سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قررنامواجهة "الموساد" في اوروبا فاتصلنا بالبلغار للحصول على اسلحة وبالمنظمات اليسارية لمساعدتنا تبلورت عملية ميونيخ مصادفة فتكلم ابو اياد مع ابو مازن ... فوافق على جمع المال الحلقة 1
أثارت اعترافات عضو المجلس الوطني الفلسطيني محمد داود عودة ابو داود عن عملية ميونيخ في كتابه "فلسطين: من القدس الى ميونيخ" ردود فعل غاضبة في اسرائيل وألمانيا. فأصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو تعليمات الى الاجهزة الأمنية بمنعه من العودة، وأصدر القضاء الألماني مذكرة توقيف جديدة بحقه بعد اعترافه بتنظيم عملية ميونيخ. "الحياة" تنشر اعترافات ابو داود التي ذكرها في الكتاب عن العملية على حلقات بدءاً من اليوم وكل خميس وسبت واثنين. وهنا الحلقة الأولى. كنا في 17 أو 18 آب اغسطس في تونس منذ ثمانٍ واربعين ساعة. أنا وياسر عرفات وأبو يوسف النجّار وأبو إياد. نقيم عند وزير الخارجية التونسي محمد المصمودي، وكان حينها في إجازة، وأعارنا دارته الفخمة في أحد الأحياء غرب العاصمة. جرت العادة في فتح، حين تقوم بعثة من اللجنة المركزية بزيارة بلد شقيق من اجل محادثات سياسية مع قيادته ان يرافقها واحد أو اثنان من اعضاء المجلس الثوري، البرلمان الداخلي لحركتنا. عند اتصاله من بيروت إثر عودتي إلى عائلتي في دمشق، أصرّ عليّ أبو إياد ان ارافقهم: - انها مسألة يومين أو ثلاثة، يمكنك بعدها المغادرة مباشرة إلى ميونيخ. كان سيتم افتتاح الالعاب الاولمبية العشرين في ميونيخ، في 26 آب اغسطس. وكنّا أنا وأبو إياد وأبو مازن نبحث عن طريقة للفت انتباه العالم إلى القضية الفلسطينية. وكنا قرّرنا القيام بعملية مدوّية. لم نكن في مرحلة متقدّمة من مشروعنا: كنت بدأت بعض الاستكشافات في المدينة البافارية في الاسابيع السابقة، ولكن كانت هناك امور كثيرة يجب ترتيبها قبل بدء تنفيذ العملية، وعليّ ان أعود إلى ميونيخ في اقرب وقت. في تونس، كان الوقت حان كي أودّع البعثة. كان عرفات وأبو يوسف النجّار وأبو إياد يتحدثون في دار المصمودي القديمة من دون ملل عن العناية الالهية الكبيرة التي احاطت ملك المغرب الحسن الثاني. في الواقع كنا علمنا في الامس أو قبله ان طائرة البوينغ التي يستقلها الملك، عائداً من عطلته في فرنسا، تعرّضت لنيران سلاح الجو المغربي. ونجت الطائرة باعجوبة من الانفجار في الجو. كنت مضطراً إلى مقاطعة نقاش رفاقي الطويل بغية وداعهم. ضمّني كل منهم بدوره وقبّلني متمنياً: - ليحمك الله، يا أبو داود! عرفات وأبو يوسف كانا يعرفان سبب مغادرتي. كان أبو إياد اخبرهما. لكنني خلال اليومين اللذين قضيتهما معهم في العاصمة التونسية لم أضطرّ الى مناقشتهم، ثلاثتهم، في المشروع الذي كنا ننوي تنفيذه خلال الالعاب الاولمبية المقبلة. إنّ محاوريَّ الوحيدين في قيادة فتح في هذه القضية التي ساهمت بشكل كبير في بناء بعض شهرتي في العالم العربي، وربّما ايضاً في العالم كلهّ، كانا أبو إياد وأبو مازن. وعلى عكس ما روى أبو إياد لاحقاً في كتابه الذي وضعه بالتعاون مع اريك رولو، ليس صحيحاً اننا كنا نفكّر في هذه العملية قبل ثمانية شهور، وأن التحضير لها استمر فترة اربعة اشهر. فالفكرة لم ترد حتى حين ذهبنا إلى ليبيا