ذات يوم كانت بريجيت باردو أجمل امرأة في العالم. أحبها الرجال وحسدتها النساء وبات الحرفان الأولان من اسمها اشارة الى الاغواء والاغراء والجمال المثير. و"ذات يوم" قالت باردو عام 1971 "سأبلغ الستين من عمري، وسأبقى فتاة صغيرة على رغم كل شيء". واليوم وقد تجاوزت باردو الستين بخمسة أعوام ولم تعد أسطورة إلا في حسابات الماضي، هل تحققت نبوءتها أم انغيّرتها الظروف جاءتها بما لم تكن تتوقعه ولا تصوّره عشاقها؟ هي تقول ان انصرافها الى الدفاع عن الحيوانات انتصار للجزء البريء، الطبيعي والعفوي، من شخصيتها ولذا فأن نبوءتها تحققت ولو جزئياً. إلا ان بعض مواقفها "السياسية" خصوصاً بعد زواجها من برنار دورمال المناصر لبرنامج جان ماري لوبان، لا تشي بكثير من البراءة. ولو ألقينا نظرة مقربة على حياة باردو في منزليها على الشاطىء اللازوردي، مع حفنة الكلاب والقطط، التي تأخذ من يومياتها أكثر من أيّ مخلوق آخر بما في ذلك زوجها وأصدقائها، نجدها امرأة ضيقة الأفق، محدودة الذكاء، متناقضة الى حدّ مضحك أحياناً. فهي تقيم الأرض وتقعدها من أجل أن يتوقف الصينيون والفيليبينيون عن أكل الكلاب، ومن جهة أخرى توافق سياسة لوبان العنصرية ضد العرب والأفريقيين في فرنسا: انسانية تجاه الحيوانات، وحشية تجاه البشر. في الواقع باردو لا تحب الناس كثيراً. متى كانت في مزرعتها القريبة من سان تروبي ممنوع منعاً باتاً الاتصال بها هاتفياً. والمنع نفسه يسري حتى الحادية عشرة صباحاً متى عادت الى منزلها على الشاطىء. أصدقاؤها، على قلتهم، يعرفون أنها لا تحب التلفون. بل تفضّل كتابة الرسائل، والانصراف الى سماع الموسيقى الكلاسيكية أو مشاهدة برامج مختارة من الشاشة الصغيرة. كانت بريجيت في الرابعة عشرة عندما اكتشفها روجيه فاديم معتقداً أنه عثر على مخلوقة "من خارج الأرض" حسب تعبيره. وعلى رغم اعتراض أهلها، البورجوازيين الفرنسيين، تزوجا عام 1952 عندما بلغت الثامنة عشرة، وقضيا شهر عسل قصير في جبال الألب. منذ البداية كان قرانهما محتشداً بمفرقعات العاطفة والرغبة والصدامات الطبيعية، مما يحصل بين "المثقف" و"الوحشي". إلا أن فاديم تمكن من "صناعة" باردو. درّبها. غسل دماغها. واستنبط منها صمغ الجاذبية الاستعراضية التي لم يكن أحد يتوقعها، حتى باردو نفسها. وكان يراقب كل حركة وكل تصرّف تقوم به. علّمها كيف تؤدي تلك المشية الناضحة بالدلال وكيف تتكلم كأنها دائماً في السرير. يضيف فاديم "على الرجل أن يكون قوياً مع باردو، والواقع أنها لم تحظ برجل قوي بعدي". أما باردو فتعلق على سنواتهما معاً بقولها: "كلما مشيت أو خلعت ملابسي أو تناولت طعام الفطور كان يخيّل إليّ أنه يراقبني بعينيّ آخر، وبعيون الآخرين. مع ذلك كنت مدركة أيضاً أنه لا يراني بل يرى حلمه من خلالي. وفي تلك المرحلة كنت أمتّع نفسي بالترهات البريئة، ولم يخطر ببالي كم كانت يلعب بالنار، وعلى رغم نفاذ بصيرته، لم يكن هو أيضاً مدركاً لما يحصل". ولعلّ ما يبرهن حقيقة ذلك أن فاديم اقتنع بأن باردو ليست بحاجة أن تلعب أي دور آخر سوى نفسها. فكتب لها سيناريو "وخلق الله المرأة". وكانت النتيجة أن باردو أعطت الفيلم عمره الطويل لا السيناريو ولا اخراج فاديم. والبرهان أن عروض هوليوود تدفقت على باردو من دون فاديم. وسرعان ما تبيّن له أنه "خلق" وحشاً فاق حجمه كل توقعاته وأحلامه بقدر ما جرف باردو الى قمة الشهرة. بعدئذ بدأ الصخر يتدحرج. يقول