كان "تشي" - واسمه الحقيقي يوسف نزّال - أحد ضبّاط "العاصفة" الشبّان. كنت التقيته مرّة في نهاية 1971، عندما كنت قائد الشعبة 48. كانت قاعدته قرب النبطية في جنوبلبنان، وكان من أولئك الذين يقومون بعمليات خلف الحدود مع اسرائيل. هو أصغر مني بعشر سنوات تقريباً، وقد تدرّب على يد صديقي الراحل وليد أحمد نمر أبو علي أياد وكان يتبعه في الربيع السابق في تلال جرش وعجلون في الاردن. وقد نجا من الكارثة النهائية، مثله مثل عددٍ من الآخرين. واخيراً كان في عداد قادة الفدائيين الذين رأيتهم في بيروت، بعد غارات الطيران الاسرائيلي القاتلة في شباط فبراير 1972 على جنوبلبنان، وهم يتوسلون أبو أياد القيام "بتنظيم شيء ما، في مكان ما"، فيردّون بذلك الصاع صاعين. والتحق منذ ذلك الوقت بمخيّمنا الصغير شمال صيدا. انه هو مبدئياً المدعوّ لتسلّم زمام القيادة العسكرية لفرقة الفدائيين الذين نتوقّع ارسالهم نهاية هذا الشهر الى ميونيخ. كان هذا الخيار جيداً، بما انّه رجل حاذق ومقاتل ممتاز في الوقت نفسه. امّا السلبية الوحيدة فهي انّ "تشي" قصير القامة جداً، وهذا عائق أكيد بالنسبة له وللذين سيرافقونه اذا كانوا بصغر حجمه عندما سيضطرون الى تسلق السياج الذي يعلو مترين والذي تحاط به منذ الآن القرية الاولمبية. كنا قد قررنا في الواقع، ان يقوم الفدائيون بهجومهم على الابنية حيث يقيم الرياضيون اثناء الالعاب منتهزين بذلك فرصة نومهم اثناء الليل. قمت أنا ورفيقاي بزيارة المكان في وقتٍ كانت الاعمال فيه ما زالت مستمرّة ولم تكن قد أغلقت بعد في وجه الجمهور، وذهبنا لتفحّص الشِباك المعدنية عن كثب التي لم تكن قد وضعت بعد عند مروري السابق في تموز يوليو. وكان ذلك أحد اكتشافاتنا الاساسية خلال هذا الاستطلاع، لأننا من ناحية ثانية، لم نكن نعلم اي شيء عن توزيع البعثات داخل القرية. لم تكن لدينا عندئذٍ اية فكرة عن الامكنة المحرّرة حيث سيتحرّك الفدائيون عند وصولهم الى مسرح العملية. لكننا كنا متأكدّين انّه بغية الوصول الى اي مكان داخل ذلك المحيط، لا بدّ من تسلّق سياج الحديد العالي. لم يكن من الصعب جداً تسلق السياج بحدّ ذاته، تُدخِل طرف حذائك في عينيات الشباك المعدنية وتستند عليها، حتى مع حقائب الاسلحة والمعدّات الضرورية طوال الهجوم. كما ان اعلى السياج كان مصنوعاً من مخروطات مستديرة الرأس: لم يكن من أثر في اي مكان - في الوقت الحالي، على اي حال - للأسلاك الشائكة. المشكلة هي أنّه بهذه الطريقة، وتحت وزن الرجال والحقائب، سوف يهتزّ السياج ويصدر صريراً، وهذا غير مرغوب فيه اطلاقاً عندما تقوم بعملية تتطلب صمتاً تاماً. قلت ليوسف: لا أرى سوى حلاً واحداً. يجب ان تتدربوا على تسلّق رجلٍ بطولي تقريباً، مثل أهل السيرك عندما يبنون اهرامات بشرية. اذا تعلمتم كيف تفعلون ذلك، يصبح الانتقال الى الجهة الاخرى امراً سهلاً، عند وصولكم الى هنا. بإمكانكم