لطلب مساعدة مالية في شهر أيار مايو من محمد عبدالغفور، ولا حتى عندما اجرينا اتصالاتنا الأولى بالبلغار بهدف الحصول على اسلحة، من اجل عملياتنا ضد "الموساد" في اوروبا ولا حتى عندما غادرت إلى المانيا في 26 حزيران يونيو لشراء سيارة من اجل نقل هذه الاسلحة سراً. لم نفكّر في عملية الالعاب الاولمبية للمرّة الأولى إلاّ حوالى منتصف تموز يوليو. علاوة على ان هذا المشروع بالنسبة إليّ كان مجرد مهمة اضافية إلى جانب مهمتي لدى البلغار التي اسندت إليّ قبل شهر ونصف شهر، وكان عليّ اتمامها. لكني افهم على اي حال لماذا روى أبو إياد هذه الاحداث على طريقته بعد ست سنوات في 1978، رغبة منه في الاستمرار في خلط الامور. وسنعود إلى هذا الامر لاحقاً. لنعد إلى رحلتي إلى المانيا الاتحادية نهاية حزيران 1972. وصلت إلى فرنكفورت حاملاً جواز سفرٍ عراقياً باسم سعد الدين والي. لم أكن اعرف الألمانية. وبالرغم من ذلك لم تكن لدي اي مشكلة في التفاهم مع الآخرين. فهنا كل الناس تقريباً يتكلمون الانكليزية. نزلت في فندق "ريكس" حيث كان من المفترض ان يلاقيني فلسطيني آتٍ من بيروت هو ايضاً من فتح وله معارف كثيرة في الاوساط الفلسطينية في برلين. بعد انتقالي إلى دورتموند من اجل لقاء مراسل عاطف بسيسو، الالماني الشاب المفترض فيه مساعدتي على شراء سيارة، كان يجب ان نمرّ في برلين الغربية، وان نجسّ نبض مواطنينا بهدف الحصول على مساعدة منهم ضمن إطار نشاطاتنا المستقبلية ضد "الموساد". لكننا واجهنا عائقاً، إذ لا اعلم لماذا رفضت سفارة المانيا الاتحادية في بيروت اعطاء هذا الفلسطيني تأشيرة دخول. وأوضح لي الامر على الهاتف: لا يهم، فسوف اوافيك إلى برلين مباشرة. فتعجّبت: كيف هذا، توافيني إلى برلين؟ - هذا بسيط، استطيع الحصول على تأشيرة إلى المانياالشرقية. وعند وصولي إلى برلين الشرقية أَنتقل إلى برلين الغربية. ما من امر اسهل من ذلك بالنسبة الى الاجانب. يكفي ان تستقل المترو. اعطاني رقم هاتف لكي اتصل به بعد بضعة ايام عند اصدقائه في برلين، واتفقنا على موعد في 4 أو 5 تموز. أمّا أنا فأخذت القطار إلى دورتموند والتقيت الالماني الشاب الذي كان عاطف على اتصال به. توجهت مباشرة إلى المطعم حيث يعمل واسمه "شوراسكو"، فوجدته وقدّمت اليه رسالته المؤرخة في 30 أيار التي وجّهها إلى مساعد أبو إياد. كانت بمثابة جواز مرور، فافهمته بسرعة انني بحاجة إلى مساعدته لشراء سيارة مستعملة، تحمل لوحة المانية. - سجّلها باسمك وأنا ادفع ثمنها. - حسناً. هل لديك طراز مفضّل؟ - لا. المهم ان تكون سيارة متينة وسريعة. هذا امر لا يقلقني هنا في المانيا. نحن نعرف شهرة المرسيدس في الشرق الاوسط. أضاف: اعتقد انك على عجلة من أمرك. متى تريد الحصول على هذه السيارة؟ - في اقرب ما يكون. حجزت في فندق "روميشر كايزر" واستطيع البقاء في دورتموند يومين أو ثلاثة فقط. بعدها، يجب ان أغيب، ويمكنني العودة بعد اسبوع إذا اضطررت. - عظيم، هكذا اذا لم اتمكّن، لسبب ما، من ايجاد ما يلزمك غداً، يكون لديّ وقت كافٍ للبحث! بعد يومين، استقللت القطار مجدداً إلى فرنكفورت. كان امام هذا الشاب خيارات عدّة، لكننا قرّرنا ان نفكّر ملياً قبل ان نأخذ الخيار النهائي. كما انه كان يريد استشارة بعض محال التصليح، إن في دورتموند