كي نقرر بدقة وموضوعية أبعاد التحديات القائمة، وبهدف الاجابة المقنعة على سؤال: ما العمل؟ وأين نبدأ؟ ينبغي ان نوضح اولاً عناصر الوضع القائم، كي نقدر احتمالاته القريبة والبعيدة، ومن ثم التقرير في ما اذا كان هناك ما يمكن عمله لعلاج الموقف. وإذا كان الجواب نعم، فما هي خطوات ومراحل ما نريد ان نعمل. وعلى هذا يندرج البحث تحت العناوين التالية: 1 - الأداء الصهيوني الاسرائيلي على طريق تحقيق الاهداف المعلنة: حقائق ومميزات الوضع الاسرائيلي القائم. 2 - الأداء الفلسطيني العربي منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، والشروع في تنفيذ المخطط الصهيوني: حقائق ومميزات الوضع الفلسطيني العربي القائم. 3 - كيفية التصدي للتحديات القائمة: المبادئ، الأساليب والمراحل. أولاً - الأداء الصهيوني الاسرائيلي - الوضع القائم: ليس من المهم التصدي الى جذور وفلسفة الحركة الصهيونية، وأكتفي بتأكيد هدفها الأساسي في ولادة قومية يهودية، وتأكيد هدف قيامها على حيز جغرافي محدد، جرى الاعلان عنه في المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897، في اعقاب اتصالات مكثفة مع دول الاستعمار الأوروبي في الحقبة الاخيرة من القرن التاسع عشر، للتنسيق معها وكسب تأييدها. وقد تم تحديد الحيز الجغرافي المنشود، في المذكرة التي قدمتها القيادة الصهيونية الى مؤتمر السلام في باريس سنة 1919. وقد شمل ذلك فلسطين بأسرها، بالاضافة الى أراض عربية متاخمة من لبنان وسورية والأردن. ومن حيث ان هذه الأراضي - فلسطين بشكل خاص - كانت وما زالت مأهولة بسكانها الاصليين الذين ولدوا فيها وأقاموا عليها منذ فجر التاريخ، قررت القيادة الصهيونية مبدأ اللجوء الى القوة لكسب الحيز الجغرافي المطلوب، لتنفيذ اهدافها التي تتناقض مع حق سكان هذه الأراضي في تقرير المصير. وهكذا تبنى المؤتمر الصهيوني الأول جملة من المبادئ التي تتناسق مع هذا الادعاء: أ - العمل على إقامة قدرة عسكرية وأخرى اقتصادية توظف لخدمة الهدف السياسي. ب - التحالف مع قوة أوروبية عظمى لتساعدها على تحقيق الهدف المقرر. ج - عدم الاعتراف بالكيان الفلسطيني الوطني. د - احياء الثقافة والتقاليد اليهودية في الوطن المأمول. ه - الفصل وعدم التقارب بين المجتمعين الفلسطيني واليهودي. و - تبني مبدأ السلام من خلال القوة. من الواضح ان كل هذا قد استهدف محاربة هدف القومية العربية في المشرق العربي. اصدار وعد بلفور واسناد مسؤولية الانتداب على فلسطين الى الدولة التي اصدرت هذا الوعد انما يؤكد حقيقة التآمر الاستعماري الصهيوني ضد اهداف القومية العربية في المشرق العربي، وساعد الصهيونية على تحقيق اهدافها بطريقة متدرجة وثابتة. تبنت الصهيونية استراتيجية ثلاثية لتحقيق اهدافها: أ - الاستيلاء على الأرض بشكل قانوني او غير قانوني - بالاحتلال او بالقوة. ب - الاستعجال في اقامة حقائق مادية على هذه الأرض المستوطنات لتواجه العالم بالأمر الواقع. ج - الامعان في الخداع والتضليل وقلب الحقائق، خصوصاً فيما يتعلق بحقيقة الوجود الفلسطيني المتواصل على الأرض الفلسطينية منذ فجر التاريخ. وقد تظاهرت اسرائيل بقبول قرار التقسيم، بينما حقيقة موقفها كانت مقبولة كخطوة أولى نحو احتلال كامل التراب الفلسطيني، والدلائل على ذلك هي: - احتلال قطاع غزة في تشرين الأول اكتوبر 1956 من دون سبب. ولم تجل عنه الا بضغط اميركي. - الاستيلاء على كل المناطق منزوعة السلاح حسب