تحديات "الصناعة والتعدين" على طاولة الخريف بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة اليوم    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2719.19 دولارا للأوقية    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بتكليف من ياسر عرفات بدأت اتصالات أبو حسن سلامة بالاستخبارات الاميركية في العام 1971 الحلقة 9
نشر في الحياة يوم 05 - 07 - 1999

كشف ابو داود في الحلقة الثامنة من مذكراته عن إشراف ابو اياد على نشاطات منظمة "ايلول الاسود" ودوره في تنظيم عمليات اغتيال ناجحة ضد الموساد في اوروبا. وتحدث ايضاً عن فشل خطته لاقتحام سفارة الولايات المتحدة في عمان. فانتهت، بعد تحضيرات استمرت ثلاثة اشهر، باعتقاله والمجموعة في الاردن وبدء التحقيق عن دوره في عملية ميونيخ ونجاحه في التملص من المسؤولية.
تمضي السنون لكن الماضي يعود ليلحق بك. فبعد ثلاث سنوات اي في كانون الثاني يناير 1977، تم تداول اسمي نظرا الى دوري المفترض في احداث ميونيخ المأسوية عام 1972.
كنت في فرنسا منذ ثلاثة ايام اهتم مع ابو حاتم مدير دائرة العلاقات الخارجية في منظمتنا بنقل رفات احد رفاقنا الذي اغتيل في باريس مطلع العام وهو محمود صالح. اضافة الى ذلك، ان مهمتي كانت تقضي ايضا بالتحقيق في ظروف مصرعه. كانت لدي دوافع شخصية للقيام بذلك، فمحمود صالح كان في عداد معاونيّ بين 1975 و1976 حيث تسلمت قيادة منطقة بيروت الغربية وهي كانت مرحلة "ساخنة" اخرى من مراحل حياتي لانها كانت بداية الحرب "الاهلية" اللبنانية. كانت تحفزني ايضا دوافع عامة، فتلك كانت عملية الاغتيال الرابعة في باريس لاحدى شخصيات المقاومة من دون ان يتم التوصل الى القبض على اي مشارك فيها. كما ان تحقيقات الشرطة في فرنسا لم تصل الى اي نتائج من شأنها الظن بأي جهة كانت، وذلك خلافا تماما لما حصل في النروج بشأن قضية ليلهامر.
وفي الوقت الذي كنت ارافق فيه ابو حاتم الذي كان يمثلنا في باريس عام 1968 الى اجتماعات عقدت في مقر وزارة الخارجية الفرنسية في "الكي دروسه"، قصدت ايضا مرتين المكان الذي قتل فيه محمود صالح، في شارع سان فيكتور وسط الحي اللاتيني امام مكتبة عربية كان يديرها، وقد ساعده في تأسيسها صديق آخر هو ناجي علوش. هكذا في يوم الجمعة 7 كانون الثاني، وفي اليوم الثاني من تحرياتي، وبينما كنت في آخر بعد الظهر عائدا الى الفندق الذي انزل فيه في شارع فوبور سانت اونوريه، اوقفتني عناصر من مكافحة التجسس دي.اس.تي واقتادوني الى وزارة الداخلية رسميا من اجل "التدقيق في هويتي". وتم اعتقالي هناك من بعدها في سجن "لاسانتيه" لمدة 91 ساعة وسأخبر ذات يوم كل تفاصل هذه الاحداث. اذكر هنا فقط اني دخلت الاراضي الفرنسية بواسطة جواز سفر عراقي باسم يوسف راجي حنا وهو اسم مستعار، كما كانت عليه القاعدة بالنسبة الى مسؤولي المقاومة خلال تنقلاتهم في الخارج. لكن الامر الغريب الاول هو ان جهاز مكافحة التجسس الفرنسي قد برر توقيفي بالادعاء انه تم بناء على مذكرة دولية بحقي من السلطات الالمانية. ولكن لم تحرر مذكرة التوقيف هذه الا في اليوم التالي اي 8 كانون الثاني وقد وقعتها السيدة وايسمولر، القاضي لدى محكمة المقاطعة في ميونيخ ومن ثم ارسلت الى الفرنسيين بواسطة التلكس، وقد اطلعوني على هذا الفاكس بعد ظهر الثامن من كانون الثاني: كان المطلوب وضع "محمد داود محمد عوده المعروف بابو داود المعروف بسعد الدين والي المعروف برافي يوسف حنا" قيد الاعتقال الموقت بغية تسليمه الى العدالة الالمانية. والسبب؟ "التواطؤ في عملية حجز رهائن 11 حالة والقتل 12 حالة والاعتداء بواسطة المتفجرات"، "احتجاز الرهائن" و"القتل". فهمت ان المقصود عملية ميونيخ عام 1972. لكني لم افهم الى ماذا يلمحون "بالاعتداء بواسطة المتفجرات". وقد اتاح لي ذلك ان اقول للشرطة الفرنسية ان هذه الوثيقة لا تعنيني. كما اطلعتهم على الخطأ في هوية الشخص. طبعا اني انا ابو داود، فلا مجال لانكار ذلك اذ يعرف الجميع وجهي وقامتي الطويلة في بيروت بدءا بالديبلوماسيين الفرنسيين الموجودين هناك، واستعمل جواز سفر عراقياً باسم راجي حنا في تنقلاتي، لكنه ليس اسم رافي حنا نفسه الذي يطالب الالمان الحكومة الفرنسية باسترداده.