أو في فرنكفورت، من اجل فحص شامل للسيارة التي سنشتريها. كنت اجهل حينها نشاطات ويلي فوهل السياسية، أو حتى ان كانت عنده اي نشاطات. كان يعرف عاطف اثر اقامة له في لبنان، حدث انه، عبر الاخير، التقى أبو إياد في بيروت. على الاقلّ هذا ما اخبرني اياه. من جهتي، لم اطرح عليه اي سؤال، كما انني لم أحدّثه عن مخططاتنا في اوروبا. كل ما يهمني كان انه متعاطف مع القضية الفلسطينية ومستعد لخدمتنا. انّ امثاله، قلت في نفسي، يمكنهم ان يكونوا ذوي منفعة كبيرة لنا في المستقبل، وخصوصاً لمساعدة جماعتنا في ذهابهم وايابهم في اوروبا حين نرسلهم في مهمات. راودتني الفكرة نفسها عن شباب المان آخرين عندما كنت جالساً في احد المقاهي في فرنكفورت، عشية سفري الى برلين. كانت ثمة ملصقات معلقة على حيطان المقهى لرجال ونساء مع اسماء وشعارات مكتوبة بخط عريض بالالمانية، بالطبع، لم افقه منها شيئا. كان واضحاً انهم لم يكونوا ممثلي سينما، ولا مغني منوعات على رغم ان المقهى كان مليئا بشباب طويلي الشعور، وتسمع فيه موسيقى الروك. فسألت احد الجالسين الى الطاولة بجواري، وكان ذا شعر طويل كالآخرين: - من هم هؤلاء المعروضة صورهم على الملصقات؟ فأجابني متعجباً لجهلي: - كيف؟ ألا تعرف؟ هؤلاء مناضلو الحركة الطالبية الالمانية واليسار غير البرلماني. اعتقلوا الشهر الماضي ونحن نفعل كل ما في وسعنا هنا لاطلاق سراحهم. كانت تلك المرة الاولى التي اسمع فيها باندرياس بادر واولريكه ماينهوف، وبالمجموعة التي انشآها "فصائل الجيش الاحمر". عند متابعتي الحديث، علمت انهم يناضلون ضد حرب فيتنام، وضد الوجود العسكري الاميركي في المانيا، وانهم لم يترددوا في تفجير قنبلة ضد المقرّ العام للقوات الاميركية في فرنكفورت نفسها. اضاف محدثي نحن نؤلف لجاناً في انحاء المانيا. وسوف ننظم تظاهرات لاخراجهم من السجن. كنت استمع اليه وافكر بهؤلاء الشباب الالمان الذين استقبلناهم في مخيماتنا في الاردن قبل سنتين او ثلاث. كان هذا، كما ذكرت، "مخيم تضامن"، العام 1969، وكانوا مع غيرهم من الشباب الآخرين في كل انحاء اوروبا. ولفت بعض منهم الانظار عند عودتهم الى ديارهم بمحاولتهم الاعتداء على كنيس يهودي في برلين وبكتابات مؤيدة للفلسطينيين من نوع "النصر لفتح" كتبوها على نصب تذكارية يهودية - وهذا بالضبط ما لم نكن نريده منهم. فهل نبههم مسؤولون في دائرتنا الدولية الى ذلك؟ على اي حال لم تصلنا بعدها اخبار من هؤلاء اليساريين الالمان. فعندما شعروا اننا في "فتح" لسنا متطرفين كفاية، توجهوا نحو الجبهة الشعبية، اسوة برفاقهم الشبان الآخرين من يابانيين واتراك وايرلنديين وايطاليين وحتى اميركيين جنوبيين. الا ان البعض من جماعتنا عادوا الى التعامل معهم قبل ان نُطرد من الاردن. كان ذلك في تموز 1970. اذ التجأ الينا موقتا في عمان 15 فوضوياً المانياً شاباً، من رجال ونساء، اثر ملاحقتهم من قبل شرطة برلين الغربية. وكانوا قد تمكنوا من الالتحاق برحلة جوية من برلين الشرقية الى بيروت بفضل احدى وكالات السفر وبتوجيه احد ممثلي الاتحاد العام لطلبة فلسطين في برلين الغربية، فاستقبلهم داود بركات الذي كان حينها في لبنان وكانت بينهم صحافية مشهورة كان يعرفها عندما كان يقيم في المانيا. لم تكن هذه المرأة الشابة التي