اتفاقات الهدنة، على رغم احتجاجات منظمة الأممالمتحدة. - استغلال معاهدة السلام مع مصر لتنشيط الاستيطان في الضفة الغربية والعدوان على لبنان فيما بعد في حزيران يونيو 1982. تسيطر اسرائيل الآن على كامل التراب الفلسطيني وتحتل هضبة الجولان وجنوب لبنان وتواصل سياسة المماطلة والابتزاز فيما يتعلق بقضية السلام، فيما اقامت اتفاقات سلام مع مصر والقيادة الفلسطينية القائمة والأردن، وبهذا ابعدتهم عن استراتيجية الطوق ومسؤولية قومية المواجهة. وتملك اسرائيل قوة طاغية في مجال السلاح التقليدي وتعتمد على السند الاميركي لإبقائها دوماً في موقف التفوق على القدرات العربية مجتمعة، كما تملك قدرة نووية، قد تلجأ اليها في ظروف تقررها هي. وتخضع اسرائيل هدف السلام الى حقائق الأمر الواقع، وترفض الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية المستندة الى المبادئ المتداولة والمقررة عالمياً. ولم يصدر عن اسرائيل حتى الآن ما يدل على انها قد تنازلت عما اعلنته من اهداف وادعاءات في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 وما تبنته من أساليب لتحقيق هذه الاهداف، بل العكس هو الصحيح. ثانياً - الأداء الفلسطيني العربي: 1 - القيادة الفلسطينية في ظل الانتداب البريطاني، وقد اطلق عليها في المراحل الأولى اسم اللجنة التنفيذية، كانت تعكس - في تشكيلها وعضويتها - النفوذ العائلي والعشائري. وبعد قيام ثورة 1936 وتشكيل الاحزاب الفلسطينية التي شاركت في عضوية القيادة اطلق عليها اسم الهيئة العربية العليا. ولكنها بقيت تعكس التطلعات الحزبية وبشكل غير مباشر نفوذ العائلات. وكانت سلبيات القيادة في مرحلة الانتداب كما يلي: أ - عدم الحرص على تحقيق وحدة وطنية على اساس الوعي الموضوعي بأبعاد الخطر الداهم، والأخذ بمبدأ التنظيم والتعبئة وتحديد الاهداف وتنسيق الادوار والتنسيق. ب - عدم الاهتمام بمتابعة نشاط العدو والتعرف على استراتيجيته، وبالتالي عدم القدرة على رسم استراتيجية فلسطينية مقابلة. ج - اهمال تأكيد وتفعيل البعد القومي للمواجهة، والاتفاق مع القيادات العربية المجاورة على اهمية العمل بموجبه. وقد انعكس هذا الاهمال بداية في أداء الجيوش العربية التي دخلت فلسطين في أيار مايو 1998، وانتهاء باستغلال اسرائيل لهذا الواقع باحتلال 77 في المئة من فلسطين وتشريد ثلاثة أرباع سكانها العرب. وانتهت مرحلة الانتداب بقيام اسرائيل وتوقيع هدنة بينها وبين دول الطوق العربي من دون الاعتراف بها. وتبنت هذه الدول سياسة الطوق حول اسرائيل، وكان في ذلك نوع من مفهوم البعد القومي لمواجهة العدوان الصهيوني. خلال الخمس عشرة سنة التالية لقيام اسرائيل استطاع الشعب الفلسطيني فيما تبقى من فلسطين وفي اماكن الشتات، وبتسهيل ومساعدة من دول الطوق، ان يقيم قيادة جديدة - منظمة التحرير الفلسطينية - ممثلاً شرعياً له، ومن واقع اصراره على التمسك بقضيته وهويته. 2 - اداء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ ان استولت عليها فصائل المقاومة الفلسطينية وحتى مسيرة سلام مدريد: أ - اهملت مراجعة الماضي - منذ بداية العدوان الصهيوني بمساعدة بريطانيا - كي تستخلص الدروس وتتجنب اخطاء القيادة الأولى إبان فترة الانتداب البريطاني. ب - لم تعمل على تأكيد وتفعيل مبدأ البعد القومي للعدوان، بل افرطت في تأكيد استقلالية القرار الفلسطيني، ودلّ على ذلك نهجها في الأردن وفي لبنان الذي مهد الطريق للخروج عن