وعبثا اعترضت فقد اقتادوني الى سجن لاسانتيه حيث نزلت في مرحلة اولى في زنزانة مع سجيني حق عام.
اما التفصيل الغريب الثاني فقد جاء من جهة الالمان، اذ بدا انهم لم يكونوا مستعجلين لاستردادي. والطلب الذي كان يفترض بالنيابة العامة في ميونيخ الحاقه، بهذا الخصوص، بطلب الاعتقال المؤقت في 8 كانون الثاني لم يصل ابدا. عرفت ذلك لما قرأت في الصحف كيف اشتكت السلطات الالمانية من ان الحكومة والقضاء الفرنسيين لم يفسحا امامها المجال لذلك، اذ قررت الهيئة الاتهامية التابعة لمحكمة استئناف باريس والمنعقدة بصورة طارئة يوم الثلثاء في 11 كانون الثاني اطلاق سراحي فورا، فاقتادتني من قبل الشرطة الى اول طائرة متجهة الى الجزائر. لكن الجدية تفرض علينا القول ان الالمان هم الذين كانوا يخادعون. فبحسب اتفاق استرداد المطلوبين بين فرنسا والمانيا الاتحادية كان امام هذه عشرون يوما ابتداء من 8 كانون الثاني من اجل تأكيد طلبها عبر القنوات الديبلوماسية. والمستغرب في ما يخصني انه على الرغم من مرور اكثر من ثلاث سنوات على الافعال المنسوبة الي فان الادعاء العام في ميونيخ لم يكن قد جمع الادلة الكافية ضدي، وانه بحاجة الى وقت اضافي، بحسب ما قاله الفريد سيدل وزير العدل في مقاطعة بافاريا، من اجل "درس البراهين التي تدين ابو داود" وبالتالي متابعة التحقيقات قبل اتخاذ قرار بشأني. اعتقد من جهتي ان الالمان كانوا يدرسون فوائد الشروع في طلب استردادي ومساوئه وانهم كانوا مرتاحين في الظاهر الى اقدام الفرنسيين على التخلص من الكرة.
يجدر التذكير بان الالمان كانوا يفتقرون الى عناصر رئيسية في المسألة واهمها الناجون الثلاثة من مجموعة الكومندوس والقادرون على الادلاء بشهادة ضدي. ولكن كيف يجلبونهم الى الشهادة في حال انطلقوا في محاكمتي؟ ان هؤلاء الرجال موجودون في منأى عن الالمان الذين لن يتمكنوا من تقديم شهود آخرين الا اذا ارادوا استدعاء الاسرائيلية الشابة التي ادخلتني الى جزء من الجناح الخاص بالبعثة الاسرائيلية في القرية الاولمبية. ولكن هل الالمان والاسرائيليون على علم بها؟ وهل يسمح هؤلاء بالاستماع اليها؟ اشك في ذلك لانه من مصلحة الاسرائيليين اخفاء اخطائهم في حماية رياضييهم خلال الالعاب، وتحميل الالمان المسؤولية. لذلك لم ينشروا ابدا التقرير المقدم الى الكنيست بعد شهر على العملية والذي يتطرق الى نظام الحماية الامنية الاسرائيلية نفسه. اما الشهود الآخرون المحتملون فهم اعضاء الفريق الرياضي الاميركي الذين ساعدوا، كما ذكرنا، رجال الكوماندوس على الدخول الى القرية الاولمبية فجر الخامس من ايلول سبتمبر 1972. ولكن على افتراض ان الالمان على علم بهذا التفصيل، فما هي القيمة الحقيقية لشهادة رجال نصف مخمورين خارجين تلك الليلة من حفلة صاخبة؟ هذا ما يمكن محامي الدفاع عني التقدم به خلال محاكمتي. الا يخشى الالمان، من جهة اخرى، اثارة التعقيدات بينهم وبين الاميركيين؟ اخيرا وليس آخراً كان هناك الحارس الذي سمح لي في الايام السابقة بزيارة القرية. ولكن ماذا سيستفيد من الاعتراف بخطأه؟ البقية - اي شهادات العاملين في الفنادق او المطاعم في ميونيخ - غير كافية لتجميع عناصر اتهامية ضدي او لتقديم البراهن الملموسة على مشاركتي الفعالة مع المجموعة الفلسطينية التي قامت بعملية ميونيخ. اضف الى ذلك انه بعد اقامتي في السجون الاردنية صار يمكنني الادعاء، وبفضل اللواء الكيلاني، ان جواز سفري كان في العاصمة البافارية وليس انا شخصيا.