فاديم "حررت بريجيت وجعلتها ترى كيف تكون نفسها حقاً. وكان ذلك بداية نهاية زواجنا". ويضيف "بريجيت تحتاج الى عاطفة متأججة في كل لحظة من حياتها، وببساطة لم يكن ذلك في متناولي. الواقع أنني اعتبرت فراقنا حبياً ولطيفاً. على الأقل لم ننته على وتر حزين". في علاقتها التالية مع الممثل جان لوي ترانتينيان وجدت باردو نقيض فاديم. الشاعر الهادىء المثقف العميق، كان ترانتينيان يفضل البقاء في المنزل على السهرات الصاخبة، وفي المقابل تورطت باردو في علاقات جانبية أدت الى طلاقهما على 1957. ويذكر آلان كاريه، أقرب المقربين اليها، أن باردو "كانت ترهق الجميع من حولها. في اندفاعاتها الغريزية طالما أضرّت غيرها، خصوصاً عندما كانت تغضب. ترانتينيان كان رائعاً، لكنه ضعيف، ولم يعرف كيف يقودها". خلال ست سنوات صورت باردو 22 فيلماً. وفي الرابعة والعشرين من عمرها، بعد تصوير "امرأة مثل ابليس" هكذا تحدثت بريجيت "أشعر أنني لم أعش حياتي. ما كان يجب أن أدخل السينما. اليوم أنا متورطة في السباق. كان عليّ أن أتزوج شخصاً ثابتاً ورصينا وأنا في الثامنة عشرة من عمري. ننجب أطفالاً. ونعيش في فيللا على شاطىء بوردو، من دون كل هذه الميلودراما". في ذلك العام تبوأت باردو قمة النجومية الفرنسية الى جانب جان غابان حسب اختيار مجلة "سينيموند". وفاقت نجوميتها اليزابيت تيلور، وجينا لولو بريجيدا، ومارلين مونرو. وعندئذ أدركت بالفعل نهاية شوطها مع السينما، لكن صراعها لم ينته في تلك اللحظة. بل استغرقها الخروج من "المستنقع" 15 سنة أخرى، عاشتها متمرمرة كالثعبان المبتور. عام 1958 وقعت في حب ساشا ديستيل، ثم في غرام صاعق مع جاك شارييه وأنجبت منه صبياً على الرغم منها. فهي لا تحب الأطفال، ولم يكن في استطاعتها الاجهاض بعدما بلغت أنباء حملها وسائل الإعلام. وفي الحادي عشر من كانون الثاني يناير 1960 ولد نيكولا شارييه. في العام نفسه اختارها قرّاء باري - ماتش أكثر النساء قرباً من قلوب الفرنسيين. صبيحة عيد ميلادها السادس والعشرين، بينما اعتبرها العالم أشهر نسائه وأجملهن، كانت باردو مقتنعة أن الشهرة هي مصدر تعاستها. لم تكن قادرة على الاهتمام بطفلها. وفي احدى لحظاتها العفوية صاحت بأحد الصحافيين: "كيف أهتم بطفل وما زلت بحاجة الى أمي؟". في تلك المرحلة كانت باردو وجبة الإعلام المفضلة. ماذا لبست. ماذا قالت. مع من ظهرت. أين سهرت... بعد ستة أسابيع على ولادة نيكولا عادت الى العمل على تصوير "الحقيقة" مع هنري - جورج كلوزو. وفيه تلعب دور فتاة قروية تأتي الى باريس حيث تتورّط في حياة بوهيمية مجنونة. كان مفروضاً أن يقوم ترانتينيان بدور البطولة الى جانبها لكنه كسر ساقه في التزلج على الثلج. وبعد استعراض نجوم مثل جان بول بلموندو ولوران ترزييف قرّ الرأي على سامي فراي، وكان في الثالثة والعشرين. مشاهد السرير في هذا الفيلم حطمت أعصاب شارييه خصوصاً أنه كان يحضر التمارين، الى أن منعوه بعدما قرر أن يطلب من باردو التوقف عن التمثيل. وللمرة الثانيةحاول شارييه أن ينهي حياته بالانتحار. بعد فترة وجيزة قطعت باردو شرايين رسغها خلال رحلة الى جنوبفرنسا. لكن الصحافة لم ترحمها، بل ذهب بعض المحللين الى القول أنها فعلت ذلك مقدمة لترويج "الحقيقة" قبل نزول الفيلم الى الأسواق. ولكن تبيّن لاحقاً أنها فعلت الشيء نفسه خمس أو ست مرّات، حسب شهادة فاديم. عام 1962 وقع الطلاق بينها وبين شارييه الذي حصل على حق حضانة نيكولا. واتخذت المحكمة القرار من دون حضور الزوجين. شارييه كان يصوّر فيلماً في ايطاليا. وهي في عطلة تزلج مع سامي فراي. والمفارقة أن باردو بدأت منذ ذلك الحين حملتها الشهيرة دفاعاً عن الحيوانات وتشهيراً بسوء معاملتها. ولم تأبه للتعليقات القاسية التي تعرّضت لها آنذاك:"إن أمّاً لا تستطيع أن ترعى طفلها لا يحق لها أن تقطع أرزاق الاف العائلات". قال صيّاد فقمة كندي لدى سماعه باعتراض ب.