حتى القفز، بما انه يوجد عشب تحت في الجهة الثانية. - اجل، لكن سيكون هناك على الاقلّ فدائي واحد لن يمرّ معنا. - لا، ابداً، بما انني أنا سأعمل على تمريركم. شيئاً فشيئاً بدأت ترتسم معالم خطة العمل: ساعة تسلّلهم الى القرية الاولمبية، يكون كلّ الفدائيين بثياب الرياضة. وحتى إذا انتبه اليهم لسوء حظهم ورغم حذرهم حرّاس، هنا أو هناك، يقومون بدوريات في الداخل، او يحرسون في الخارج، فسيبدون وكأنهم رياضيون "قفزوا فوق السور" عائدين الى مقرّهم. وهذا يلغي تلقائياً مسألة ما اذا كان يجب ان يصل الفدائيون في تلك الليلة، كلّ من جهته أو في مجموعات من إثنين أو ثلاثة الى نقطة تجمّع قرب السياج: سوف يتقدّمون سوياً، مثل أي بعثة تعود بعد قضائها السهرة في المدينة. كما اتفقنا انّ عشرة رجال يكفون لإحتلال شقق الرياضيين الاسرائيليين الذين سيفاجئونهم خلال نومهم. وسيحمل كلٌّ من رجالنا بندقية هجومية أ. ك. 47 مع مخزن أو مخزنين إضافيين. وقنبلة يدوية، تُخفى في حقيبة رياضية شخصية. لم نكن نعلم بالضبط عدد الرياضيين الذين سترسلهم اسرائيل الى الألعاب، لكن بحسب المعلومات التي حصل عليها فخري أو آخرون في لبنانوتونس، من مسؤولين محليين في اللجان الاولمبية، كنّا نقدّر عددهم بخمسة عشر، يجب ان نضيف اليهم عدداً مماثلاً من المدرّبين والحكّام والمسعفين على اختلافهم. عشرة رجال لمراقبة ثلاثين محتجزاً في عملية كنّا نتوقع الاّ تدوم اكثر من عدّة ساعات، كان هذا امراً معقولاً. على اي حال، كان "تشي" يقول لنا أن ليس في امكاننا أن نفعل اكثر من هذا اذ علينا ان نحتاط بعدد اضافي من الرجال كي نعوّض عن بعض تخلّفات اللحظة الاخيرة، الدائمة الاحتمال أثناء التدريبات، أو من اجل استبدال هذا أو ذاك في حال منعوا من الدخول جرّاء عدم التمكن من خداع جهاز الشرطة بجوازات السفر المزورة. في الواقع، في تلك الفترة، لم يكن لدينا اكثر من خمسين متطوعاً في مخيّمنا في لبنان. اكثر من ثلثهم كان مجنداً لهذه المهمة. وكانت هناك مهمات اخرى مُخططٌ لها في الاسابيع المقبلة... وبالنسبة لتاريخ القيام بالعملية، قرّرنا ان ندع عدّة ايام تمرّ بعد افتتاح الالعاب الرسمي في 26 آب اغسطس، قبل ان نتحرك. بذلك نستفيد من هذا الوقت لمراقبة الاجراءات الامنية التي سيتخذها الالمان، وإذا امكن نأتي للتعرف على شقق الاسرائيليين فور معرفتنا بمكانها. او اذا صعب علينا الأمر نراقب الابنية والشقق القريبة منهم. في هذه المرحلة، لم نكن نستطيع الذهاب الى ابعد من هذا في تقديراتنا - هناك مشكلة كبيرة لم نكن وجدنا اي حلّ لها بعد: كيف نوصل الاسلحة الى المانيا؟ - قضينا انا وفخري و"تشي" الوقت المتبقي في درس كل انواع الطرقات التي تؤدي الى القرية الاولمبية، وفي تحديد فنادق مختلفة في ميونيخ نوزّع عليها رجالنا اثنين اثنين، ومقاهٍ او مطاعم في المدينة سيمكث فيها كل منا في الساعات التي تسبق العملية. اما انا فقد انتقلت من فندقي في 9 آب الى فندق آخر، فندق "سنيفلدر"، بغية درسه عن قرب. ثم في 11 او 12 رحل فخري و"تشي" الى ليبيا، حيث كان يجب ان يوافيهما فوراً، الى احد مخيّماتنا، فدائيونا الشبان الذين تمّ اختيارهم في مخيّمنا الرئيسي في لبنان، من اجل القيام بتدريبات كثيفة. من ناحيتي، عدت الى بيروت التي غبت عنها شهراً ونصف شهر. لم يتعرض لي أحد في مطار ميونيخ بشأن التأشيرة التي زورت تاريخ انتهاء مدتها، وقد فرح ابو اياد، العائد من اسبانيا، بذلك كثيراً وقال: عظيم، اعطني جواز سفرك. سوف يتفحّص عملاؤنا تأشيرتك بتأنٍ، ويضعون نسخاً مماثلة لها على كدسة الجوازات هذه. واراني الجوازات الاردنية المزورة التي صنعها من اجل الفدائيين الشباب المختارين لتأليف مجموعة العملية. من جهتي، عرضت عليه مخطط العملية الذي وضعته انا و"تشي". ولم أخفٍ عنه اننا لم نتمكن من استكشاف الجناح الذي ستقيم فيه البعثة الاسرائيلية اثناء الالعاب: - كما اننا لا نعرف ايضاً اين ستقيم البعثات الرياضية الاخرى المدعوة. لم يعلن المنظمون اي شيء من هذا حتى الآن. هذا ليس بغير طبيعي على ما اعتقد: فلا يزال هناك اسبوعان حتى بداية الاولمبياد... غير اننا نعتقد انا و"تشي" ان عشرة رجال يظهرون بشكل مفاجئ، وفي ساعة متقدمة من الليل، يكفون لاحتجاز اكبر عدد من الاسرائيليين الذين يكونون ساعتئذ في عز نومهم. - هل قلت عشرة؟ هذا بالاجمال ما كنت اتوقعه ايضاً. سوف نستطيع اذاً ان نطالب بثلاث طائرات لنقل معتقلينا الى البلدان التي نختارها. كان ابو اياد مهتماً بالاجراءات التي يجب اتباعها بغية تبادل المحتجزين باولئك الذين كنا ننوي تحريرهم في اسرائيل، اكثر مما كان يهتم بتفاصيل الشقّ العملاني من الهجوم على القرية الاولمبية والذي عهد فيه الينا. ناقشت معه هذا الموضوع في صوفيا، وكنا نتصور مسبقاً عناد السيدة غولدا مائير. لذا كنا نفكر في صيغة تراجع في حال رفض انذارنا النهائي. في الواقع، سوف يطالب الفدائيون منذ البداية بأن يتمكنوا من السفر مع محتجزيهم الى وجهة يحددونها في حينه. كنا نفكر في مصر، لكن ما من شيء يمنعنا من اضافة بلدان عربية اخرى. سوف يُعتقل هناك الرياضيون والمندوبون الاسرائيليون الذين نكون اسرناهم، بصفتهم مواطنين من بلد عدو، ويَحرّرون فقط عند قبول السلطات الاسرائيلية القيام بالمبادلة. وفي اسوأ الاحوال، واذا وجدنا انهم "شبه عسكريين" كي لا نقول انهم عسكريون بصفة كاملة - سوف يقوم خبراؤنا بالتحقق من كل واحد بعد معرفة اسمائهم - لن يكون عندها مصيرهم مختلفاً عن مصير مقاومينا الفلسطينيين المعتقلين في اسرائيل. أراني ابو اياد لائحة باسماء المعتقلين الذين سوف يطالب فدائيونا باسم "ايلول الاسود" بتحريرهم، وكان قد دوّن فيها اكثر من مئتين من اسماء المقاومين الفلسطينيين، وكان ينوي اضافة اسماء مغربيتين وفرنسيتين اعتقلن في السنة السابقة