لم تكن زيارة الرئيس ياسر عرفات إلى تركيا في وقتها ولا في محلها. لم تكن في وقتها لأنها جاءت فور انتهاء مؤتمر القدس الذي انعقد برئاسة عاهل المغرب الملك الحسن الثاني. لم تكن الزيارة في محلها لأنها تأتي في أوضاع متردية، إذ تساهم تركيا في بناء محور مع إسرائيل يتسم بعلاقات استراتيجية وعسكرية من شأنها ان تحكم طوقاً على التوجه العربي عموماً، وعلى "المفاوض" الفلسطيني المطوق أصلاً، كما ان الحكومة التركية لا تخفي هذه العلاقات مثلما كانت تفعل حينما كانت للمواقف العربية مصداقية وفاعلية، وعندما كان الصمود أمام التوسع الإسرائيلي وكانت الانتفاضة - المقاومة تستقطب تأييد المجتمع الدولي كما كانت تستقطب اعجابه. الآن وبعدما أقام بعض الدول العربية علاقات ديبلوماسية وفتح مكاتب هي بمثابة ممثليات لإسرائيل خرج الموقف التركي إلى العلن، متحدياً مشاعر وحقوق الأمة العربية بأسرها. بمعنى آخر أدرك الحكم التركي أن تكثيف علاقاته مع إسرائيل ورفع مستواها إلى درجة تحالف عسكري لن يكون مكلفاً لها أو لمصالحها في المنطقة. ثم جاءت زيارة الرئيس عرفات إلى أنقرة لتجعل، بوعي أو بلا وعي، من الحلف التركي - الإسرائيلي حافزاً لأنقرة للاعتقاد بأن ما قامت به من تطوير في علاقاتها مع إسرائيل يمكن أن تكافأ عليه، أو على الأقل، أن تكلف بمهمات عجز عن القيام بها المفاوض الفلسطيني وتقاعست الولاياتالمتحدة عن استكمال دورها. فإن يطلب الرئيس عرفات من تركيا استعمال علاقتها مع إسرائيل وتوظيفها بهدف "إحياء المبادرة الأميركية" والتي هي بدورها بعيدة كل البعد عن تأمين الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، أمر مثير للاستغراب. كون زيارة عرفاتلأنقرة ليست في محلها، ولا في وقتها، ليس هذا هو الموضوع الأساسي الآن، إلا أنها تكشف للعيان خطورة الذهنية التي أفرزها منطق اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو وما تبعها من خطوات تطبيعية قام بها بعض الدول العربية. ما هي مقومات هذه الذهنية وما هو دورها؟ انها تدعي لنفسها أنها واقعية وأنها واعية للتحولات العالمية من دون التقيد بأفكار أو ايديولوجيات مسبقة. كما ان هذه الذهنية تعمل على تبرير وجودها على ما تعتبره "انقاض" الثوابت القومية متهمة هذه الثوابت بأنها "شعارات" تعب العالم من تردادها. هذه الذهنية تعمل على إلغاء الإصرار العربي على الحقوق في كل المجالات، لأن الإصرار يعني عرقلة سلوكيات وتعاملات أصحاب هذه الذهنية. ثم ان هذه الذهنية تعمل على القيام باتصالات من شأنها الامعان في بعثرة جهود التنسيق لأنه قيل ل "الواقعيين" من جانب أساتذتهم ان لا إسرائيل ولا الولاياتالمتحدة ترضى بأن يفاوض العرب من موقع واحد أو من مواقع متناسقة وملتزمة، بمعنى آخر "الواقعية" تتطلب من الدول العربية ومن السلطة الفلسطينية أن يدركوا ان أي تجاوب إسرائيلي يكون من خلال التفرد في العلاقة مع إسرائيل، كون هذا التفرد يلبي الحاجة الصهيونية التاريخية إلى الاستفراد بالفرقاء العرب! لكن "الواقعيين" هم أيضاً واقعيون من حيث ان هذا الموقف ليس موقفاً إسرائيلياً فحسب، بل موقف أميركي واضح وصريح. وكون الولاياتالمتحدة هي الدولة الكبرى الوحيدة، فهي التي تحدد ما هو الممكن وما هو "المعقول". لذلك لا بد من أن يؤدي هذا الادراك إلى ممالأة إسرائيل كونها "مفتاحاً رئيسياً" لأية علاقات عربية ثنائية مع الإدارات الأميركية المتعاقبة. فما دامت إسرائيل هي المفتاح الذي يمكن للعرب أن يدخلوا البوابة الأميركية من خلاله، فما هو الضير في أن تكون لدى الدول العربية علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل؟ أو دول إسلامية؟ ألم تكن اتفاقات أوسلو هي التي مهدت للرئيس عرفات الدخول إلى البيت الأبيض؟ ألم تتحسن علاقات الأردن مع الولاياتالمتحدة بعد اتفاقية وادي عربة؟ ألم تكن معاهدة الصلح في وادي عربة هو بمثابة "صك غفران" من الحكومة الأميركية للأردن؟ ويضيف هؤلاء "الواقعيون" إنه عند استعصاء المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، إلى أين يذهب الرئيس عرفات ولمن، بغية التشاور والشكوى والاحتكام؟ ويشير "الواقعيون" إلى المشاورات المنتظمة التي تجرى بين الرئيس عرفات ومعه المفاوضون الفلسطينيون وبين مصر والأردن، كونهما دولتين عربيتين تصالحتا مع إسرائيل على رغم أن شعبيهما لا يزالان يعتبران إسرائيل عدوة لحقوقهما ومصالحهما وأهدافهما، ويرفضان بالتالي أي تطبيع ناهيك عن أية علاقة. لكن ذهنية "الواقعية" تجيب عن هذه الحقائق بأن الشعوب "عاطفية" بطبيعتها وأن القائد أو "المثقف" يجب أن يمهد الطريق أمام عقلنة السياسات العربية، كما يعرفها "الواقعيون"، وكأن العاطفة هي نقيض العقل! لقد انبثقت لجنة القدس من قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي، وعلى رغم شراسة العدوان الإسرائيلي في القدس، فإن قرارات اللجنة - على رغم وجاهة بعضها - ليست بمستوى التحدي الصارخ لحرمة القدس وعروبتها. لكن زيارة الرئيس عرفات إلى أنقرة أظهرت أن التباين الذي حصل داخل المؤتمر شكل الثغرة التي من خلالها تمت الزيارة الفلسطينية لأنقرة. أي أن تركيا، بما تتمتع من وضع متميز لدى الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وعلاقات مستجدة مع إسرائيل، صارت مرشحة لأن تلعب دوراً مؤثراً في اقناع إسرائيل باستئناف المفاوضات على أساس مضمون "المبادرة الأميركية"، وكأن المذكرة الأميركية المعروفة، وفي الوقت نفسه، غير المعلنة، أصبحت الآن سقف الموقف التفاوضي الفلسطيني! ... ويسألنا "الواقعيون": أليس قيام السلطة الفلسطينية - مع كل الأخطاء والسلبيات والعثرات - أفضل من الوجود المباشر للاحتلال الإسرائيلي؟ إلا أن العيب في هذا السؤال، حتى لو بدا منطقياً، أنه يُطرح للهروب من مواجهة حقائق مرّة: أ - لا تقر إسرائيل بأنها سلطة محتلة، وبالتالي، فهي في مطلق الأحوال مالكة ان لم يكن لكل الأرض الفلسطينية، فعلى الأقل لمعظمها. وبالتالي فإن سيطرتها العسكرية تجعل من "التفاوض" عملية إملاء مغلفة بمفردات التفاوض. وإسرائيل كانت تعفي نفسها من كونها سلطة احتلال وبالتالي يجب أن لا تمتثل لاتفاقيات جنيف الرابعة التي تحرم أي تغيير أو تشويه للواقع الجغرافي والديموغرافي في الأراضي المحتلة، إذ أكدت كل قرارات الأممالمتحدة عدم شرعية السياسات الإسرائيلية - العمالية والليكودية - المتبعة، مؤكدة شرعية مقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير. ثم جاءت اتفاقيات أوسلو لتنسف بشكل مريع الركائز القانونية التي تقيّد صلاحيات المحتل وتعرِّف حقوق الشعب الرازح تحت الاحتلال. ب - نتيجة لهذا التفسير الإسرائيلي لاتفاقيات أوسلو، فإن الاجراءات التعسفية والعدوانية والتهويدية في مدينة القدس وعمليات الضم الأخيرة فيها لا تعتبر خرقاً لاتفاقيات أوسلو، إذ أن اتفاق أوسلو لم يشر إلى كون الأراضي التي تحتلها هي أراضٍ محتلة إلا في إحدى استهلاليات أوسلو. ج - استعمال عبارة "إعادة انتشار" بدلاً من "انسحاب" يقصد به حق إسرائيل في إعادة انتشار قواتها في المناطق التي قد تنشأ فيها ظروف وحالات تهدد "أمنها"، كما تحدد هي مقتضيات أمنها. د - والمقاومة في جنوبلبنان التي تجعل الاحتلال الإسرائيلي مكلفاً للغاية، إضافة إلى صمود الديبلوماسية السورية في وجه مختلف الاغراءات، يشكلان روافد داعمة لمقاومة فلسطينية ومساندة للموقف الفلسطيني ازاء الابتزاز الإسرائيلي. إن تفكيك صيغة التعاون والتضامن بين السلطة الفلسطينية والحلفاء