أثارت نتائج انتخابات نقابة الصحافيين المصريين في 28 حزيران يونيو الماضي ردود فعل واسعة بين كثير من المثقفين والباحثين في مصر، فهي من ناحية واحدة من النقابات القليلة التي تجرى فيها انتخابات ديموقراطية شاركت فيها التيارات السياسية وغير السياسية، وهي ثانياً نقابة الكلمة والرأي في ظل عصر لا تشهد فيه الصحافة المصرية قيوداً كبيرة على حرية الرأي والتعبير بقدر ما تعاني أساساً من تحديات مهنية وإدارية كبيرة. وجاء الانتصار الذي حققه ابراهيم نافع بفوزه بمنصب النقيب ليؤكد مدى تعاطف قطاع غالب من الصحافيين مع فكرة وجود نقيب قوي وقريب من الدولة يكون قادراً على الحصول على مكاسب مادية ومعنوية للصحافيين، وفي الوقت نفسه يكون قادراً على اتخاذ مواقف مستقلة، وأحياناً مخالفة لبعض التوجهات الرسمية خصوصاً حين يتعلق الأمر بحرية الصحافة والصحافيين وهو ما يحسب بلا شك لإبراهيم نافع حين خاض مع جموع الصحافيين معركة إسقاط القانون الرقم 93 لسنة 1995. وجاء هذا التحول ليتقاطع مع تحولات مشابهة شهدها المجتمع المصري منذ انتخابات 1995 التشريعية حين تحولت عباءة الدولة المصرية الواسعة الى ملاذ حقيقي - لطلب الدعم أو للتنسيق - لمرشحي الحكومة والمنشقين عن حزبها جنباً إلى جنب مع العديد من المرشحين المستقلين والمعارضين على السواء. أما بالنسبة الى نتائج انتخابات مجلس نقابة الصحافيين، فجاءت لتعبر عن مرحلة جديدة من تطور العمل النقابي في مصر وتحديداً في علاقته بالعمل السياسي وبنوع المعايير التي اختار على أساسها الصحافيون ممثليهم. وتشكل المجلس للمرة الأولى في تاريخه من غالبية تنتمي الى تيارات المعارضة المصرية عموماً، فقد ضم ثلاثة رؤساء تحرير لأكبر ثلاث صحف معارضة هي "الوفد" لسان حال حزب الوفد الليبرالي، و"الشعب" لسان حال حزب العمل، وأيضاً رئيس التحرير السابق لصحيفة "الأهالي" لسان حال حزب التجمع اليساري. كما ضم أيضاً عددا من القيادات الناصرية والإخوانية بجانب ممثل عن التيار الليبرالي، وآخر - أو وحيد - أقرب الى تيار الخدمات النقابية البعيد عن التصنيفات السياسية. وجاءت هذه الانتخابات لتعبر عن مجموعة من التحولات والظواهر الجديدة، تعلق أبرزها بالكيفية التي عالج بها الناخبون والمرشحون قضايا السياسة، وتحديداً قضية التطبيع والعلاقات مع إسرائيل. وتمثل أحد أبرز ظواهر انتخابات نقابة الصحافيين في هذا التفاوت الكبير بين لغة الاستبعاد الشمولية التي قرأ بها تيار التطبيع في مصر هذه الانتخابات، وبين الواقع العملي الذي بدا أكثر رحابة من هذه القراءات الحلقية الضيقة. فلم ير هذا التيار في انتخابات نقابة الصحافيين إلا فرصة لاستبعاد مخالفيهم في الرأي ممن أيدوا قرار الجمعية العمومية برفض التطبيع مع إسرائيل واتهموهم بالنازية والفاشية، وقدموا بذلك البدايات الحقيقية لظهور عقل تطبيعي شمولي ينتمي الى عصر المكارثية الاميركي ويبلور تياراً يمينياً متطرفاً جديداً في مصر. ولم يكتف هذا التيار بتلك النوعية من الكتابات، إنما قام بنسج سلسلة من التحالفات الانتخابية والضغوط الإدارية تخللتها حملة إشاعات كبيرة من أجل اسقاط عدد من أفضل مرشحي المؤسسات القومية الذين لم يختزلوا برنامجهم الانتخابي فقط في رفض التطبيع، إنما قدموا أيضاً برنامجاً انتخابيا عصريا يقدم مفهوماً جديداً للخدمات، ويعد بتطوير حقيقي للمهنة وللعمل النقابي. وجاءت هذه الحملة لتساعد في نجاح رئيس تحرير إحدى الصحف المعارضة في الحصول على مقعد في مجلس نقابة الصحافيين، وهو الذي اعتبره الكثيرون متشدداً، واعتبره البعض الآخر ممثلاً لمدرسة السب والمزايدات وإنه لم يترك نظاماً استبدادياً في العالم إلا وقف الى جواره. وتصور بعض رموز تيار التطبيع أن انتخابات نقابة الصحافيين