لهذه الاسباب لم اضطرب في باريس عند معرفتي بطلب الادعاء العام في ميونيخ. على كل حال، لم اكن اعتقد ان الالمان يسيرون في المسألة حتى النهاية. الم يطلقوا سراح ثلاثة من جماعتنا شاركوا في العملية بينما في ما يخصني كانت البراهين غير متوافرة؟
كنت اقل ارتياحا حيال طلب مماثل تقدم به الاسرائيليون صباح الحادي عشر من كانون الثاني. وقد جاءت تدعم هذا الطلب مبادرة من سفارتهم في باريس التي كانت تلقت، بواسطة الحقيبة الديبلوماسية، "وثيقة سرية" تهدف الى احكام الطوق عليّ، وكان على السفارة ان تقدمها الى وزارة الخارجية الفرنسية. ولكن، كما هو معروف، لم يتوقف القضاة الفرنسيون عند الطلب الاسرائيلي.
وليس مستبعدا ان يكون عامل آخر قد لعب دوره في خلفية الاحداث: تدخل اميركي. تلك هي، في اي حال، الفرضية التي اقترحها علي لاحقا محمد يزيد، وهو كان لا يزال سفير الجزائر في لبنان. فبينما كنت موقوفا في باريس، اتصل بالسفير الاميركي في بيروت وهدده بانه، اذا لم يتدخل على الفور لدى زميله الفرنسي من اجل اطلاق سراحي على وجه السرعة، فانه سيعقد مؤتمرا صحافيا يفصح فيه عن كل المعلومات المتوافرة لديه حول علاقات الولايات المتحدة مع علي حسن سلامة، قائد ال17، حرس عرفات الخاص.
فما يجب ذكره هو ان علي حسن سلامه، وبطلب من عرفات، اصبح محاورا اساسيا للاميركيين. وكان في الحقيقة صلة الوصل بين وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية والحركة الفلسطينية.
وكانت الامور بينه وبين الوكالة الاميركية قد بدأت في روما عام 1971، لكن العلاقات توثقت فعلا ابتداء من 1972 في بيروت عبر احد اصدقائه اللبنانيين مع روبرت آيمس ممثل الوكالة في الشرق الاوسط. ومنذ ذلك الحين، صار يزور الولايات المتحدة بانتظام مستخدماً جواز سفر جزائرياً وكان محمد يزيد هو الذي يسلّم الجواز الى نظيره الاميركي في بيروت للحصول على تأشيرة. هذا ما كان السفير الجزائري يهدد باعلانه. ويمكن تصور الضجة التي كانت ستحدث، ذلك ان علي حسن سلامة كان مسؤولا عن عمليات حملت توقيع "ايلول الاسود" عامي 1971 و1972.
يبقى ان "قضية ابو داود" التي استغلّها الصهاينة الى أقصى الحدود، أثارت عاصفة سياسية في فرنسا وأدت الى زعزعة رئاسة فاليري جيسكار ديستان. ولا استبعد من جهتي الفرضية القائلة بأن المسألة برمتها كانت بمثابة فخ منصوب للحكومة الفرنسية، وان فرنسا هي المقصودة من خلالي. فيوم الاربعاء 5 كانون الاول ديسمبر، لما استقللت الطائرة من بيروت الى باريس، وهذا ما علم به جهاز "الموساد" على جناح السرعة بالتأكيد، كان هناك خبر لا شك انه لفت انتباه "الصقور" الاسرائيليين: في تصريح صادر في اليوم نفسه ونقلته صحف المساء، تعترف منظمة التحرير الفلسطينية وللمرة الاولى باجراء اتصالات مع اسرائيليين من اصحاب النيات الحسنة ينتمون الى "المجلس الاسرائيلي للسلام الاسرائيلي - الفلسطيني"، ومن بينهم شخصيات معروفة مثل الجنرال في الاحتياط ميتاهو بيليد وهو احد ابطال "حرب الايام الستة"، والنائب آريه الياف السكرتير العام السابق لحزب العمل الحاكم...
اين حصلت هذه اللقاءات السرية؟
في باريس.
وقد نظّمت خمسة لقاءات خلال فصل الصيف ويجري الاعداد للقاء سادس في النصف الثاني من شهر كانون الثاني. وكوني انتمي الى الجناح المتشدد في منظمة التحرير، فانني بالتأكيد أمثّل النموذج المطلوب لافقاد هذه المسيرة صدقيتها. تخيلوا الفرصة التي يقدمها اعتقال رجل من المحرضين على احتجاز الرهائن في ميونيخ، وربما كانت مشاركته في العملية اكبر مما حاول قوله قبل اربع سنوات من الاذاعة الاردنية. كما ان محاكمته في مكان الجريمة سيرجع الرأي العام الى اللحظات الرهيبة عام 1972 من خلال اعادة بث الافلام في هذه المناسبة، وبالتالي ستؤول الى الفشل ولسنوات طويلة المحاولة الفلسطينية، المدعومة من فرنسا، للظهور مظهر المحاور المقبول والمحترم.
