سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قراءة في كتاب الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية "أضواء في الضباب" . ساغي : هدفنا استمرار دولة صهيونية لليهود على أرض اسرائيل وسورية المفتاح المركزي للتسوية ومستعدون للانسحاب من الجولان 1 من 2
أوري ساغي قائد عسكري اسرائيلي خدم منذ صغره في الجيش وترأس الوحدات الخاصة في الشمال والجنوب، والاستخبارات العسكرية، وها هو في ما يبدو سيقود طاقمه التفاوضي مع سورية. كتب ساغي نوعاً من المذكرات أقرب منها الى قصص ووجدانيات وأزمات نفسية تعبّر عن صورة "الإسرائيلي الجديد" ما بعد حرب 67، ذلك الحائر بين الفكرة الصهيونية وطبيعة الدولة الكولونيالية وبين حبه للأرض واقتناعه بضرورة الانسحاب منها دفاعاً عن الوطن اليهودي. إنه أقرب الى كتابات الجنرالات الجدد أمثال أفيغدور كهلاني التي تركز على الذات وعلى البطولة وأزمة الدونكشوتية الحديثة، بعيداً عن النظرة الشمولية والايديولوجية وفلسفة الحياة العامة التي كتبها أمثال ديفيد بن غوريون وإيغال ألون أو حتى الى درجة أقل اسحق رابين. ولكنه كتاب مهم لرجل مجرب. صدر أخيراً كتاب للجنرال أوري ساغي بعنوان "أضواء في الضباب"، يتناول فيه الكاتب والرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية أمّان القضايا التي شغلته أثناء خدمته الطويلة في الجيش الاسرائيلي، على المستوى السياسي. وخص ساغي بالذكر وبتوسع الموضوع السوري ومسألة الانسحاب من الجولان والسلام مع سورية واستعداد قادتها لفتح صفحة علاقات جديدة مع اسرائيل، وردود فعل القادة الاسرائيليين تجاه اصراره مع بداية التسعينات على أهمية التوصل الى سلام مع دمشق يتضمن انسحاباً من الجولان كون الوقت ملائماً لذلك وبناء على يقينه بأن الحكم السوري مستعد للسلام مع اسرائيل واغلاق ملف الحرب معها. كتاب ساغي الذي أصدرته دار "يديعوت أحرونوت" للنشر والذي يقع في 324 صفحة من القطع المتوسط، ويشمل 27 فصلاً، هو كتاب شخصي جداً يبدأ وينتهي بإشكاليات الكاتب النفسية والاجتماعية ويتعمق في بحث علاقاته مع الآخرين في الجيش وفي العائلة حيث يعتبر الكاتب في الفصل الأول وعنوانه "الوحدة" من وحيد انه يشعر بأنه دائماً في الأقلية، ويتذمر ساغي من معاملة العديد من أولئك الذي يعملون في المراتب العليا في الاستخبارات العامة والجيش، ولكنه يعود ويؤكد أنه راض بالخلاف معهم والاختلاف عنهم لأن ذلك يخدم مصلحة الجيش ويطوره، باعتبار ان الرأي الواحد والإجماع يمس بمصلحة الجيش. والجيش على حد رأيه ليس فرقة موسيقية: "أرغب في سماع جميع أصوات الأدوات الموسيقية ولتكن أصوات نشاز. ولكن ذلك من شأنه ان يطور عملية صنع القرار. والتردد هو شيء ايجابي في الخطوات التي تسبق عملية التنفيذ، فكلما ارتفعت أصوات تشكك وتتساءل أكثر، اتضحت الصورة أكثر فأكثر". وأفضل مثل على ذلك، الموضوع السوري، حيث اتهم ساغي رئيس "موساد" شبتاي شثيط الذي رفض رأيه بأن "لدينا فرصة حقيقية الآن للبحث عن طريق للبدء في عملية سياسية مع السوريين"، بل وأضاف له ان مثل هذه الرأي يجب ألا يقوله رئيس استخبارات الجيش. وكذلك الأمر مع موشي أرينز، وزير الدفاع حينها، الذي سمع منه موقفاً مفصلاً عن ضرورة انتهاز الفرصة للتوصل الى سلام مع سورية، وأجابه: "استمعت لك كثيراً، ولكنك الآن تتعدى حدود المسموح وتحاول ان تقول لي ماذا علي ان أعمل وهذا ليس في مجال عملك". وفي الحالتين يشعر ساغي بأنه في الأقلية وان هنالك عدم رضا عن اجتهادات ومواقف جديدة، ربما ضرورية وفي مصلحة اسرائيل. يعود ساغي في الفصل الرابع عشر ليعرض اشكالية تعريف دور محدد لرئيس الاستخبارات العسكرية والخلاف الدائر حوله في الجيش وبين السياسيين، فهل وظيفته "جمع المعلومات فقط" ام أن عليه ان يفسرها ويعطي تحليلاته وفي ضوء ذلك توصياته. وعملياً فقد شهدت اسرائيل العديد من المواجهات حين كان ليكود في السلطة ولم يقبل بتحليلات وتوصيات الجنرالات الذين يحسبون في العادة على التيار العمالي في اسرائيل. كان آخرها المواجهات بين نتانياهو والجيش. وبناء على ذلك، أصر ساغي على كتابة توصياته سنة 1991 وأرسلها الى كل من وزير الدفاع ورئيس الأركان، وتطرق فيها الى: 1- حرب الخليج واسقاطاتها العسكرية والسياسية بعيدة المدى. 