المصرية تدور فقط بين تيار يؤمن بالتعددية والحوار، وآخر شمولي يعمل على استبعاد المخالفين في الرأي - وتحديداً المطبعين مع إسرائيل - من عضوية النقابة. ثم جاءت نتائج الانتخابات لتقدم مجموعة من الظواهر المناقضة لتصورات هذا التيار ولتثبت أن قواعد الفعل الاجتماعي والعمل النقابي تختلف كثيراً عن التنظيرات غير الديموقراطية لتيار التطبيع في مصر. ولعل أول وأبرز هذه الظواهر الجديدة تمثل في هذا "الموزاييك" الغريب الذي حكم اختيارات مئات من الصحافيين الذين تضمنت بطاقاتهم الانتخابية اسماء مرشحين يعبرون عن كل ألوان الطيف السياسي في مصر. فإسم مثل الدكتور اسامة الغزالي حرب، والذي ينتمي الى التيار الليبرالي وعرف ببعض التصريحات والمواقف التي اعتبرت أنها ليست فقط دعوة صريحة للتطبيع مع إسرائيل، إنما أيضاً تعطي للشعب اليهودي الحق في القدس العربية. وعلى رغم أن الرجل أعلن أن هذه التصريحات فُسّرت بشكل غير دقيق، وأعلن أنه يلتزم بقرارات الجمعية العمومية برفض التطبيع، إلا أن ذلك لم يجعله ينجو من سهام صحف معارضة ومستقلة اعتبرته مرشحاً "للتيار التطبيعي"، في مجلس النقابة، كما تعرض أيضاً لحرج بالغ واتهامات قاسية من العديد من الصحافيين في أكثر من مؤسسة صحافية زارها أثناء حملته الانتخابية، بما فيها المؤسسات التابعة للدولة. ومع ذلك فإن المدهش أن اسم الدكتور حرب جاء في مئات البطاقات الانتخابية، ومعه اسماء مثل مجدي أحمد حسين رئيس تحرير "الشعب" والمعروف بحملاته القاسية على أنصار التطبيع في مصر، ومعه أيضاً اسم قيادي ناصري لامع مثل حمدين صباحي، وإسلامي مشهود له بالكفاءة النقابية والاستقامة مثل صلاح عبدالمقصود، و"أهرامي" متميز مثل ضياء رشوان. وعلى رغم أنه من الصعب القول بأنه لم تكن هناك اختيارات سياسية لدى المئات من الناخبين والمرشحين على السواء، إلا أن من الصعب أيضاً القول بأنها كانت هي المعيار الأساسي الذي حكم اختيارات الناخبين في نقابة مهنية مثل نقابة الصحافيين، وليس في انتخابات تشريعية أو حزبية. وهناك من اعتبر أن هذه التوليفات دلالة على ضعف وعي الصحافيين السياسي، بينما أبدى آخرون حنينهم الى عقدين أو ثلاثة من الزمان، حين كان البعض يكتفي بقراءة الاسم الأول من البطاقة الانتخابية ليعرف باقي الاسماء التي تنتمي إما لليسار أو لليمين. والمؤكد أن هذا التحول عبر عن معاني جديدة لكل من الموقف السياسي والعمل النقابي من الصعب اختزالها في السطحية وضعف الوعي. ويلاحظ أنه كانت لمئات الناخبين معاييرهم "السياسية الخاصة" وليست المعايير والتحيزات السياسية لمنظري المكارثية اليمينية الجديدة في مصر، إذ ساهم تفاعل هذه التيارات المختلفة في معركة نقابية إلى ميل أغلبها الى صوغ مفردات وسطية لا تتنازل فيها عن مواقفها المبدئية، ولكنها في الوقت نفسه تبدي روحاً استيعابية تجاه الاطراف الأخرى. فمثلاً اعتبر بعض رموز التيار الرافض للتطبيع أن قرار الجمعية العمومية يمثل سلطة ضمير ومرجعية أخلاقية تمثل رادعاً معنوياً أمام "المطبعين"، كما مال كثير من رموز التيار المناهض للتطبيع الى رفض مبدأ فصل أي عضو من أعضاء النقابة بسبب خياراته السياسية حتى لو كانت "تطبيعية". بينما حرص بعض من اعتبروا انهم أيدوا التطبيع على إبداء موافقتهم واحترامهم لقرارات الجمعية العمومية، وقدموا ما يشبه التراجع عن كثير من مواقفهم التطبيعية السابقة. وبسؤال كل طرف من هذه الأطراف عن موقفه من عملية السلام ومن قضية التطبيع مع إسرائيل، سنجد أن الفروقات بينهم واسعة الى حد التناقض، ولكن لأنهم خاضوا معركة نقابية فانهم ابدوا روحاً توافقية تعترف بالآخر من دون تنازل عن المبدئية أو اتهام المخالين في الرأي بالنازية والفاشية مثلما فعل البعض يوم