بقي امام "الصقور" الاسرائيليين العثور على اصدقاء لهم في العاصمة الفرنسية قادرين على "الامساك" بي بحجة او بأخرى. كانت قضية بن بركة - وهو الزعيم المغربي المعارض الذي اختطف وسط باريس عام 1965 وفقد اثره وذلك بتواطؤ من بعض الموظفين الفرنسيين - قد اظهرت وجود عناصر غير موالين لوطنهم داخل اجهزة المخابرات الفرنسية. وكنت من جهتي مقتنعاً بأن "الموساد" لم يكن بعيداً عن قرار قسم مكافحة التجسس اعتقالي. وربما وجد الاسرائيليون اذناً صاغية على مستوى اعلى، اي لدى وزير الداخلية في حينه ميشال بونياتوفسكي الذي لم يكن يؤيد السياسة العربية للجنرال ديغول، وقد كشفت صحيفة "لوموند" انه امعن في الكذب طوال هذه الايام. كذلك قد اكون انا، ودون ان ادري، سهّلت المهمة على الآخرين عند مروري في باريس واصراري على التحقيق في ظروف مقتل مساعدي السابق في بيروت محمود صالح. كان يمكن الاعتقاد ان الاسرائيليين، بعد فشل محاولتهم الدفع في اتجاه محاكمتي عام 1977، لن يتوانوا عن تصفية الحساب معي وانهم سيضعونني في رأس لائحة "الثأر لميونيخ". لكن سنوات عدة مرت دون ان يتعرضوا لي.
في المقابل، لم يحظ علي حسن سلامة بالمعاملة نفسها اذ توصل "الموساد" الى الايقاع به. ففي 22 كانون الثاني 1979 وبينما كان ابو الحسن يقود سيارته من نوع شيفروليه في شوارع بيروت، انفجرت عند مروره سيارة غولف مستأجرة كانت متوقفة في المكان فقتلته على الفور مع اربعة من مرافقيه وعدد من المارة، بينهم امرأة انكليزية.
شكّل مقتل ابو الحسن صدمة كبيرة لي وان كنا لم نعد صديقين حميمين كما في الماضي. فهو كان الابن المدلل لعرفات، وقد سلك كل منا طريقاً مختلفاً. خصوصاً وانه كان يعيش حياة ترف في بيروت، مواظباً على معاشرة الطبقة البورجوازية اللبنانية التي ادخلته اليها زوجته الجديدة جورجينا رزق وهي احدى ملكات جمال العالم السابقات. وكان نمط حياته هذا يزيد من ابتعاده عن وسطنا... لكنني لما هرعت من بين اول الواصلين الى مكان الاعتداء ورأيته مرمياً على الطريق وسط الحطام، لم أتذكّر الا السنوات التي كنا نلتقي فيها كل يوم في الكويت تقريباً، والدورة التدريبية التي التحقنا بها سوية في مصر عام 1968، والايام الاولى التي امضيناها في دائرة الرصد قبل ان تلبّد الغيوم علاقتنا.
كانت الايام التالية شاقة ولكن لاسباب اخرى، فقد كان البعض منا يتساءل عن مدى مسؤوليتنا انا وابو اياد في المطاردة الحثيثة التي كان يتعرض لها سلامة من جهاز "الموساد"، وذلك لعدم نفينا في الماضي المعلومات الصادرة عن الاسرائيليين والتي تجعل منه "العقل المدبّر" لعملية ميونيخ. بماذا كان يمكننا ان نجيب؟ ويا للأسف انه من احدى عادات ابو الحسن السيئة ادعاء القيام باعمال لا دخل له فيها، وكان ذلك قد بدأ في نهاية 1971 بعد مقتل وصفي التل. أضف الىه اننا كنا نعتبر انه ربما كان للاسرائيليين دوافع اخرى من اجل تصفيته. لم نكن لنخوض في هذه المسألة الدقيقة.
وسبق ان قلت انه كان اصبح احد المحاورين الفلسطينيين الأساسيين بالنسبة الى الاميركيين. ففي حزيران يونيو قام رجاله في ال17 بمساعدة الاسطول السادس على اجلاء 250 ديبلوماسياً ومدرساً ورجل اعمال اميركياً مقيمين في بيروت مع عائلاتهم، الأمر الذي لم ينتج منه فقط توجيه الشكر من وزير الخارجية آنذاك هنري كيسينجر، بل طلب ثان بتأمين حماية السفارة الاميركية في بيروت في المستقبل. وقد ازعجت المسألة الاسرائيليين الى ابعد الحدود، والأسوأ بالنسبة اليهم ان ابو الحسن كان على صلة دائمة بوكالة الاستخبارات المركزية. بالطبع، ان المخابرات الاسرائيلية العارفة بالضرورة بهذه الاتصالات لم تكن لترضى عن سعي حليفها الاميركي الكبير الى فتح خطوط معلومات مع غيرها حول كل ما يتعلق بالفلسطينيين. وليس من قبيل المصادفة ان يبدأ "الموساد" في تلك المرحلة بتوريط ابو الحسن في نشاطات "أيلول الأسود" وبالتالي بطرح اسمه من بين المحرّضين على عملية في ميونيخ. كانت الاجواء قد تحضّرت ولم يبق سوى الانتقال الى المرحلة التالية: تصفية سلامة نتيجة التهمة الملصقة به.