سمعت عنها من دون ان اتذكر اسمها، سوى اولريكه ماينهوف. فهمت ذلك في تلك اللحظة لأنها كانت بالضبط صحافية قديمة مشهورة، غابت عن الساحة قبل سنتين، كما اخبرني الشاب الذي التقيته في ذلك المقهى بفرنكفورت. أخفيت هذا الامر عن محدثي اثناء تبادلنا الكلام، اذ انني كنت اعرف تتمة مغامرة هؤلاء الشبان الفوضويين الالمان في الشرق الاوسط قبل سنتين. فقد استضفناهم عند وصولهم الى عمان في مخيم عسكري على احدى التلال غيرالبعيدة عن مباني الاذاعة الاردنية، عند مخرج المدينة باتجاه العقبة. وكانوا يريدون انتهاز فرصة اقامتهم ليتدربوا على القتال. لم اعرف من وافق على طلبهم هذا لكنني اعتقد ان علي حسن سلامة على علاقة بالامر، وهو المسؤول عن جهاز الرصد، الذي كنت تركت صفوفه آنذاك. كان المخيم على اي حال بادارة جزائري في الخمسين من العمر، عضو في فتح. وكان نظام المخيم صارماً، وواجهت الشبان الالمان بعض المشاكل في البداية، لأنهم كانوا يرفضون الفصل بين الرجال والنساء، وهنا ايضا ربحوا المعركة في النهاية. كان ذلك المكان حقل رماية، وكنا نخزّن فيه الاسلحة والذخائر، وكان من المواقع الاولى التي هاجمها الجيش الاردني في ايلول سبتمبر 1970، وكان أُخلي بمعظمه قبل تلك الاحداث العصيبة بوقت قصير. المثير في هذه القصة، في ما يختص بهذه المجموعة من الفوضوييين البرلينيين الذين اتوا وتدربوا عندنا لمدة اربعة او خمسة اسابيع - علما انني لم اجتمع بهم شخصياً، لكنني أُخبرت بذلك - هو انهم علموا ان مجموعة اخرى من الشبان الالمان كانت ستحل محلهم في المكان نفسه، لكنها كانت من... النازيين الجدد. فثاروا بشكل عنيف ضد هذا الامر، ما دفع مسؤولي المخيم الى التراجع عنه. وعلمت ايضاً انه على الرغم الجهود التي بذلناها لارضائهم، الا ان هؤلاء الفوضويين البرلينيين التحقوا بعد وقت قصير بالجبهة الشعبية، فذهب اهتمام جماعتنا البالغ بهم سدى. لكن بما اننا في "فتح" ملتزمون النضال نفسه ضد الامبريالية، وبما انه كان واضحا ان "الجيش الاحمر" هذا له متعاطفون كثر في اوساط الطلاب واليسار المتطرف في فرنكفورت، اخذت افكّر بالخدمات التي أدّيناها لهم، وقلت انه من الجيّد ان يبادلنا الفارون منهم هذه الخدمات اذا لزم الامر، ضمن اطار نشاطاتنا في اوروبا ضد "الموساد"، وانه من المهم ان يتم الاتصال بين مجموعتنا والفارين منهم، ومن هم احرار حاليا، هذا اذا لم نأخذ في الحسبان اننا نفيدهم بدورنا ايضاً. كنت افكر حين ركبت القطار الى برلين: يجب ان اتكلم عن هذا مع ابو اياد. لم ابق في برلين الغربية اكثر من يومين. في الواقع كانت تلك الرحلة من دون فائدة. فالفلسطيني الذي كنت مبدئيا على موعد معه في فرنكفورت، كان فعلاً عند اصدقائه، لكنني لاحظت كيفية عيش مواطنينا. كان كثيرون منهم من دون عمل، لكنهم كانوا يقضون اوقاتاً طيبة - لاحظت خصوصاً كم كانت المدينة مليئة بالمواقع والمراكز العسكرية وبعملاء الاستخبارات على الارجح، فاستنتجت انه من غير الحذر ان احاول تجنيد افراد من جماعتنا من اجل هذا النوع من الاعمال التي كنا ننوي القيام بها. الى ذلك، كنت اشعر ان عاصمة الرايش القديمة غير ملائمة جغرافياً، إن من اجل كشف عملاء "الموساد" في اوروبا الغربية ومراقبتهم، او من اجل تجوال رجالنا ولو ان المرور عبر