاءة والإسفاف - على ما يُرى، على الأرجح، في الشريط. والنفي المزدوج هذا: ليست "دولة" اليوم بنت الحرب والعدوان، وليس حكام اليوم وَلَدُ الغصب والإنتهاك - هو في أصل كل بنيان سياسي يطلب الشرعية من طريق النسيان، أو من طريق ذاكرة جماعية وأهلية نرجسية ومتورمة وهذه صنو كتاب تاريخ "وطني وموحد"، على قول برامج الحركة "الوطنية" العروبية، في لبنان. والحق أن الرقابة لم تبادر إلى فعلها حين أمرت بقص سبع وأربعين دقيقة من شريط "متحضرات". فأمرها هذا هو أرفق فعلها وألطفه. فهي لها وجه موجب، أو إيجابي، سبق الفعل السالب الذي يستوقف اليوم المثقفين، واستوقفهم أمس. والوجه الموجب للرقابة هو "إنتاج" المقالات اليومية التي تزعم للسلطة وطاقمها نسباً شعبياً وإرادياً ذاتياً، وتقطع حبل السرة الذي يصلها بالحروب الملبننة، وببذاءاتها وانتهاكاتها. ومقالات الرقابة الموجبة، وهي خبز معظم الصحافة والإعلام في كل ساعة وكل وقت، تحوط المواطنين والجماعات من كل جهة، ولا يقتصر دور المثقفين على قبولها والرضا بها - وخصوصاً إذا كان المثقفون "وطنيين" عروبيين، على ما هم معظم المثقفين اللبنانيين من الكتاب والكاتبين والشعراء والصحافيين والمدرسين والمفكرين والإداريين والمشيرين والمحاضرين والخطباء. فهم، في كل ساعة وكل وقت، ضالعون في "إنتاج" مقالات تسعى في طرد أطياف الحروب الملحاح، وفي إسكات إلحاحها. وليس "التأريخ" اليومي للحروب الملبننة بانفجار "الغرائز الطائفية" و"الصهينة"، على مقابلة "النهج الوطني والعربي"، إلا من قبيل صناعة نسب شرعي للحروب المنصرمة، والمستمرة على وجوه كثيرة منها الرقابة، ومن قبيل إضفاء وجه إنساني وأخلاقي على انتهاك صارخ. فالرقيب، الكثير الألسنة والأيدي والأقلام والشاشات، يدعو أهل القول والقلم والصورة إلى بعض المنطق والتماسك. فهم ليسوا مخيرين، في ميزان المنطق والتماسك، في تعليل حروبهم الماضية والقريبة بالدفاع عن هويتهم وأهلهم و"أرضهم وعرضهم" على قول السيد وليد جنبلاط وثقافتهم و"إنسانيتهم" على قول مهدي كامل وغيره و"نَوَّارتهم" و"أحلامهم" - ثم، بعد هذا التعليل، في تصوير الحروب التي وصفوها ب"الجميلة"، وب"أجمل الحروب" وغنوا "أجمل أمهاتها"، بصور البذاءة والانتهاك. والرقيب الموجب والسالب، والحق يقال، أقوى تماسكاً ومنطقاً من المثقفين، وذاكرته مديدة على خلاف ذاكرتهم، وأبصر بالأمور وعواقبها، وهذا من بداءة الأمور. فهو يدعوهم، من طرف ليس خفياً، إلى اعتبار شروط مواقعهم، ورعاية هذه الشروط وحفظها. فهم، أو معظمهم، لم يَلِغوا في فصول الحروب التي يتصدى بعضهم لروايتها، وحسب، بل هم، إلى ولوغهم فيها، ورثتها، ومثمِّرو ريوعها، وكهنة خرافاتها ورواياتها. ويدينون لها، شأن "الدولة الوطنية"، بمراتبهم ورواتبهم. وهم اليوم على مراتب الأمس، ودرجات هذه المراتب. وعصبياتهم هي عينها عصبيات الحروب. ويقدِّمون ويؤخرون، اليوم، ويسكتون ويلهجون، ويُطرون ويثلبون، على حسب إيحاء العصبيات الحربية هذه. فلا يدعو إلى توهم الجد والثبات في احتجاجهم لحرية الرأي والإجتماع والاعتقاد، اليوم، داعٍ. وهم إذا حشدوا الحشود انتصاراً للحريات المدنية وحقوق الإنسان - وبعضهم يرى إليها، من وجه آخر، قناع "امبريالية ثقافية" و"غطرسة غربية" - دعوا إلى الإحتشاد معهم، وعدّوا فيهم، من منع، هو أو "صاحبه" الوزير، في أمس قريب تداول كتب الأخبار والشعر "الإباحية"، أو من يتسلط على أهل ملته ومذهبه باسم تقليد قرابي وعرقي، أو من مدح القتل والإغتيال والخطف وعدَّ "تهمة" الإرهاب وساماً على صدر "المقاومين"... وقد يكون تهافت منطق المثقفين، على خلاف حجة الرقيب الموجب والسالب، بعض السبب في إيلائهم الإنتباه الضعيف والقليل الذي يولونه. فهم أسرى منطق الرقيب. وهم يدينون بمكانتهم وجعالاتهم، على ما كان المؤرخون يقولون في عائدات الجند، لمنطق الرقيب، وتواطئهم معه. ولا يعدو الرقيب تنبيههم، اليوم، إلى أنهم إذا شاؤوا الخروج على حد المنطق "الوطني" والجامع - وهم ناضلوا في سبيل وطنيته وجمعه - فما عليهم إلا الخروج وحدهم، والتخلي عن الإجماع الذي استظلوه في حروبهم "الوطنية" و"الإجتماعية" و"الثقافية"، وكانوا فيها جنباً إلى جنب مع أهل البذاءة والإنتهاك من غير حرج ولا من يتحرجون. ولا يخالهم الواحد قادرين على التخلي عن الدفء المألوف والتعرض للعزلة والوحدة، الجميلتين في منظوم الشعر وعناوين الروايات الجماهيرية وحسب. * كاتب لبناني.