وهذا ما توصل اليه عملاء "الموساد" في نهاية المطاف في شهر كانون الثاني بعدما فشلوا قبل ستة ايام في النروج.
المشكلة ان الفرضية التي كنا نعتقد بها انا وابو اياد حول الدوافع المحتملة وراء العملية الاسرائيلية، لم تكن معدة للنشر في اوساط مواطنينا لأن ذلك يؤدي الى كشف احد اسرار منظمتنا. فخارج دائرة قيادتنا الضيقة، كان قلة في منظمة فتح يعرفون ان ابو الحسن يتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية بموافقة عرفات.
سيأتي دوري في سلسلة اعتداءات "الموساد". في آب اغسطس 1981 حاولوا في الواقع اغتيالي. كنت في وارسو جالساً في كافتيريا احد الفنادق الكبرى عندما هجم علي رجل يحمل مسدساً مزوداً كاتماً للصوت واطلق خمس رصاصات استقرت في وجهي وجسمي. وبينما كنت اسقط ارضاً، وسط الزبائن، كان المعتدي يتمكن من الفرار على متن سيارة تنتظره في الخارج. وبعد ثلاثة او اربعة ايام امضيتها بين الحياة والموت، تمكنت من النجاة بعدما امضيت فترة استشفاء طويلة في وارسو ومن بعد في برلين الشرقية.
علمنا بسرعة ان مطلق النار كان فلسطينياً من جماعة ابو نضال الذي كنت قد قطعت علاقتي به قبل ثلاث سنوات.
في البداية، لم اصدّق ان ابو نضال يريد قتلي. لماذا يقتلني؟ لم يكن يستطيع ان يتهمني بأني من "الحمائم"، مثل سعيد حمامي او عزالدين قلق، ممثلي منظمة التحرير في كل من لندن وباريس واللذين دبر اغتيالهما عام 1978. ولكن سرعان ما اقتنعت بالأمر. فاذا لم أكن اعرف الرجل الذي حاول قتلي والمدعو "جمال"، فقد كنت على الاقل على معرفة بشريكة الذي رافقه حتى الفندق حيث كنت اقيم وساعده في ما بعد في الفرار بسيارته. كان احد الشبان الفلسطينيين الذي سبق ان رأيته مراراً مع ابو نضال. وتعرفت اليه فوراً بين مجموعة الصور التي عرضتها عليّ الشرطة البولونية.
... وما دخل الاسرائيليين في كل ذلك؟
ردة فعلنا الاولى كانت اتهامهم. الا اننا نفتقد اي دليل واضح يؤكد تورطهم، اذا ما استثنينا المقالات الاحتفالية التي صدرت في صحفهم بينما كنت انا لا ازال بين الحياة والموت. "بوتريه مجرم ميونيخ - الذي يكافح اليوم للبقاء على قيد الحياة"، كان هذا مثلاً عنوان جريدة "معاريف" في 7 آب.
بالمناسبة، كانت هذه المقالات تشير الى ان الصحافيين الاسرائيليين لا يزالون يجهلون كيفية اعدادنا لعملية ميونيخ، قبل تسعة اعوام. فيستعيدون معلومات كانت روجتها سفارة اسرائيل في باريس خلال توقيفي، ويضيفون اليها عناصر من الرواية التي بثتها اذاعة عمان عام 1973، ودون ان ينسوا "حشر" علي حسن سلامة في الصورة، بطريقة من الطرق.
لكننا عدنا وعرفنا مدى تورط "الموساد" في محاولة اغتيالي، وكان ذلك بعد مطاردة دامت عشرة اعوام قبل ان نتمكن من اعتقال المعتدي عليّ.
كان هذا الرجل هو نفسه قاتل عصام السرطاوي في البرتغال، عام 1983، خلال مؤتمر للاممية الاشتراكية. اعتقلته الشرطة البرتغالية، الا انه لم يمكث طويلاً في السجن لأن حكومة لشبونة خشيت الاعمال الانتقامية. لكننا استطعنا ان نعثر عليه عام 1990 في قبرص حيث نجح أبو أياد، باستغلال تصفية الحسابات التي كانت تخضّ منذ سنتين مجموعة أبو نضال، في اقناعه بالذهاب الى تونس مقر قيادة منظمة التحرير منذ طردنا من لبنان، اذا كان يريد ان يستفيد من حمايتنا. بالطبع، كان هذا العرض فخاً. وما ان صار بين ايدينا حتى اعترف لنا هذا الفلسطيني المتحدّر من نابلس ان "الموساد" جنّده عام 1980 وكلفه منذ البداية مهمة اغتيالي. ولهذا الغرض، اشار عليه الضابط الاسرائيلي المسؤول عنه بالالتحاق بصفوف أبو نضال لعلمه بأن الاخير كان بدأ يحضّر لاغتيالي.