اثناء تهريبهن متفجرات الى اسرائيل لصالح الجبهة الشعبية. كما كان على اللائحة اسم كوزو اوكاموتو الناجي الوحيد من اليابانيين الثلاثة الملتحقين بالجبهة الشعبية والذين قاموا بعملية مطار اللّد في نهاية ايار مايو، وكذلك اسماء ستة ضباط سوريين ولبنانيين اسرهم الاسرائيليون في حزيران يونيو. واقترحت عليه، من ناحيتي، ان يضيف اسميّ اولريكه ماينهوف واندرياس بادر، وهما معتقلان في سجون المانية منذ حزيران على رغم ان هذا الأمر لا علاقة له باسرائيل بل بألمانيا. وذكّرته قائلاً: - كانت مجموعتهما متعاطفة معنا في احد الاوقات. كما اننا ساعدناها عندما كانت شرطة برلين تتعقبها. من المفيد ان نستعيد الاتصال بها. اعتقد ان بامكانها، هي او المتعاطفون معها، ان يؤدوا لنا خدمات كثيرة في اوروبا. فقد لاحظت في فرنكفورت، الشهر الماضي، ان الكثير من الشبان يناصرون هذه المجموعة. وجد ابو اياد الفكرة جيّدة. - أنت على حقّ، هذا سيضع الحكومة الالمانية ايضاً تحت الضغط! لهذا قرّرنا ايضاً ان نختم احد البلاغين اللذين سيوجّههما فدائيونا الى السلطات الالمانية، بنداءٍ لتوحيد الثوّار في العالم أجمع على ان يوَقَّع "م أ أ د" أي "منظمة أيلول الأسود الدولية". في الواقع كنا نخطّط لتوجيه بلاغين. الأول، يضرب على الآلة الكاتبة وبالانكليزية، يبلّغ للألمان ساعة يكون رجالنا قد تسللوا الى القرية الاولمبية واحتجزوا اسراهم وجمّعوهم في المكان الأنسب في القرية للدفاع عن انفسهم ضد أي هجوم لقوات الشرطة. وهذا النص الذي ترفق به لائحة بأسماء الاشخاص المطلوب الافراج عنهم، يحدّد انتهاء وقت الانذار في ساعة معينة. اما البلاغ الثاني، وهو معدّ لاعطاء مهلة اضافية، فيصرّ، وللسبب الذي ذكرناه سابقاً، على ان توضع الطائرات المطلوبة في تصرّف فدائيينا وأسراهم مع فرق آخر هو انه سيكون بالألمانية - قال لي ابو اياد ان هناك طالباً فلسطينياً الماني الثقافة في تصرفه وهو سيقوم بما يلزم - وسيُكْتَب بقلم حبرٍ ناشف كي يعطي الانطباع بأنه حرّر ميدانياً. كنا نعمل جادّين، كما هو ظاهر، للتخطيط للعملية بأدقّ التفاصيل، تاركين للصدفة أقل ما يمكن من العناصر. بقي اننا كنا لا نزال نفتقد العنصر الاساسي لنجاح عملنا: الاسلحة. كيف نهرّبها الى ألمانيا؟ هذا كان السؤال الحرج، على بعد اسبوعين من الالعاب. كنا نخشى ان تصبح مدينة ميونيخ بعد 26 آب، تحت رقابة الشرطة الشديدة. هكذا ستكون الحال ايضاً بالتأكيد على الطرقات والمخافر الحدودية والمطارات. سألني ابو أياد: هل حددت، على الاقل، موضعاً نخبئ فيه الأسلحة لبعض الوقت في ميونيخ؟ فاجبته: نعم، في المحطة. بامكاننا ايداعها، وهي مخبأة في حقائب سفرٍ، أدراج الودائع الشخصية. بالطبع سنغيّر مكانها كل يوم. فقال: هذا عمل ماهر. ماهر ربما، لكن لا يفيدنا في كيفية ادخال الاسلحة الى البلد. واستدرك ابو اياد قائلاً: اسمع، لديك الوقت لتذهب وتقبّل زوجتك واطفالك في دمشق، ولكن جهّز نفسك للعودة بأسرع وقت الى ميونيخ. هناك سوف تنتظر مني رسالة. وسوف اعطيك فيها موعداً في مكان ما من المانيا. - ماذا سيفيد حضورك؟ - الكثير من الاشياء، على ما آمل! سوف احضر لك الاسلحة بنفسي. - ولكن كيف تنوي التصرّف؟ فاشار علي بالصمت: سوف ترى. لم أعرف اكثر من هذا، حتى عندما رافقته الى تونس مع ياسر عرفات وابو يوسف، كما ذكرت في بداية هذا الفصل، من اجل محادثات سياسية مع القيادة التونسية. وعند عودتي الى ميونيخ، كان عليّ مواجهة بعض المخاوف ايضاً، ليس بسبب تأشيرتي الالمانية "الحقيقية المزيّفة"، فعند وصولي الى المطار مررت مجدداً على نقطة التفتيش من دون مشاكل، ولكن بسبب عدم وصول حقيبتي الى حيث كنت انتظر في صالة تسلّم الامتعة. كنت خائفاً جداً من فكرة اضطراري الى التقدم بطلبٍ لاسترجاعها. لم تكن حقيبتي تحتوي ما يعرّضني للخطر، لم يكن فيها سوى اغراضي الخاصة. كنت استطيع ألا أهتم للأمر مطلقاً: فالمبلغ الكبير الذي كان في حوزتي يسمح لي بشراء كل ما ينقصني. لكنني في الوقت نفسه كنت اقول في نفسي أنني اذا لم اتخذ خطوة في اتجاه معرفة ما حدث لحقيبتي، فقد يبدو الامر مشبوهاً. وبما ان الحقيبة موسومة، فسوف يبدأ البحث لايجاد صاحبها ويصلون هكذا إليَّ. ماذا سيفكّرون عندها في مسافرٍ لا يهمّه أمر اختفاء حقيبته؟ بكل تأكيد سوف يثير تصرّفي الفضول، وهذا ليس مناسباً لمهمتي. كنت أفضّل تلافي تساؤلات من هذا النوع. علاوة على انني مررت في ميلانو، اذ لم يكن هناك من رحلة مباشرة بين تونسوميونيخ حيث الحديث الوحيد هو عن وقوع اعتداء جديد تعود المسؤولية فيه الى الفلسطينيين، ضد احدى طائرات "العال" المنطلقة من ايطاليا. لم يكن لي اي علاقة بهذا الحادث، لا انا ولا تنظيمي، ولكنه من الضروري في تلك الظروف ان تبدأ شرطة الجو والحدود الايطالية، من ناحيتها، الاهتمام بحقيبة يملكها عربي تمّ العثور عليها... مع استمرار اختفاء حقيبتي، تقدمت من السلطات المختصة في مطار ميونيخ بطلب استعادة الحقيبة وذلك بعدما اضطررت الى ان احزم امري واقدم جواز سفري مرة اخرى في هذا السبيل. واعلمتهم، فضلاً عن ذلك، بمكان الفندق حيث يستطيعون الاتصال بي في حال عثروا على حقيبتي. كما لم أجد صعوبة في شراء سترة من اول متجر صادفته لأنني تركت تونس لابساً قميصاً فقط. وعلى رغم اننا كنا في وسط آب، فإن طقس ميونيخ لم يكن دافئاً جداً في ذلك النهار - الا اذا كان خوفي هو الذي أشعرني بالبرد. واخيراً في اليوم التالي وصلني خبرٌ بأن حقيبتي قد وجدت وبأنها ارسلت اليّ. في الواقع كانوا قد اضاعوها خلال تغيير الطائرة في ميلانو. وهكذا مرّ الأمر بسلام. في ميونيخ، بدأت الوفود الرياضية، كما الصحافيون وفرق التلفزيون من العالم اجمع، بالوصول. واصبح الدخول الى القرية الاولمبية محدوداً اذ على الداخل التعريف بنفسه. وقد تم الاعلان عن تنظيم