الانتخابات. وعلى رغم أن هذا المشهد يبدو تلفيقياً إلى حد كبير، فإن قانون الاختيار في النقابات المهنية يعتمد على معايير أخرى موازية وغالباً ما تفوق المعايير السياسية كالامكانات المهنية للمرشح وقدرته على الاقناع ومدى احترام الناس له وحجم ثقتهم فيه الى جانب قدرته على تقديم خدمات نقابية للأعضاء وامكانات مساهمته في تطوير مهنة الصحافة وتحسين أحوال الصحافيين... كل هذه القضايا تمثل ما يشبه "الفلتر" الذي يُصفى من خلاله قطاع كبير من الناخبين خيارات المرشح الايديولوجية. هذا الوضع النقابي يختلف عن الساحة الصحافية التي لا تزال مليئة بكثير من الاتهامات السياسية الحادة والمحتقنة، وإذا كان هذا يبدو مفهوماً حين يتعلق الأمر بصحافة حزبية ذات رسالة ايديولوجية أو ذات فكر سياسي محدد. ولكن ما لا يبدو مفهوماً هو محاولة البعض جرّ الصحف التابعة للدولة الى هذا المستنقع الايديولوجي ومحاولة إخراج صحف عريقة من صيغها الراسخة القائمة على التوافق الوطني العام في اتجاه عقل حلقي مسدود ولغة حزبية ضيقة تختزل مشاكل مصر في "حتمية" التطبيع مع إسرائيل. ولعل مشكلة قضية التطبيع المثارة بشدة في نقابة الصحافيين ترجع الى اصرار البعض على مواجهة قرار اختاره الصحافيون بمحض ارادتهم وهو المتعلق برفض التطبيع. فهناك قرار من الجمعية العمومية للصحافيين برفض التطبيع مع إسرائيل وهناك من يرغب في إلغاء هذا القرار بقرار يأتي من خارج الجمعية العمومية ومن دون أن يحاول مناقشتها فيه. ان قضية حساسة وشائكة مثل قضية التطبيع، تثير مشاعر الناس العاديين والمثقفين أكثر مما تثير عقولهم، ساهمت في عزلة التيار التطبيعي وجعلته يتعالى عن تلك المشاعر، بل واعتبرها في كثير من الأحيان من "سمات التخلف". ووصل الأمر بهذا التيار الى اختزال كل ازمات التطور الديموقراطي في مصر في وجود تيار ديموقراطي كاسح داخل نقابة الصحافيين يلتزم قرارات الجمعية العمومية الرافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وإذا كان بعض الصحف الحزبية اختزل بدوره قضايا مصر في مواجهة التطبيع، فإن هذا الموقف جاء ليتوافق مع المشاعر العامة لمعظم الصحافيين، وبصرف النظر عن طريقة هذه الصحف في المعالجة أو في "الاشتباك". وهذا على عكس التيار التطبيعي الذي ما زال مدافعاً عن قضية لا تحمل أدنى تعاطف من معظم الصحافيين المصريين وخارجه. فالنصوص الايديولوجية لتيار التطبيع لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي المعاش، ولا بأولويات الناس واهتماماتهم. فاختزال معركة نقابية، في "تكفير" رافضي التطبيع ومؤيدي قرار الجمعية العمومية واختزال كل مشاكل مهنة الصحافة في هذه القضية يدل على عزلة تيار التطبيع. فالمعضلة التي وقع فيها أنصار التطبيع مع إسرائيل تبدو في كونهم مثل كثير من الحلقات الايديولوجية في التاريخ يحاولون فرض "نصهم الايديولوجي" على الواقع الاجتماعي. ومع ذلك سيظل من حقها الحزبي والايديولوجي أن تعبر عن نفسها بشكل حر وديموقراطي مهما كان وزنها ومهما كان التفاوت بين تقديرها لنفسها وتقدير الاخرين لها، من دون أن يعني ذلك أن يسمح لها بجر العمل النقابي الى حقل التطبيع بذريعة انه يرافق الديموقراطية والتحديث، وهما في الواقع قضيتان لا علاقة لهما ببعضهما البعض. فاحترام قرار الجمعية العمومية برفض التطبيع مع إسرائيل يعتبر موقفاً ديموقراطياً وعدم احترامه يعتبر خروجاً على قواعد الديموقراطية. وإذا كان من حق التيار التطبيعي أن يطرح ما يشاء من أفكار إلا أن هذا يجب أن يكون بمعزل عن العمل النقابي وعن أي صيغة نقابية تستلهم روح التوافق العام وتحترم الآخر وترى أن هناك تحديات مهنية كبرى تواجه مهنة الصحافة والصحافيين غير أجندة تيار التطبيع مع اسرائيل. * صحافي مصري.