وقال لنا السجين خلال استجوابه عام 1991:
- ...ولما قلت له اني لا اعرف اين أجد أبو داود، اجابني بأن لا اهتم بذلك لان جماعة أبو نضال سوف يرشدوني اليه!
وهذا ما حصل بالفعل، اذ ارشده حتى الفندق في وارسو شريكه الفلسطيني الآخر ودله اين كنت في الكافيتيريا، حسب تحقيقات الشرطة البولونية.
وبعدما اخذوا يخترقون تنظيم أبو نضال منذ بداية الثمانينات، لم يعد مستغرباً ان يعرف الاسرائيليون المزيد حول تورط هذا او ذاك من بيننا في عملية ميونيخ. وهذا ما يفسر انهم لم يخطئوا بعد ذلك واستهدفوا فلسطينيين شاركوا فعلاً فيها. فحتى ذلك الحين، وخلافاً لادعاءاتهم، لم يكن لاي من الضحايا التي زعموا انهم اوقعوها "ثأراً لميونيخ"، من زعيتر الى سلامة مروراً بالهمشري، اي علاقة بعملية الالعاب الاولمبية.
كانت المرة الاولى التي انتبهنا فيها الى ان الاسرائيليين يعملون اكثر مما نتصور في 1986 او 1987، لم اعد اتذكر، خلال احدى زيارات أبو أياد الى باريس.
كان أبو أياد يلتقي بانتظام في هذه الفترة مسؤولي مكافحة التجسس الفرنسيين. وقد اعتاد الاقامة عند ابراهيم الصوص، "سفيرنا" في باريس، وكان للاخير صديق فرنسي من اصل يهودي، هو الموسيقي المعروف دانيال بارنبويم الذي كان يتردد على شقة ابراهيم الذي هو ايضاً، كما هو معروف، من هواة الموسيقى الكلاسيكية ويعزف على البيانو بطريقة ممتازة. وكان لا بدّ ان يلتقي بارنبويم أبو أياد، فتبادلا اطراف الحديث، واذ بصديق الصوص يسأل فجأة: هل توافق على لقاء مسؤولين اسرائيليين؟
فاجاب أبو أياد: ولمَ لا؟ أنا مستعد، نريد التحاور مع الجميع.
فقال الموسيقار: جيد. أنا اتردد الى اسرائيل، وغالباً ما التقي المسؤولين ومنهم آرييل شارون. يحب الاستماع الى عزفي ونشرب احياناً كأس ويسكي سوية. عندما ألتقيه سأنقل اليه وجهة نظرك.
وعندما التقى أبو أياد مرة اخرى، في منزل ابراهيم، دانيال بارنبويم كان هذا عائداً لتوه من اسرائيل.
قال: تكلمت مع شارون وجوابه لم يكن ايجابياً... فعندما سألته اذا كان مستعداً للاجتماع بمسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية قال: "مَن تقصد؟". فأجبته: "أبو أياد". عند سماعه الاسم اعتقدت ان شارون سيختنق. فزمجر قائلاً:
"لا مجال. انه مجرم". فقلت له اني لا افهم قصده. فسألني بدهشة: "ألا تعرف انه خلف مجزرة ميونيخ". فأجبته: "لا، عندما التقيته في باريس بدا لي رجلاً مهذّباً ورصيناً، جنتلمن حقيقياً...". عندها قاطعني شارون قائلاً: "اسمع، اذا عدت والتقيت أبو أياد هذا قل له شيئاً واحداً سيفهمه وينقلب لونه الى الشحوب. قل له اننا نعرف انه زار فرانكفورت قبل بضعة ايام من عملية ميونيخ برفقة شخص يدعى علي وهناك التقى أبو داود". وبالفعل اصيب أبو أياد بدهشة كبيرة عند سماعه اقوال الموسيقار صديق ابراهيم الصوص.
فقال لي ابو اياد عند عودته الى تونس: تصوّر. ان الاسرائيليين يعرفون عن عملية ميونيخ اكثر مما يظهرون. حتى انهم على علم بتفاصيل لا فائدة منها.
والتفصيل الذي لا فائدة منه هو تسميتهم "علي" الرجل الثالث الذي كان موجوداً في فرانكفورت عندما ضرب لي أبو أياد موعداً قبل افتتاح الالعاب ببضعة ايام من اجل تسليمي الاسلحة المرسلة الى مجموعتنا. كان "علي" عنصراً ثانوياً في محيط أبو أياد - والمقصود علي ابو لبن، التاجر - مساعداً اقل رتبة من فخري العمري او عاطف بسيسو.