ب. على صيد الفقمة من أجل فروها. عام 1968 وبعد عدد من المغامرات السريعة، بينها الفرنسي الوسيم روبرت زاغوري وطبيب أسنانها بول آلبو، كانت باردو انتهت الى زواج آخر مع الصناعي الألماني غونتر ساخس الذي "طمرها" بالورد الأحمر والجواهر. تزوجا في لاس فيغاس في 14 تموز يونيو 1966. في تلك المرحلة كان أطول زيجاتها وأكثرها ترفاً على شفير النهاية. لا لأن ساخس أساء معاملتها، بالعكس، بل لأن باردو كانت تشعر أنها محاصرة بالحياة الاجتماعية الصاخبة وبالعروض السينمائية المتواصلة، وفي السابع من تشرين الأول أوكتوبر من العام التالي وقع الطلاق. ويقول ساخس في هذا الشأن "لم يكن الأمر بسيطاً، زواجنا... كان مستحيلاً أن أتخيّل كيف ستكون باردو بعد عشر دقائق، ولا هي كانت تعرف. طالما انقلبت من الشعور بالسعادة المطلقة الى القنوط العارم.. بدأت أظن أنها على شفير الانهيار العصبي أو الانتحار. جهازها العصبي تحوّل الى شبح يخيّم فوق حياتنا باستمرار. إذا نمنا في حال طيبة ترانا استيقظنا على وجوم". عام 1973 انفجرت باردو. مرّة واحدة أعلنت خروجها من عالم السينما، وصبّت جام غضبها على الجنس البشري برمته "أكره البشرية. لديّ حساسية تجاهها. انني لا أرى أحداً. لا أخرج. أقمت حولي العالم الذي أريد، عالم طفولتي. انني أجد توازني في الطبيعة وفي صحبة الحيوانات". وهكذا بعد 48 فيلماً في 21 سنة خرجت ب.ب لتلاقي باردو في حياتها الجديدة، ولم تعد. معركتها الأولى تناولت مسالخ الذبح في فرنسا وخصوصاً مسالخ الخيل، طالبت الحكومة الفرنسية برفع مستوى التدابير فيها لتكون أسرع وأقلّ ايلاماً ووحشية. وفي الواقع انتزعت باردو قانوناً يتناسب مع مطالبها، عرف بقانون ب.ب. ربما من دون انتباه وربما عن سخرية... ونقلت باردو معركتها الى الساحة العالمية مدركةً أنها لن تتمكن من مواجهة اللوبي السياسي - التجاري الذي هبّ لمقاومة دعواتها الصارخة للرفق بالحيوان إلا إذا كان لديها منظمة تدعمها. لكن تجربتها الأولى في هذا المجال باءت بالفشل. وبعد عشر سنوات من العمل المستقل والمواجهات المستمرّة إن مع الصحافة أو مع الحكومات المعنية قررت باردو أن تبيع كل مجوهراتها لتموّل المنظمة التي حملت اسمها واستطاعت أن تجمع ثروة من دون أن تدري أن ساخس أرسل طرفاً ثالثاً لشراء كل ما أهداها إيّاه من عقود ثمينة. ويقول ساخس حول هذه النقطة: "كل ما يهمها هو الحيوانات. لقد اشتريت ما أهديته لها بثلث السعر وأحياناً أقلّ. وهذا يكشف كم أنها غير مهتمة بالمال أو بالحلى. لديها هذا الهوس بانقاذ الحيوانات من الناس وهو يستحوذ على كل شيء آخر في عقلها وإحساسها على السواء". أما كاتب سيرتها جيفري روبنسن فيعتقد أنها في الواقع أمضت حياتها تبحث عن الحب. "حين تقول لها أن أشخاصاً معينين ما عادت تراهم منذ زمن طويل، ما زالوا يشتاقونها تراها انبهرت ويشف من خلف السنوات وجه البنت التي سرقت الشهرة حياتها الى غير رجعة".