«شخصياً أقول مش هقدر أكمل أجزاء «المصراوية» التي اعتبرها تحدياً لي، بخاصة أنها فاجأتني أثناء البدء فيها بأنها تتطلب مجهوداً أكثر عشر مرات مما أفعله، إذ لم أكابد فيها مشاكل المؤلفين فقط، بل أكابد صحياً وذهنياً وانفعالياً»... ما سبق كان إجابة للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة عن سؤال ل «الحياة» قبل أزمته الصحية الأخيرة بأيام قليلة، حول مصير الجزء الجديد من المسلسل الذي عُرض جزؤه الثاني في شهر رمضان الماضي. ولم يكتف عكاشة بذلك، بل مضى قائلاً: «استطيع القول بعد الجزءين الأول والثاني اللذين أتمنى طباعتهما في كتاب، أنهما خلاصة تجربتي وحرفتي وموهبتي في الدراما التلفزيونية التي أكملت فيها رحلة الرصد الدرامي للمجتمع المصري التي بدأتها ب «الشهد والدموع» على مستوى الأسرة، ثم أكملت في «ليالي الحلمية» على مستوى الحي، وفي «المصراوية» على مستوى المدينة كاملة بما فيها القرية والمركز والعاصمة بداية من عام 1914 إلى أوائل القرن الحالي». كانت المساحة في «المصراوية» كعادة عكاشة في غالبية أعماله هائلة، والمكان منظوره واسع ورحب من البراري في شمال محافظة كفر الشيخ (شمال دلتا مصر) إلى البرلس ودسوق ولا صيفر البلد وطنطا والمنصورة صعوداً إلى القاهرة، وبالتالي احتوى على عدد مهول من الشخصيات، وهو ما كان مدعاة لعكاشة لأن يفتخر بقدرته على الإمساك بخطوط كل شخصياته وتسييرها كما يرغب. يعد عكاشة حالاً استثنائية لا يمكن أن تطبق عليه مقاييس الإنسان العادي، كان في حال توهج دائمة منذ بدأ علاقته بالقلم والإبداع واكتشافه موهبته، ولا نبالغ إذا قلنا إنه كان أكثر مؤلفي مصر إنسانية أو اتساقاً مع النمط الإنساني. وهو يعد الرائد الأول في ظهور الأدب التلفزيوني الذي أصبح أدباً وفناً في الوقت ذاته. ولا يخفى على أحد أن بدايته في القصة القصيرة والرواية كان لها الأثر العميق حين تحول إلى الدراما التلفزيونية التي أصبح فيها نجماً يتفوق في الكثير من أعماله على أسماء النجوم الذين يلعبون بطولتها، لدرجة أنه في الأعوام الأخيرة كان مجرد وجود اسمه على أي عمل بمثابة ضمانة الجودة له وفرصة للتسويق إلى الفضائيات العربية التي تلهث وراء كبار النجوم والنجمات. كان يؤكد أن مقولة هبوط الوحي والإلهام غير صحيحة: «الأمر كله لا يعدو كونه تعبيرات شعرية لا أكثر، لكن ما ينتابني هو اختمار الفكرة في داخلي، شيء ما يدور في أعماق الكاتب أو الفنان، شعور بإلحاح القلم وتدفق الأفكار». وكان يعتبر أن الإسكندرية «تمثل الحلم الضائع والقاصر الذي يدور في خيال الزمن وله تجلياته في الواقع باعتبار أنها تعد أقدم مدينة حية في مصر، لم ينقطع فيها زمن التواصل التاريخي»، لذلك حظيت بالنصيب الأكبر من أعماله ومنها: «وقال البحر» و «النوة» و «الراية البيضا» و «لما التعلب فات» و «زيزينيا» و «عفاريت السيالة». شهادات يحيي الفخراني الذي كان يثق به عكاشة ثقة لا نهائية، يقول عنه: «أشعر بأنني أرتكز عليه، فلا أفكر في شيء وأنا أعمل معه، لثقتي في أنه سيتحمل المسؤولية وأنه يضيف من عنده روحاً مختلفة. إنه أهم مؤلف درامي عربي، ويصعب أن يجود الزمن بمؤلف آخر يملك ما كان يملكه الراحل على المستويين الفني والإنساني». ويشير الفخراني الى أن تعاونه معه في «ليالي الحلمية» من خلال شخصية سليم البدري كان فاتحة خير عليه، وأن هذا العمل كان مفتاحه الرئيس نحو النجومية. وعزا إليه الفضل في وقوفه أمام العملاق محمود مرسي من خلال مسلسل «لما التعلب فات»، وأشار إلى أنه كان يأمل أن يكمل معه رائعة «زيزينيا» التي قدم منها فقط الجزءين الأول والثاني، وحالت الظروف دون ظهور بقية أجزائها. المخرج إسماعيل عبدالحافظ الذي قدم وعكاشة ثنائياً متجانساً من خلال عدد من المسلسلات منها «الشهد والدموع» و «ليالي الحلمية» و «أهالينا» و «المصراوية» يقول انه مهما تحدث عن رفيق مشواره فلن يوفيه حقه، مؤكداً أن تعاونهما مرجعه نشأتهما المشتركة في محافظة كفر الشيخ. ويضيف: «خرجنا من أرض واحدة، وساعدنا في ما بعد التقارب الفكري كثيراً، إذ إنني كنت من خلال معرفتي العميقة به ادرك ماذا يريد من وراء السطور وإن لم يذكره صراحة. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر». ويشير صلاح السعدني إلى أن أعمال عكاشة «كانت تطرح قضايا مهمة وحقيقية ورسائل واضحة، وكانت أقرب إلى الروايات الأدبية. إنه المؤلف الوحيد الذي تغلغل في أعماق الشخصية المصرية وقدم نماذج مختلفة منها، وأفتخر بأنني جسدت له شخصية حسن أرابيسك في المسلسل الذي حمل الاسم ذاته، إلى جانب شخصية العمدة الملحمية سليمان غانم في «ليالي الحلمية». وكشف أنه كان يحضر مسلسلاً جديداً يتعاون فيه مع عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ عنوانه «تنابلة السلطان». سميرة أحمد، التي تعاونت مع عكاشة في ثلاثة مسلسلات هي «امرأة من زمن الحب» و «أميرة في عابدين» و «أحلام في البوابة»، تبدي حزنها الكبير على الفقيد، وتقول: «فقدت كاتباً كبيراً وصديقاً عزيزاً وإنساناً جميلاً، الله وحده يعلم مدى حزني على رحيله، وكلنا سنفتقد كتاباته المميزة والمضيئة في تاريخ الدراما العربية والتي تعد بمثابة دروس للأجيال الشابة». وترى سميحة أيوب التي تعاونت مع الراحل في مسلسل «المصراوية» أن عكاشة «يعد المؤلف الوحيد الذي استطاع أن يجعل الشخصية المصرية تنبض حال تقديمها على الشاشة»، معتبرة انه «رائد للدراما التلفزيونية أمتع الجمهور العربي بأعماله التي عكست الواقع بكل ما يحمله من هموم وأفراح، وقدم أعمالاً خالدة ونماذج محفورة في الذاكرة». ويستبعد أحمد بدير الذي قدم مع عكاشة واحداً من أفضل أدواره في مسلسل «زيزينيا»، أن يحل أحد مكان الراحل الذي يعتبره الأب الشرعي للدراما التلفزيونية. ويقول: «بوفاته فقدنا نجيب محفوظ الدراما، لقد كان يتميز بقدرة عجيبة على الغوص في أعماق الشخصية والحارة المصرية، إلى جانب قدرة استثنائىة على طرح شتى المشاكل والقضايا بأسلوب بسيط وسهل». جماهيرية يذكر أن عكاشة ولد في 27 تموز (يوليو) 1941 في محافظة كفر الشيخ وحصل على ليسانس آداب قسم الدراسات النفسية والاجتماعية من جامعة عين شمس عام 1962، وعمل مدرساً في التربية والتعليم عام 1963، قبل أن يصبح عضواً فنياً في العلاقات العامة في ديوان محافظة كفر الشيخ حتى عام 1966 كما عمل اختصاصياً اجتماعياً في جامعة الأزهر في الفترة من «1966 إلى 1982». وتعتبر أعماله التلفزيونية الأهم والأكثر متابعة في مصر والعالم العربي. إذ لاقت تجاوباً جماهيرياً كبيراً بداية من «عصفور النار» و «الطيور والصيف» و «حب بلا ضفاف» و «الحب وأشياء أخرى» مروراً ب «ضمير أبلة حكمت» و «الشهد والدموع» و «ليالي الحلمية» و «رحلة أبو العلا البشري» و «لا يزال النيل يجري» و «أرابيسك» و «امرأة من زمن الحب» و «أهالينا» و «أميرة في عابدين» و «أحلام في البوابة» و «كناريا وشركاه» و «المصراوية». كما كتب للمسرح عدداً من الأعمال منها: «البحر بيضحك ليه؟» و «في عز الضهر» و «ولاد الذين» و «الليلة 14» و «الناس اللي في التالت».br / وكتب للسينما عدداً من الأفلام منها: «دماء على الأسفلت» لنور الشريف وإيمان الطوخي وحسن حسني، و «كتيبة الإعدام» لنور الشريف ومعالي زايد وممدوح عبدالعليم، و «الهجامة» لليلى علوي وهشام سليم... فضلاً عن عدد من المؤلفات منها المجموعتان القصصيتان «خارج الدنيا» عام 1967، و «مقاطع من أغنية قديمة» عام 1988، ورواية «أحلام في برج بابل» عام 1984، ثم «همس البحر» و «تباريح خريفية» و «منخفض الهند الموسمي» و «وهج الصيف» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني كتب له السيناريو والحوار عاطف بشاي ولعب بطولته جميل راتب بدلاً من محمود مرسي الذي غيّبه الموت عقب تصوير عدد من مشاهده وأخرجه نجله هشام عكاشة. وكان الراحل حصل على الكثير من الأوسمة والجوائز من أبرزها جائزة الدولة للتفوق في الفنون عام 2002، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2008.