لم يكن الاهم في ما علمناه في رأيي: فحتى الآن لم يأت الاسرائيليون في اي وثيقة او مقال صحافي على ذكر الزيارة التي قام بها أبو أياد الى فرانكفورت والمرتبطة بالعملية المنوي تنفيذها في الالعاب الاولمبية. ها هم على علم بذلك ايضاً... من جهتي، كنت اعتقدت دوماً ان أبو أياد اخطأ باصطحابه صديقه التاجر الى المانيا. فعلي كان يسافر بجواز حقيقي وتحت هويته الفعلية، كما تبين لي عندما سألت عنه موظف الفندق الذي نزلا فيه في فرانكفورت. وما دام صار اسمه بحوزة الاسرائيليين، وبصفته من القريبين من أبو أياد، فقد بات بامكانهم تعقّب اثره ورصد الرحلات الجوية التي قام بها والفنادق حيث اقام. وليس اسهل من ان يسأل موظفي الفنادق ان كان علي ينزل وحده عندهم او برفقة أحد، وان يعرضوا عليهم صور أبو أياد وغيره من جماعته مثلي أنا. ولكن، في هذه الحال، من الذي اسرّ باسم علي أبو لبن الى الاسرائيليين؟
بالنسبة الينا، وحدهم الفلسطينيون الذي كانوا يلوذون بأبو أياد عام 1972 يستطيعون ان يعرفوا ان هذا التاجر يسدي اليه خدمات - حتى ان ذلك لم يكن متاحاً الا لمن تقودهم خطاهم الى القاهرة، اذ ان الرجلين كانا يلتقيان عادة في مصر. وأبو نضال كان من هؤلاء في تلك الفترة. فلدى عودتنا من الصين، ربيع تلك السنة، تناولنا العشاء، أنا وهو، عند أبو أياد في القاهرة، وكان علي أبو لبن موجوداً ايضاً.
الاستنتاج واضح: في ظل الصراع القاتل الدائر في الثمانينات بين أبو أياد وأبو نضال - الذي كنا بدأنا نشك في احتمال اختراق "الموساد" لتنظيمه - سرعان ما استخلصنا انه وحده كان قادراً، ربما دون علمه، على تزويد اعدائنا معلومات من هذا النوع.
بيد انه، على الرغم مما قاله شارون لبارنبويم، لم نكن نتصور على الاطلاق ان الاسرائيليين ما زالوا يفكرون، بعد اربعة عشر او خمسة عشر عاماً على تلك الاصوات، ب"الثأر لميونيخ" - بالافتراض ان هذا كان دافعهم الحقيقي في ما مضى!
وكدليل على عدم اكتراثهم بما حصل معي: في تموز/يوليو 1990 اعتقدت صحيفة برلينية هي "برلين مورغن بوست" انها تفضح نبأ مثيراً عندما كتبت انني اقوم بزيارات دورية لبرلين الشرقية واقيم فيها بانتظام. فقبل ذلك بأشهر، في 7 تشرين الاول/اكتوبر 1989، كنت فعلا في عداد المدعوين الى احتفالات العيد الاربعين لقيام المانيا الشرقية، وكنت انزل على بعد خطوات من عرفات في المقر الرسمي لضيوف وزارة الخارجية الالمانية الشرقية. لكن آمال "برلينز مورغن بوست" خابت عندما لم يلق خبرها تجاوباً من الرسميين في المانيا الشرقية التي اقترب موعد توحّدها مع المانيا الغربية. وقد اكتفى ناطق رسمي بالقول: "على حد علمنا ليست هناك مذكرة توقيف بحقه". واظهرت بون حذراً مشابها خصوصا ان الحكومة هناك كانت قد استقبلت ابو اياد قبل شهر. اما الاسرائيليون فلا اذكر انهم قاموا بأية مساعٍ رسمية ضدنا.
لكن هذه اللامبالاة الاسرائيلية كانت خادعة، وقد اكتشفنا ذلك بألم عندما اغتيل ابو اياد وفخري العمري يوم 15 كانون الثاني 1991 في قرطاج، في ضاحية تونس ومعهما ابو الهول، وذلك على يد رجل يعمل حارساً للاخير ولكنه في الحقيقة عميل مزدوج. وعندما استجوبناه، بعدما تسلمناه من التونسيين، اعلن القاتل انه عمل لحساب ابو نضال لكنه اعترف ايضاً بأن "الموساد" جنّده في اواسط الثمانينات حين كان مسؤولاً عن حماية احدى سفاراتنا في اوروبا الشرقية.
ومثله مثل الذي حاول قتلي عام 1981، تلقى هو ايضا الامر بالالتحاق بتنظيم ابو نضال، "فتح - المجلس الثوري". وبالفعل فقد اختفى ابتداء من 1986 ولم يعد يعرف عنه شيء، الى ان عاد وظهر بعد 4 اعوام في ليبيا حيث توسل ممثلنا لإعادته الى منظمة التحرير. فما كان من ابو الهول المسؤول عن الامن الداخلي في فتح، الا ان ادخله الى خدمته، وكانت النتيجة المؤسفة...