برلين الشرقية كان سهلاً. باختصار، ومن كل النواحي، كانت تبدو لي منطقة فرنكفورت او منطقة الرور اكثر ملاءمة. لم أُطل اقامتي في فندق "هرفيس" الدولي حيث كنت اقيم، وركبت الطائرة عائداً الى فرنكفورت. حسناً فعلت، اذ انني في فرنكفورت، وفي فندق "شويل" حيث استقريت، اتصلت هاتفياً بويلي فوهل بشأن السيارة التي كنا ننوي شراءها، اذ وجد "سيارة مستعملة ممتازة" بألف دولار نحو ثلاثة آلاف مارك الماني حينها. وكان علينا ان نتم العملية في 8 تموز على آخر حدّ. كان 8 تموز يوم سبت فوجدت نفسي في دورتموند من جديد. دفعت المبلغ المتفق عليه واصبحت املك "مرسيدس 250 اس/ اي سبور" كوبيه بيضاء، سقفها اسود، ورقم لوحتها DO-DC 791. وعلمت في اليوم نفسه، وعبر الهاتف من ابو اياد، الخبر الفاجعة: قتل غسان كنفاني، احد اشهر كتابنا. تمزق اشلاءً هو وابنة اخته التي كانت ترافقه في صباح ذلك اليوم في بيروت، عندما ادار محرك سيارته امام منزله. اذ كان موصل تشغيل التيار مربوطا بعبوة كبيرة من المتفجرات ملصقة تحت كرسي السائق. غسان، وهو مدير "الهدف"، صحيفة الجبهة الشعبية، كان ربما قد وقّع حكم الاعدام بحق نفسه في نظر الاسرائيليين عندما اعلن باسم منظمته المسؤولية عن المجزرة التي قام بها في ايار ثلاثة انتحاريين يابانيين في مطار اللد، وعندما نشر صورا أخذت لافراد للمجموعة في الاسابيع السابقة، اثناء تدريبهم في احد مخيمات وديع حداد. لكن غسان كان رجل قلم وداعية، وليس زعيماً ارهابياً. لم يهتم الاسرائيليون للفارق أبداً، وإنما قتلوه كما لو كان وديع حدّاد. إلى ذلك، ما دخل ابنة أخته الشابة في كلّ هذا، وهو كان ذاهباً معها في ذلك الصباح لتسجيلها في الجامعة في بيروت؟ إنتابنا القلق، أنا وأبو إياد. وتوقفنا عن الاتّصال ببعضنا هاتفياً خلال نهاية الأسبوع. كنت لا أزال في دورتموند في فندق "روميش كايزر"، أنتظر يوم الاثنين كي نأخذ السيارة التي اشتريناها أنا وويلي إلى محل لإجراء الصيانة لها. إلا أننا غيّرنا الخطّة، صباح الاثنين. قال لي أبو إياد: أنا ذاهب إلى إيطاليا، أترك السيارة حيث تستطيع في ألمانيا من أجل أعمال الصيانة. ثم وافني في هذه الأثناء إلى روما. وتعود في ما بعد لتأخذ السيارة. هناك مستجدّات. ثم تكلّم أيضاً مع ويلي فوهل، كان يريد إسناد مهمة إليه في "مكان ما من أفريقيا الشمالية". لم أعرف أكثر من هذا، لكنني أعتقد أنه كان سينتقل إلى ليبيا. وافق ويلي. ومع ذلك اقترح أن يرافقني إلى فرنكفورت، قبل رحيله، حيث نترك السيارة في كاراج لسيارات مرسيدس نأخذ بعدها الطائرة، كلّ إلى غايته. سافرنا سوية، في 11 تموز إلى فرنكفورت. رحلنا باكراً، لأنه كان عليّ الذهاب إلى القنصلية الإيطالية كي أطلب تأشيرة دخول. اثر ذلك، وبعد إيداعنا السيارة الكاراج الذي تواعدنا معه، أعطاني ويلي الإيصال كي أستعيدها بعد بضعة أيام ثم رحل. ولم أرَه إلا بعد سنتين. وفي اليوم التالي، كنت على متن الطائرة إلى إيطاليا. أعطاني أبو إياد عنواناً في روما فندق "ريزيدنسيا أدلر". وكان عليّ أن أقيم فيه منتظراً خبراً منه. حضر أخيراً في 13 تموز يرافقه فخري العمري أبو محمد. كان عائداً من رحلة سريعة إلى شمال إيطاليا حين أجرى محادثات مع أوساط إيطالية من اليمين المتطرّف. على الأقل هذا ما أوضحه لي