توزيع البعثات في القرية. علمت ساعتئذ في أيِّ مبنىً بالضبط سيقيم الاسرائيليون. كان ذلك في نهاية ممرٍ للمشاة سُمّيَ كونوليشتراسه، في المجمّع 31، في مواجهة بناية ضخمة يشغلها الالمان الشرقيون، وقد سبق ان تنقّلت في تلك الزاوية عندما كانت الاشغال في اوجها. وهي بعيدة بعض الشيء عن مدخل القرية الرئيسي، لكنها قريبة في المقابل من مدخل آخر لجهة الغرب، وبالتالي من السياج الذي رُكِّبَ منذ ذلك الحين. لم يكن همّي الأساسي حينها ان احاول دخول المكان مجدداً كي أكمل استطلاعاتي السابقة، بل كنت اعتقد انه من الافضل انتظار قائدَيْ الفدائيين. وكان من المتوقع ان يصلا مع بداية الالعاب تماماً. وكنت اراهن عندها على شطارتنا في التصرف للتسلل الى الداخل. فوق ذلك، كانت لدي خطّة اخرى، في حال عدم تمكّننا من ذلك. كنت على معرفة بإحدى فلسطينياتدمشق، عبر عائلتي، وهذه لها أخت متزوجة من احد اساتذة جامعة ميونيخ. ولسوء الحظ كانت تلك الفلسطينية غائبة عندما ذهبت لوقت قصير الى سورية كي ازور عائلتي. لكن عائلتها اعطتني، على أي حال، رقم هاتف. وكنت انوي الاتصال بها عندما احتاج الى خدمة او معلومات ما. في ذلك الوقت عاود ابو اياد الاتصال، كما سبق وقال. وترك لي رسالة يضرب لي فيها موعداً يوم 24 آب في مطار فرنكفورت، حيث سيصل من الجزائر عبر باريس. وحدّد لي رقم الرحلة وساعة الوصول من دون اي تفاصيل أخرى. وقرّرت الرحيل الى فرنكفورت قبل يوم من وصوله، كي لا اجازف بالتأخر عليه. وبدلاً من النزول في فنادق اعرفها، نزلت في فندق لست معروفاً فيه هو فندق "كونتيننتال". وأخيراً، في اليوم التالي وصلت الى المطار قبل الوقت كي أتمكّن من ملاحظة اي أمر غير طبيعي. اذ كنت في الواقع اضاعف من حذري منذ قصة حقيبتي. وكنت ايضاً لا استطيع تفسير شعوري الكبير بالخوف من ان يكون الالمان مطلعين على لعبتنا، وانهم لا يظهرون أي شيء بغية ضبطنا بالجرم المشهود، انا وابو اياد. وازدادت درجة توتري عندما أعلن عن وصول طائرة ابو اياد. انتظرت نصف ساعة قبل ان يظهر علي أخيراً. هو لم يرني، اذ كنت مع حشد يراقب وصول المسافرين، خلف حاجز زجاجي يمتدّ على طول قاعة استعادة الحقائب. وفوجئت حين رأيت انه برفقة شخصين آخرين، وامرأة وصديقه التاجر علي ابو لبن. لم يعلمني بأي شيء في هذا الخصوص. ومع وصول الحقائب شيئاً فشيئاً، رأيتهم يضعون حقائبهم على العربة نفسها. كان هناك خمس منها، وكلها متشابهة. اتجه الثلاثة عندها نحو الجمارك، كان ابو اياد يبدو مرتاحاً جداً. لكن علي الذي يجرّ العربة، كان في المقابل يبدو مضطرباً، ينظر يميناً ويساراً ويدفع المسافرين احياناً. وبسبب توتّر اعصابه استنتجت ان الاسلحة كانت هناك، في تلك الحقائب. ووصلوا امام رجال الجمارك الذين يحيط بهم رجال الأمن. فقلت في نفسي: هذه لحظة الحقيقة، اذا اكتشف رجال الجمارك الاسلحة، سوف نقول وداعاً لعمليتنا في