الطبيعيين للشعب الفلسطيني في معركته مع المشروع الصهيوني هي من افرازات الذهنية التي انتجت أوسلو، وجعلت المصيدة التي حولت "الواقعية" إلى الوقيعة التي يجد المفاوض الفلسطيني نفسه فيها. ه - الانسحاب من أرض محتلة يؤدي إلى تحرير الأرض. والتحرير يعني ممارسة السيادة على الأرض وعلى مواردها ومرافقها. لذا فإن استعمال كلمة "انسحاب" عندما تحصل إعادة انتشار هو إيهام بأن السلطة الفلسطينية هي "خميرة" الدولة المستقلة، وهذا ولّد آمالاً مغلوطة حفزت الشعب الفلسطيني على التصدي لهذا التشويه للحقائق التي قام "الواقعيون" بالترويج لها. و - يستتبع هذا بأن ما هو قائم منذ اتفاقيات أوسلو وحتى الآن ليس مفاوضات، بل محادثات. فالمفاوضات تفترض نتيجة مسبقة يتم من خلالها "التفاوض" على توقيت المراحل وتحديد الآليات التي تؤمن تأسيس النتيجة المتفق عليها قبل التفاوض، في حين ان اتفاق أوسلو والمبادرات الأميركية المتتالية يؤجل ذلك بموجب منطق "الواقعيين" إلى مرحلة "المفاوضات النهائية". لكن ردنا على هذا الادعاء هو ان كلمة مفاوضات لا تعني تعريف الحقوق الفلسطينية غير المتفق عليها من قبل إسرائيل... والولاياتالمتحدة أيضاً، بل التفاوض يعني انجاز هذه الحقوق. لذلك فكلمة "المفاوضات" تحريف للواقع وتزوير للحقيقة. لكن ما علاقة هذه الذهنية التي تدعو للواقعية بزيارة الرئيس عرفاتلتركيا فور انتهاء مؤتمر القدس؟ الجواب يكمن في سؤال مقابل: لماذا لم يذهب الرئيس عرفات إلى طهران كونها مركز رئاسة المؤتمر الإسلامي الذي تنبثق منه قرارات تتعلق بإنقاذ القدس من براثن التهويد الصهيوني لها؟ ألم يكن أجدر به أن يحمل رسالة تتجاوز التباينات التي حصلت بين أعضاء اللجنة ليدعو الرئاسة للمساهمة في لحمة الموقف الإسلامي العام؟ لو قام الرئيس عرفات بزيارة إيران، لكان أكثر انسجاماً مع الموقف المراسيمي البروتوكولي على الأقل ومع المقتضيات السياسية التي علينا مراعاتها في سبيل القدس الشريف. ولنفرض سلفاً أن زيارة طهران في الظروف الراهنة قد لا تكون مستساغة من قبل الولاياتالمتحدة، ألم يكن أجدر بالرئيس عرفات أن يزور السعودية حيث أمانة المؤتمر والتباحث مع مسؤوليها في كيفية التصدي لعمليات الاغتصاب التي تقوم بها إسرائيل؟ وإذا جمعنا التقويم الإسرائيلي مع سياسة "الاحتواء المزدوج" غير المعترف بفشلها تبين لنا أن "ناصحي" الرئيس عرفات أشاروا عليه ب "عدم واقعية" مثل هذه الزيارة. ان لا يقوم الرئيس عرفات بالزيارة الأولى بعد مؤتمر الرباط إلى إيران أو إلى المملكة العربية السعودية يبقى مقبولاً إلى حد ما، ويمكن رد امتناعه إلى ضرورة عودته إلى موقعه للاسهام في تفعيل القرارات المتعلقة بمصير القدس. لكن ان تكون زيارته للحكم التركي الذي تحدى مشاعر شعبه الأصيلة والمناشدات العربية، والذي صار نتيجة علاقاته المشبوهة المتنامية مع إسرائيل، أحد فكي كماشة على مستقبل الوطن العربي، فهذا دليل على أن الذهنية التي اقترحت على الرئيس عرفات أن يجعل زيارته لتركيا أولوية هي نفسها الموكول إليها أمر جعل الممكن العربي مستحيلاً اقليمياً ودولياً. لقد حان الوقت أن تعيد القيادات الفلسطينية المختلفة النظر في ارتباطاتها وفي الذهنية المهيمنة على صانعي القرار الفلسطيني، وأن تحدث في الصف الفلسطيني انتفاضة على "واقعية" الذين صوروا الاعتراضات على أوسلو تشويشاً، ومعارضة أوسلو رفضاً للسلام، والمقاومة المشروعة ارهاباً أو تعطيلاً وتقطيعاً لمسيرة "السلام". كانت زيارة الرئيس عرفات إلى أنقرة الحكم، المتواطئة مع إسرائيل، في غير محلها وفي غير وقتها... وكانت نتيجة ذهنية تستسيغ الانصياع للتبعية والارتهان متلطية وراء واقعية مزورة. * مدير مركز "عالم الجنوب" في الجامعة الأميركية في واشنطن.