عن القضية. لكن محادثاته معهم لم تثمر. قال لي: هؤلاء القوم أغبياء. لا أفهم كيف يفكّرون. أنا على أيّ حال، أوقفت كل محادثات معهم. لم يقل لي أكثر من هذا، لكن الأمور كانت تبدو لي أفضل بكثير على هذا النحو. كانت علاقة حركتنا مع الحزب الشيوعي الإيطالي ممتازة. فاذا علم أصدقاؤنا في هذا الحزب اننا نتحادث مع الفاشيستيين، فلا أعتقد أن وقع هذا الأمر سيكون طيباً لديهم! هنا وصل أبو إياد إلى سبب استدعائي: هناك شيء جديد في مهمّتك. عندما تلتقي البلغار مجدداً، سوف تطلب منهم مسدسات أوتوماتيكية مجهّزة بكواتم للصوت. هذا ما سنحتاج إليه بشكل خاص في أوروبا. سيوضح لك أبو محمد الأنواع المطلوبة. وأعلمني، فضلاً عن ذلك، ان لديّ موعداً في صوفيا بعد أسبوع بالضبط في 20 تموز صباحاً مع أحد أصدقائه علي أبو لبن الذي يسدي اليه خدمات من وقت إلى آخر. كان علي في "فتح" وعرّفني اليه أبو إياد قبل سنوات في القاهرة وعدت صادفته في الربيع الماضي. وتابع أبو إياد قائلاً: غالباً ما يسافر هذا الرجل الى المانيا الاتحادية، بسبب نشاطاته التجارية، ومن السهل عليه شراء سيارة في هذا البلد، فلماذا لا نستفيد من ذلك؟ بالطبع سوف تطلب من البلغار أن يعدّوا مخبأ في هذه السيارة أيضاً كي نخفي فيه الأسلحة. وهكذا يكون لدينا سيارتان لتنقلاتنا السرية، نوجهّ الأولى نحو أوروبا الغربية ونرسل الثانية إلى لبنان. أخيراً قدّم عرضاً سريعاً للعمليات التي كنّا نخطّط لها ضد عملاء "الموساد" العاملين في أوروبا: العملية الأولى متوقّعة في بلجيكا. لكنه كان واضحاً انه بالمقارنة مع الاعتداء البشع الذي ذهب ضحيّته غسان كنفاني وابنة أخته الشابة قبل بضعة أيام في العاصمة اللبنانية، لم تكن مخطّطاتنا الموجّهة ضد "الموساد" فقط لترضيه فعلاً. من الواضح أن العدو لم يعد يوفّر أحداً. أنه يصفّي كل الذين يستطيع الوصول إليهم من جماعتنا. ومن جهة أخرى، لم نعد في أمان في بيروت. كيف نُفهم الاسرائيليين اننا نحن أيضاً نستطيع أن نجعل حياتهم في الخارج مستحيلة؟ اقترح فخري: بإمكاننا الهجوم على مقرّ بعثة إسرائيلية في الخارج. أجاب أبو إياد: لا. لا. إذا هاجمنا السفارات والقنصليات الاسرائيلية بهذه الصفة، سنثير عداء الدول المضيفة. أما تصفية عملاء الاستخبارات فهذا لا يثير النوع نفسه من المشاكل. إن الدول هنا في الغرب اعتادت بعض الشيء حروب الظلّ هذه، بين عملاء استخبارات الشرق والغرب تحديداً. قلت: لا يمكننا الاصرار على القيام بحرب "نظيفة" ضد أعدائنا، أي الا تكون أهدافنا سوى عملاء "الموساد" أو العسكريين الاسرائيليين، في حين أن الاسرائيليين لا يقيمون فرقاً عندنا بين مدني وعسكري! سوف نفقد كل رصيدنا عند جماعتنا. سأل أبو إياد: وماذا تقترح؟ لم يكن هناك من خطة معينة في ذهني، لكنني كنت أعرف شيئاً: لا يمكننا البقاء حيث نحن. كنت أشعر بشكل غامض أن شعبنا، في ذلك الصيف 1972، كان ينتظر منّا أن نشنّ حملة ثأر لما كان يعانيه من الاسرائيليين. قلت: لست أفكّر بشكل خاص بتدابير ثأرية واسعة النطاق تأخذ بها مجموعتنا زمام المبادرة، ولكن في ما بلغناه من حال التصعيد لن يفيدنا أن نقتل هذا أو ذاك من عملاء الاستخبارات الاسرائيلية ثأراً لضحايا الشعب الفلسطيني أو للقصف الرهيب الذي عانيناه في الاشهر الماضية. أنا