ميونيخ! من خلف الزجاج، ومن مسافة وان تكن بعيدة بعض الشيء، استطعت ان اراقب المشهد. كانت المرأة، على ما يبدو، تلعب دور زوجة ابو اياد. وكان هذا يحافظ على هدوئه في حين انهم، كما يظهر، كانوا يطلبون منه بتهذيب ان يفتح احدى الحقائب. وبالفعل، رأيته يأخذ حقيبة ويفتحها. كانت تحتوي على ألبسة نسائية داخلية. وبدأ ابو اياد يبسط المحتويات مجاملاً رجل الجمارك. عندها رأيت يدي الأخير تلوحان كما لو كان يقول أنه هو ورجال الأمن بجانبه قد رأوا ما فيه الكفاية. وبدا ايضاً انه كان يغالي في الاعتذار من المرأة فيما كان ابو اياد يعيد وضع الحقائب في العربة. في هذا الوقت لم يكفّ علي عن أخذ أنبوب من جيبه وابتلاع حبوب، كي يهدِّئ من روعه ربما. على كل حال، ها هم ثلاثتهم الآن يتوجهون نحو المخرج. الا انني اخترت ألا اكشف نفسي. كنت أريد متابعة المراقبة، كي أتأكد من انهم غير ملاحقين مثلاً. ثم أخذوا احدى التكسيات، فدوّنت رقمها، واخذت تكسي أخرى ورجوت السائق ان يسرع لأنني، كما قلت له، اريد اللحاق بأصدقاء لي لم اتمكن من لقائهم عند وصولهم الى المطار. كنت مدركاً المخاطرة بعدم ملاقاتي ابو أياد. اذ كنت اجهل فعلاً الى أين يتجه، وحتى اذا كان مزمعاً على النزول في أحد فنادق فرنكفورت. لكننا تمكنا بسرعة من اللحاق بالتكسي التي رأيته يصعد فيها. عندها طلبت من السائق التمهل لأنني وجدت أصدقائي قدامنا. فسألني، بإنكليزية تقريبية: هل تريد ان اعطي زميلي اشارة؟ فاجبته: لا، لا، اكتف باللحاق بهم. فبينهم شخص لا اود فعلاً رؤيته... فاستدرك ضاحكاً: الرجل ام المرأة؟ لم افهم ما كان يضحكه. كنا نرى امامنا وراء الزجاج الخلفي للتكسي التي تسبقنا، رقبتي رجل وامرأة. كرّر السائق سؤاله: من لا تودّ رؤيته، الرجل ام المرأة؟ فهمت هذه المرة الى ما يلمّح اليه ببلادة. فقلت: الرجل بالطبع. فازداد ضحكا، مأخوذاً بنوع المطاردة التي جررته اليها. حتى انه عندما رأينا اخيراً التكسي تتوقف امام احد الفنادق، لم اكن بحاجة الى ان اطلب منه التوقف بي على بعض مسافة منهم، اذ فهم هذا من تلقاء ذاته. اصبحت اعلم عندها اين نزل ابو اياد، لذا صار باستطاعتي التحقق، من جهتي، إن كان احد ما غيري قد تعقبه ام لا. طفت حول الفندق، ذهبت وجئت طوال ساعتين تقريبا. وبما انني لم الاحظ اي شيء مثير للشبهات في الشارع، قرّرت اخيرا الدخول. بالطبع لم يأخذ ابو اياد غرفة باسمه الحقيقي. اذ كان يستعمل عادة مجموعة من الاسماء المستعارة في مثل هذه الظروف. لكن لا بد ان يكون علي ابو لبن اعطى اسمه الحقيقي كتاجر. لم اكن مخطئاً. وبعد حوار مع المسؤول عن الاستقبال في الفندق، علمت بسرعة رقم غرفته، وبدل ان اطلبه على الهاتف، صعدت الى الطوابق العليا وذهبت مباشرة ادق على بابه. فتح علي الباب. كان ابو اياد موجوداً، يرتاح. عندما رآني نهض وتعانقنا. اما المرأة المدعوة جولييت، فلم تكن في الغرفة، بل في الغرفة المجاورة كما اوضحوا لي، ترتاح هي ايضا. واشار ابو اياد فوراً الى حيث وُضعت الاسلحة. كانت في حقيبتي سفر. وقال: فكّرت انك تستطيع نقلها هكذا بسهولة اكبر. فأجبته: حسنا فعلت، لكنها ثقيلة الوزن! وحملت الحقيبتين معا! وهتف عندها ابو اياد: ماذا كان سيحدث اذن لو كانت تحتوي على عشرة كلاشينكوفات؟ فتعجبت قائلاً: ماذا؟ الا يوجد عشرة؟ - كلا، ثمانية. متأسف، لكن يجب ان تتدبر امرك في ميونيخ بمجموعة من ثمانية فدائيين فقط وليس عشرة، كما كنا نتوقع اصلاً. اذ ان مشكلة حصلت، كما قيل لي، اثناء التدريب في ليبيا. هذه لم تكن سوى اولى الاخبار السيئة. فعندما تفحّصت محتوى الحقائب، وجدت ان هناك ستة كلاشنيكوفات بدل ثمانية، مع رشاشَيْ كارل - غوستاف. وهذا ليس كل شيء. لقد نسوا القنابل اليدوية! فتذمرت حائرا: بالفعل، يا للاهمال! من فعل بي هذه الحماقات؟ وقف ابو اياد وعلي مرتبكين، لا ينبسان ببنت شفة. وتابعت قائلا: على اي حال، من العبث مع مجموعة من ثمانية فدائيين ان نطالب بثلاث طائرات لتبادل الاسرى. كنا نحتاج الى ثلاثة رجال على الاقل لكل طائرة. لم يعد هذا ممكناً... تنهد ابو اياد قائلاً: حسناً، لن نطلب سوى واحدة اذاً. ساعمل على تصحيح البلاغين. اتّفقنا ايضاً على انه اثر عودته في اليوم التالي الى بيروت سيبعث اليّ بعلي في اول طائرة ويجلب معه القنابل اليدوية. وقلت لعلي الذي اتى يساعدني في حمل الحقيبتين المليئتين بالاسلحة الى قطاري في محطة فرنكفورت. - إحملها في حقيبة يد. فهذه لا يفتشها الالمان عند الدخول، بشكل عام. فأوضح، ونحن نمشي سوية على الرصيف: - اني معتاد على السفر في الطائرة. سأضعها في حقيبة الملفات، هكذا ابدو أكثر مثل موظف الماني كبير. فاجبته: تماماً، ولكن في هذه الحالة احرص على ألا تبدو مضطرباً كما بدوت عند وصولكم قبل قليل الى المطار. لم استطع ان أتنفس الصعداء إلاّ عند وصولي مساء ذلك النهار 24 آب الى ميونيخ، وعند ايداعي حقائب الاسلحة خزانتِي ودائع في المحطة. وبعد اقلّ من اربع وعشرين ساعة، عدت وغيّرت مكانها. هذا ما واظبت عليه حتى يوم العملية. في 26 آب، يوم افتتاح الالعاب، استأجرت خزانة ثالثة، اذ وصلتني حقيبة القنابل اليدوية. تم كل شيء على ما يرام في المطار مع علي. وهذه المرّة كان عددها صحيحاً، كان هناك عشر منها. وعاد علي فوراً بالطائرة الى بيروت. من ناحيتي، لم يعد عليّ سوى انتظار قائدَيْ المجموعة الفدائية. في المساء نفسه، ومثل جميع الذين في فندقي، شاهدت على التلفزيون صور حفل افتتاح الالعاب الأولمبية العشرين. وعندما كنت اشاهد استعراض بعثات مختلف الدول المدعوّة، لم يكن ممكناً أن أتخيّل اننا سنحصل، من اجل عمليتنا، وبفعل المصادفة الغريبة، على مساعدة فريق من الرياضيين الاميركيين وامرأة شابة في البعثة الاسرائيلية. * من كتاب "فلسطين: من القدس الى ميونيخ". * * الحلقة الرابعة الخميس المقبل.