ثم جاء دور عاطف بسيسو مساء الثامن من حزيران/يونيو 1992، فاغتيل في باريس بينما كان يهم بالدخول الى فندقه، "ميريديان مونبارناس" بعد تناوله العشاء مع اصدقاء لبنانيين. كان القتلة اثنين، ومحترفين جداً هذه المرة: فما ان نزل عاطف من سيارة اصدقائه الذين رافقوه الى الفندق، حتى زركه احدهما قبالة السيارة فيما اطلق عليه الآخر النار بمسدس مزود كاتماً للصوت. عمل متقن: ثلاث طلقات اطلقت خلال كيس من البلاستيك حتى لا تضيع الرصاصات الفارغة! ثم وجّه القاتلان اسلحتهما على المارة قبل ان يلوذا بالفرار.
مستحيل ان تكون العملية من تدبير ابو نضال، بدليل مهنية القاتلين. اما ان يكون "الموساد" وراءها، فهذا لا يحمل الذى شك. والحق ان الجنرال اوري ساغي رئيس المخابرات العسكرية الاسرائيلية، راح لتوه يعلن للاذاعات ان عاطف كان "من الذين خططوا لعملية ميونيخ". كان ذلك بمثابة التوقيع، اذ انه لم يسبق ان ذكر الاسرائيليون اسم عاطف، مما يعني انهم حصلوا اخيراً على معلومات جديدة. من اين؟ هنا ايضا، لم يكن من مصدر سوى ابو نضال. فهو الوحيد القادر على ان يعرف اي مهمات كانت منوطة بعاطف عام 1972 ضمن مجموعتنا. ففي الاسابيع والاشهر التي تلت عمليتنا في الالعاب الاولمبية، كان عاطف هو من يعاونني في الاعداد لعمليتنا المقبلة في عمان. وقد رافقني مراراً الى بغداد حيث كان يلتقي ابو نضال الذي كان يمدنا بمساعدة لوجستية.
يبقى اني لست متأكدا من ان صديقنا قتل فقط في سياق "الثأر لميونيخ". فمنذ اغتيال ابو اياد، كان عاطف يدير بالفعل اجهزة مكافحة التجسس والاستخبارات في صفوفنا، لكنه فوق ذلك كان اقام علاقات جيدة مع وكالة الاستخبارات المركزية والاجهزة الاميركية. وقد عقد هذه الصلات خلال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الاوسط في خريف 1991. حتى انني استطيع الكشف انه عندما اغتيل في باريس، كان عائداً من رحلة الى الولايات المتحدة اتاحت له لقاءات جديدة مع مسؤولين اميركيين.
وعندما نعرف ما كان مصير علي حسن سلامة، قبل ثلاثة عشر عاماً، هل يكون من العبث التصور ان يعتقد الاسرائيليون وقد ساءهم قيام علاقات بيننا وبين الاجهزة الخاصة الاميركية بواسطة عاطف، ان افضل طريقة لاقفال هذا الطريق تكون بقتل الرجل الذي فتحه؟
في اي حال، مع الوقت بات واضحاً ان الاسرائيليين يعرفون الكثير حول عمليتنا في ميونيخ. لكنهم لم يعرفوا كل شيء - وكذلك ابو نضال - والبرهان على جهلهم الاحتفال الذي جرى يوم 13 ايلول سبتمبر 1993 في حديقة البيت الابيض في واشنطن عندما قام رابين وبيريس بمصافحة عرفات وابو مازن خلال توقيع الاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية الاولى المعقودة في اوسلو.
هل كانت هذه المصافحة الرباعية تحصل لو عرف الاسرائيليون ان ابو مازن كان "مموّل" عمليتنا في ميونيخ؟ اشك في ذلك نظراً الى ما حدث بعد شهر تقريباً على هذه المصافحة.
ففي تشرين الاول 1993 كانت تجري "جولة" جديدة من المفاوضات في طابا في مصر. وماذا رأينا؟ ضباطاً في جهاز المخابرات الاسرائيلية "شين بيت" يرفضون بصورة كلية وجود امين الهندي في عداد المفاوضين الفلسطينيين، وهو اليوم المسؤول عن المخابرات في المناطق التي انسحبت منها اسرائيل. وما كان سبب هذا التشدد؟ ان الاسرائيليين يتهمونه هو ايضا بالاعداد لعملية ميونيخ. واني اؤكد بشكل قاطع ان امين لم يشارك في تنفيذ عملية الالعاب الاولمبية ولا حتى في الاعداد لها. ولكن ليس هذا ما أثار حفيظتي. فما اغضبني هو اعتبار الجانب الاسرائيلي، في المقابل، ان الجنرال امنون شاحاك قائد اركان الجيش الاسرائيلي يمكنه هو الاشتراك في المفاوضات. وقد توصل الاسرائيليون الى فرض رأيهم مع العلم انه قبل عشرين عاماً قام شاحاك، على رأس مجموعة من الكوماندوس بالتسلل الى شقق ابو يوسف وكمال عدوان وكمال ناصر في بيروت، وارتكاب المجزرة المعروفة التي ذهب ضحيتها، اضافة الى هؤلاء، زوجة واحد منهم حاولت التدخل، وسيدة عجوز تقيم في احدى الشقق المجاورة.
*الحلقة العاشرة: الخميس المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.