استراتيجية الطوق والسير في طريق لا ضمانة لنتائجه - مبادرة الرئيس السادات التي حققت انجازاً مهماً لصالح اسرائيل. ج - تبنت طريق الكفاح المسلح من دون التفات الى الاعتبارات والضرورات المتصلة به، مثل: اهمية التنسيق العسكري مع دول الطوق، وأهمية توحيد الفصائل المقاتلة وتبني استراتيجية قتالية موحدة، والتنسيق مع الداخل على اساس استراتيجية موحدة وثقة متبادلة، ومتابعة وتقصي استراتيجية العدو والوقوف على مستوى قدراته. ولهذا فان مسيرة الكفاح المسلح على مدى خمس عشرة سنة - منذ استلام الفصائل قيادة المنظمة - لم تحقق اي تقدم، بل منيت بخسائر متتالية على رغم ما قدمه المقاتلون الفلسطينيون من شتى البطولات المشهودة. د - اسهمت في اجهاض الانتفاضة بسبب اقحام البعد الفصائلي في مسيرتها. ه - اهملت اهمية الممارسة الديموقراطية في ظل التعددية الفصائلية السياسية كأساس لاستقامة وفاعلية الأداء. و - كل هذه السلبيات قادت المنظمة الى الأخذ بنهج المساومات والتنازلات. وكان التنازل الأهم والذي رفضته اسرائيل تلقائياً هو قبول مبدأ الدولتين الوارد في قرار التقسيم، من دون محاولة مسبقة لتقدير موقف اسرائيل من مثل هذا التنازل. 3 - مؤتمر سلام مدريد والمشاركة الفلسطينية لم يكن قرار المشاركة الفلسطينية في مؤتمر سلام مدريد نتيجة اي وهم حول حقيقة الموقف الاسرائيلي من مبدأ السلام وارتباط ذلك بأهمية الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والكيان المستقل على الأرض الفلسطينية. انما كان قرار المشاركة بأمل تطور ايجابي وموقف متوازن للراعي الاميركي، بعد ان تدخل في الخليج في ظل قرارات مجلس الأمن التي دانت العدوان العراقي، وطالبت بانهاء احتلال الكويت الذي لم يمض عليه سوى بضعة شهور. بالمقابل كان هناك احتلال للأرض الفلسطينية منذ ما يزيد على عشرين عاماً، وصدرت بشأنه قرارات وإدانات عديدة من مجلس الأمن، ولاسرائيل في اطاره سجل حافل بانتهاكات مبادئ القانون وحقوق الانسان. على كل حال، وبالنظر الى موقف اميركا من الحق الفلسطيني، ربما كان الأمل في الموقف الاميركي هو مقولة "امل ابليس في الجنة"، او التعلق بحبال الهواء. ولكن هكذا كان، وحين ناشدت القوى الفلسطينية التي عارضت قرار المشاركة الجماهير الفلسطينية في المناطق المحتلة عشية انعقاد مؤتمر مدريد، ان تتظاهر ضد المؤتمر، كان موقفها ان تظاهرت تأييداً للمؤتمر وقرار المشاركة. ولم يطل الانتظار لاستجلاء الموقف الاميركي الذي بقي كما كان دائماً من عدم التصدي لعدوانية اسرائيل. فحين طالب الوفد الفلسطيني المفاوض بوقف الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية والقدس وغزة التزاماً بمرجعية عملية السلام - القرار - 242 - رفضت اسرائيل وأصرت على رفضها، ولم يعمل الراعي الاميركي على الزامها باحترام مفهوم العملية ومرجعيتها. وهكذا بقيت مسيرة التفاوض في مأزق منذ البداية. وكان الواجب يقضي بامتناع الجانب الفلسطيني عن استمرار المشاركة، كي لا يعطي انطباعاً مغلوطاً للرأي العام العالمي، وكي لا ينساق في مسيرة خداع للنفس. ولكن القيادة الفلسطينية رفضت اتخاذ هذه الخطوة على رغم مطالبتها بها. وبقيت عملية التفاوض في مأزق ومن دون تقدم، مع توفير غطاء لانتهاكات اسرائيل لمدة عشر جولات على مدى عشرين شهراً، الى ان تم الاعلان عن اتفاق اوسلو الذي تم التوصل اليه سراً وبمنأى عن وفد التفاوض. ولم يتصد الاتفاق لسبب المأزق التفاوضي - مسألة الاستيطان. اقيم احتفال كبير في البيت الأبيض لتوقيع الاتفاق على رغم ما حفل به من سلبيات وتناقضات مع هدف السلام. وقد اخذت اسرائيل من كل ذلك ذخراً لتمضي في عدوانها الاستيطاني. وزيادة على ذلك شرعت في عدوان اضافي: مشروع ما سمي بالطرق الالتفافية، لتسهيل تحركات الجيش الاسرائيلي والمستوطنين، والذي استلزم مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية، واتلاف ما عليها من المزروعات والاشجار المثمرة. وتم ذلك في ظل حكومة حزب العمل ومن دون اعتراض من السلطة الفلسطينية، التي ثابرت على التفاوض على رغم ما افضى اليه النشاط الاستيطاني الاسرائيلي من اقامة واقع مادي على الأرض الفلسطينية، يتناقض مع حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة. وقد أخذ الأردن من موقف السلطة الفلسطينية، وما قيل بشأن اتفاق اوسلو من ايجابيات في احتفال التوقيع، سبباً لابرام اتفاقية سلام مع اسرائيل قبل التوصل الى احقاق الحق الفلسطيني. وفتح ذلك ثغرة اخرى في استراتيجية الطوق. وكادت اسرائيل بكل ما قيل في حفلة التوقيع، ان تنفذ الى اعماق العالم العربي، وأن تقيم علاقات ديبلوماسية واقتصادية مع مختلف الاقطار، لو لم تتكشف سلبيات ومساوئ اتفاق اوسلو في وقت مبكر لمسيرة التفاوض. وجدير بالذكر ان اكثر من اربعين دولة في آسيا وافريقيا قد استأنفت علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل بعد ان قطعتها احتجاجاً على عدوان حزيران يونيو 1967، وأنشأت علاقات ديبلوماسية جديدة بعد كل ما قيل عن اتفاق اوسلو من ايجابيات. وحين جاء ليكود الى سدة الحكم، لم ينطل على احد صراخ السلطة الفلسطينية واتهامها نتانياهو بتقويض عملية السلام، لأن العملية كانت قد لفظت انفاسها قبل مجيئه وفي ظل حكومة العمل. وبطبيعة الحال واصل نتانياهو نهج العدوان والتنكر لمقتضيات السلام، كي لا يدعي احد بأنه أقل التزاماً بالهدف الصهيوني من حزب العمل، ولا داعي لمزيد من التوضيح. حينما بدأ تنفيذ المخطط الصهيوني بمساعدة الانتداب البريطاني اجمع الرأي على ان لهذا العدوان المباشر على فلسطين بعداً قومياً. بمعنى انه لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف المشرق العربي بشكل خاص والأمة العربية بشكل عام. وعلى رغم هذا المفهوم الواضح جاء الأداء الفلسطيني العربي متجاهلاً له، فكان لهذا اسهام اساسي في وصولنا الى الأوضاع المأسوية التي نعيشها اليوم والتي تتمثل في الحقائق الآتية: أ - اقامة مجتمع يهودي في فلسطين الزم العالم الاعتراف به على اساس الواقع قرار التقسيم. ب - حقق هذا المجتمع قدرة عسكرية وأخرى اقتصادية كرستا لدعم الهدف السياسي واستطاع الاستيلاء على فلسطين بكاملها بالاضافة الى أراضٍ عربية متاخمة في ظل العجز العربي، والتأييد الاميركي، وتردد بقية دول العالم عن اتخاذ موقف عملي ضد العدوان. ج - على رغم ما شكله ويشكله ذلك من تحديات مصيرية فلسطينياً وعربياً، عجز الفلسطينيون والعرب عن تحقيق الحد الادنى من مقومات التصدي لهذا العدوان، سببه الاهمال والفشل في استثمار الطاقات البشرية والطبيعية في الوطن العربي لتوظيفها في خدمة المصلحة القومية والصمود ضد العدوان، اضافة الى مخادعة النفس حول مفهوم السلام وإفساح المجال للتعاطي مع مخططات الأعداء. وحصيلة هذا الواقع، كانت وما زالت الاخفاق في تحقيق قدرة عربية عسكرية واقتصادية تكافئ ما لدى المعتدين. * عضو المجلس التشريعي الفلسطين