المطرب الراحل عبدالحليم حافظ ألقى خطبة غاضبة في جمهور المستمعين ذات مرّة. كان عبدالحليم حافظ غاضباً لأن الجمهور كان صاخباً، هائجاً، مائجاً. وكان الجمهور كذلك لأنه يدّعي الإعجاب ويتظاهر بالطرب. ولعله كان معجباً وطروباً فعلا. أما صخبه وضجيجه فكانا يعبران عن مذاهبنا في الاستماع الى الغناء والاستمتاع به. عندما ذهبت السيدة ام كلثوم الى تونس ابدت اعجابها بآداب الاستماع التونسية، وقالت ان التونسيين شعب طروب مؤدب يحترم الغناء ويحسن الإنصات ويبدي اعجابه المتزن في نهاية الكوبليه، وبذلك يتمكن المطرب من التركيز على الأداء والاستغراق فيه من دون تشويش أو مقاطعة أو صرخات متشنجة. ومشاهدة حفلات الغناء العربية او الاستماع اليها عبر المذياع امر مُسَلٍ جداً. كثيراً ما ننشغل بحركات الجمهور وصرخاته عن المطرب وآهاته. ويختلط الامر احياناً على الحضور فلا نعلم هل يستمتع الجمهور بالمطرب أم يتسلى المطرب بالجمهور، ومن منهما المستمع أو المتلقي. وعندما يذهب الناس إلى حفلة غنائية مهمة يذهبون ليتفرجوا على بعضهم، ويتبادلون الصرخات والهتافات ويتسابقون ويتنافسون على اختراع عبارات الاعجاب الطازجة والتفنن في صياغتها والهتاف بها. ولعل في مذاهب العرب الحديثة والمعاصرة في الاستماع والانطراب اصولاً قديمة على رغم ان بعض العجائز يدعون أنهم كانوا اكثر أدباً وانضباطاً وارهف حسّاً في مجالس الطرب. ويحكي كتاب "الأغاني" للأصفهاني قصصاً مثيرة وكاريكاتيرية عن مجالس الطرب والاستماع في زمانه والأزمنة القريبة الأخرى. يحكي الأصفهاني، مثلاً، عن شخص مهم جداً كان ينتفض نشوةً كلما سمع صوتاً، ثم ينهض قائماً ويلقي بنفسه في بركة ماء وهو بكامل ملابسه. ثم يغير ملابسه، ويجلس، ويستمع، وينتشي ويقفز مرة أخرى... وهكذا. وكان هناك الشخص الطروب الآخر الذي يمزق ملابسه ويلقي بعمامته أرضاً، وهناك الشخص الذي يصفع وجهه حتى يحمرّ ويضرب رأسه في الجدار حتى يدْمَى. ويحدث هذا كله في مجالس الطرب الخاصة، فلم تكن هناك حفلات عامة لاسحق الموصلي أو زرياب أو معْبد، وإلا فإن الدماء كانت ستتدفق انهاراً وتتراكم الملابس الممزقة جبالاً، وتتناثر الرؤوس الجريحة اشلاءً. هل تعود مذاهب الصخب العربي، في الطرب والاستماع، الى هذه الاصول القديمة؟ ولماذا اذن يختلف العرب المشارقة عن العرب المغاربة في مذاهب الاستماع والطرب؟ ماذا كان سيفعل عبدالحليم حافظ لو حضر حفلة طرب خاصة في زمان "الأغاني" للأصفهاني؟