لا آخذ هنا فقط في الاعتبار يأس مقاتلينا الذين لا حيلة لديهم في الردّ على طيران العدو أو مدفعيته. بل المدنيون أيضاً. إذا لم نتجاوب مع رغبتهم في الثأر، سوف تكون نهايتنا في حركة فتح. وسيأخذ مكاننا آخرون. أبو إياد: ثقْ يا أبو داود إننا في قيادة الحركة نعي هذه المشكلة. لكن هناك معطيات أخرى يجب أن نأخذها في الحسبان. فإذا كنا، على الصعيد العسكري، في أصعب الأوضاع، إلاّ أننا نسجل ديبلوماسياً انجازات مهمة. عرفات مدعو للمرة الاولى من القيادة السوفياتية لزيارة رسمية إلى موسكو. يبدو أن أبو إياد كان يبني آمالاً كبيرة على هذه الزيارة. كان متأكداً ان اتفاقاً سوف يعقد، وسوف يزوّدنا الاتحاد السوفياتي، وفقاً لهذا الاتفاق، مضادات للطائرات تزيد بشكل كبير إمكاناتنا الدفاعية في جنوبلبنان - وذلك كان كما يحدث في فيتنام الشمالية، ضد القاذفات الأميركية. توقف النقاش عند هذه النقطة موقتاً. كان على ابو اياد ان يزور ممثل منظمة التحرير وفتح في روما وائل زعيتر ان وائل هو ابن المؤرخ عادل زعيتر، وهو نفسه كاتب ويتكلم خمس لغات. ترجم "الف ليلة وليلة" الى الايطالية وشغل وظيفة مترجم في السفارة الليبية، وهو يساري قريب من الحزبين الاشتراكي والشيوعي الايطاليين. يتردد على الاوساط الادبية في العاصمة. ويقال انه كان صديقاً شخصياً لألبرتو مورافيا. ذهب ابو اياد الى موعده، وأعطاني فخري التعليمات عن الرشاشات الصغيرة المجهزة بكواتم الصوت. نماذج معدّلة من الرشاش السوفياتي ستتشكين عيار 9 ملم كان يجب ان اطلبها من البلغار عند وصولي الى صوفيا. وكانت في حوزته كلّ الوثائق الضرورية. التقينا أبو إياد لاحقاً حين كنا نجلس بهدوء على رصيف مقهى في احدى ساحات المدينة المشهورة، ساحة "الروتوندا" على ما اذكر. كنا نطالع الصحف الاجنبية والعربية، وأغضبنا كثيراً ما قرأناه في احدى المقالات الصغيرة، اذ رفضت اللجنة الدولية للألعاب الاولمبية اشتراك فريق من الرياضيين الفلسطينيين في الالعاب الاولمبية العشرين التي ستجري في ميونيخ ابتداءً من نهاية آب. أطلعنا ابو اياد على المقال، فلم يتعجّب لقرار هذه الهيئة: بعثت منظمة التحرير برسالتين رسميتين منذ بدء السنة الى اللجنة الاولمبية في لوزان، بسويسرا، تطلب فيها اشراك رياضيينا في العاب ميونيخ. لكنها لم تتنازل وتبعث الينا بأي جواب. فنحن غير موجودين بالنسبة الى هذه المؤسسة المحترمة التي تدّعي أنها غير سياسية. فعلّق فخري قائلاً: عظيم، بما انهم يرفضون مشاركة الفلسطينيين في هذه الالعاب، لماذا لا نحاول الدخول بأساليبنا الخاصة الى الحرم الاولمبي؟ فسأله ابو اياد: وماذا نفعل هناك؟ - نحتجز الرياضيين الاسرائيليين. - انت مجنون! قلت: لا، فكرة ابو محمد ليست عاطلة، بما ان الاسرائيليين وبكل تأكيد لا يحترمون شيئا، فنحن ايضاً سنتصرف هكذا! علاوة على ذلك، ان كل رياضييهم تقريباً هم من العسكر. هتف فخري: مثل كل الاسرائيليين! تابعت قائلاً: ليس هذا فقط، بل ان المسؤولين وكادرات الاسرائيليين الرياضية، المدربين، المعالجين والرياضيين يأتون عملياً من مؤسسة اورد وينغايت، التي تحمل اسم ذلك الضابط البريطاني المشؤوم السمعة الذي نظّم في 1937 - 1939 في فلسطين وبمساعدة الهاغانا، قوات المغاوير التي خاض ضمنها امثال دايان وألون اولى معاركهم ضدّ جيل آبائنا . وتحوي المؤسسة تجهيزات هائلة قرب البحر شمال تل ابيب. وبحسب ما يوحيه اسمها، يقوم بالمهمات الادارية والتنظيمية فيها قدامى ضباط الاستخبارات او ضباط فرق المغاوير الخاصة الذين ينتمون الى كادرات الاحتياط في الجيش الاسرائيلي. وتدرَّب فيها كل انواع الرياضات، ولكن يجري فيها بشكل خاص اعداد المصارعين وابطال الرماية. وكنت استعلمت عن هذا عندما كنت في الرصد، قبل ثلاث او اربع سنوات. ومن غير المحتمل ان يكون قد تغيّر اي شيء. عندما كنت اتكلم كان ابو اياد يلتزم الصمت، لكننا شعرنا ان الفكرة التي قدّمها فخري أثارت اهتمامه. وبعد قليل، خرج عن صمته: بما اننا حرمنا حتى من "الهدنة الاولمبية" فما من سبب لاحترامها! ففي مقابل اكبر عدد من الرياضيين والموفدين الاسرائيليين الذين سنتمكن من احتجازهم، سوف نفرض اطلاق العدد الملائم من معتقلينا في اسرائيل. في الحقيقة هذا المشروع لا يشكو من شي! ثم استدار نحوي وقال: ميونيخ تقع على طريقك الى بلغاريا؟ - سوف يضطرني هذا الى تغيير طريقي، لكن ثمة طريقاً تمرّ بها، وهي توصل ايضاً الى النمسا عبر سالزبورغ... أبو إياد: من المفيد ان تقوم باستكشاف اولي لكن انتبه جيداً، لديك موعد مع علي في صوفيا في 20 تموز. يجب الاّ تفوت هذا الموعد. - اعتمد عليّ. أبو إياد: حسناً، سنتكلم مجدداً في هذا الموضوع بعد أن تكوّن فكرة عن الوضع ميدانيا. سوف نعود انا وابو محمد، في هذا الوقت، الى لبنان، لكنني سأكون في أثينا بعد اسبوع. عندها تستطيع أن توافيني الى هناك. طبعاً، لا تنبس ببنت شفة لأي كان عن هذا الموضوع، ولا حتى لعاطف اذا كلّمك على الهاتف. لا تتحدث مع أحد في الموضوع اطلاقاً، هل هذا واضح؟ فقلت: لن يكون هذا صعباً عليّ، لكن لا بد ان تضع ابو مازن في الجو. إنّ المال الذي اعطانا اياه عبد الغفور قبل شهرين غير كافٍ لتنفيذ عملية كهذه. - لا تقلق في هذا الشأن، سوف اتكلم مع ابو مازن في الوقت المناسب. انا متأكد من انه سيوافقنا الرأي واننا سنحصل على المال اللازم. بالطبع ان فكرة احتجاز الرياضيين والموفدين الاسرائيليين في الالعاب الاولمبية المنتظرة لم تنبت فجأة في رؤوسنا فقط لأن اللجنة الاولمبية تعاملت معنا كأننا غير موجودين، بل اننا كنا ننوي الاستفادة خصوصاً من حضور وسائل الاعلام الدولية الاستثنائي طوال فترة المسابقات كي نعطي قضيتنا صدىً عالمياً. عندها سيطلع كلّ بيت في العالم على المأساة الفلسطينية. اما بالنسبة اليّ، فكان عندي الآن امران افكّر فيهما: استعادة المرسيدس التي تركتها في فرنكفورت واخذها الى بلغاريا، والاستفادة من ذهابي وايابي كي استكشف الاماكن في ميونيخ. لكن نهاية الاسبوع كانت تقترب، فهل ضيّعت الكثير من الوقت في روما مع ابو اياد وفخري؟ ذاك انني لن أتمكّن من الوصول في الوقت المناسب لإستعادة السيارة قبل إقفال محل الصيانة إذا ركبت الطائرة بعد ظهر الجمعة، لأنني لم أحجز لصباح اليوم التالي. في المقابل كان بإمكاني ان استقل القطار من روما وأصل في الصباح التالي الى ميونيخ. هكذا يكون لدي يوم السبت بأكمله وقسم من الاحد لأستطلع، ثم آخذ القطار الى فرنكفورت واذهب الاثنين صباحاً لاحضار المرسيدس... * من كتاب "فلسطين: من القدس الى ميونيخ". * * الحلقة الثانية السبت المقبل.