2- العملية السياسية والتوصل الى سلام. 3- تكوين جهاز دولي جديد يأخذ في الاعتبار قوة الولاياتالمتحدة والتغييرات في شرق أوروبا وغربها. 4- التغييرات الاقتصادية العالمية التي يمكن ان تدفع بقوى جديدة مثل دول الشرق الأقصى وأوروبا الى البروز في واقع يطغى عليه العامل الاقتصادي. على خلفية هذه الأمور جميعها، ينتقل الكاتب الى طرح تصوره للتغييرات الجارية في سورية في أعقاب التغييرات الدولية، التي أدت في النهاية الى تغيير سياسة ومخططات الرئيس حافظ الأسد السابقة. والنقطة المركزية التي يوردها الكاتب بصورة غير مباشرة، هي انتقاد رؤساء حكومات اسرائيل بسبب عدم مقدرتهم فهم معاني التغييرات الداخلية في سورية والتي يمكن استغلالها للبدء بمحادثات السلام. ولكن ساغي يتمترس في ما يبدو في موقع آخر. اليوم إذ بعدما عين رئيساً للوفد الاسرائيلي الذي سيفاوض على المسار السوري، على حد ما جاء في وسائل الاعلام، لن يكون في موقع الأقلية. لأن تعيينه، إذا ما ثبت رسمياً، سيعني ان هنالك توافقاً بينه وبين رئيس الوزراء الجديد ايهود باراك، وان موقفه من السلام مع سورية وكيفية التوصل اليه، سيكون هو رأي الاكثرية. وهو الذي "فهم قرار الأسد عندما فضل العمل السياسي على العمل العسكري كأداة للوصول الى أهدافه". ولكن قبل التوغل في فهم ساغي للصراع مع سورية ولبنان وقراءته للخريطة السياسية للنزاع وسبل حله، لا بد من قراءة متأنية لهذا النمط الدارج في شخصية العسكري الاسرائيلي الذي يعبّر الى حد كبير عن طبيعة تفكير هؤلاء الذين بنوا قوة اسرائيل العسكرية وذهبوا ليستوطنوا الأرض ومستعدون لعمل أي شيء للدفاع عما أنجزوه داخل الدولة، سواء كان ذلك حرباً جديدة أو انسحاباً من أراض احتلت يمكن ان يضمن السلام مع الجيران. العلاقة مع الأرض يصرف ساغي صفحات كثيرة في الحديث عن علاقته بالأرض، ومعزة الأرض على قلبه، وأهمية استيطان الأرض و"يهوديتها"، وكذلك زراعتها واحتضانها بكل الوسائل حتى وان تطلب ذلك اتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير أكثرية يهودية في كل منطقة من مناطق الدولة. ويعتبر ساغي ان اسرائيل فشلت في خلق الاكثرية اليهودية المطلوبة في الجليل، حيث يعيش أكثر من نصف مليون عربي فلسطيني أو في الهيمنة على ما يكفي لذلك من أراض. والكاتب هو جيل سابع لعائلة صفدية، استقر جده في سهل الحولة، حيث ولد والده، وقد اشترك سنة 67 في الحرب على الجبهة الشمالية وساعد في احتلال الجولان، وهو ما يفسر علاقته بهذه المنطقة، بالإضافة الى مكوثه فيها فترة طويلة، على حد ما جاء في الكتاب. ولكنه تأثر كثيراً حين رُفض طلبه لامتلاك أرض من الدولة لبناء مسكن عليها في الجولان، ويروي عن ذلك قصة طويلة ومملة. لكن الكاتب لا يوفر جهداً في تأكيد قيمة أرض له ولليهود، فيقول انه يشك إذا كان في مقدوره ان يضيف الى الجدال حول حق اليهود على هذه الأرض، خصوصاً بالنسبة الى حق الفلسطينيين، باعتبار ان حق اليهود على الأرض، وان لم يكن مطلقاً، إذا ما قيس بحق الفلسطينيين،ً أكبر بكثير على أرض اسرائيل الكاملة. ولكنه يضيف أن الواقع يفرض على اليهود ان يتقاسموا الأرض مع العرب حتى يتسنى لهم الاستمرار في العيش في هذا المكان. وكان ان تعلم ساغي درسه أيام "الانتفاضة" الفلسطينية، حين شاهد هو وعائلته صور الجنود الاسرائيليين يواجهون الأطفال، فسأله حفيده "لماذا يعذب الجنود الشيوخ والنساء والأطفال؟ أليس هناك حل آخر"؟ وإذ حاول الكاتب ان يرد عليه بأن الصورة ليست مركبة من أسود وأبيض، فقد عرف حينها ان في نفسه "ضعف القوة العسكرية" وعدم قدرتها على حل مثل هذه المسائل. والكاتب الذي غير اسمه من ايزنبرغ الى ساغي قبل نحو ثلاثين عاماً أي بعد حرب 67، يعتبر ان سياسة التعامل مع الأرض قد تغيرت هي كذلك. واذا كانت سياسة الاستيطان في السنوات الأولى تعتمد الزراعة - التي يقيّمها ساغي عالياً - والاعتناء بالأرض، فإن الاستيطان في الضفة الغربية لا يُقارن من حيث فرض أحقيته على الأرض. "للأسف الشديد فقد أفرغنا كلمة الاستيطان من معناها الحقيقي وذلك لأن فئة من السياسيين يستعملونها بشكل تهكمي". وفي ضوء عدم اعطاء الزراعة أهميتها من قبل مؤسسات الدولة وتكاثر العرب على الأرض، يحذر الكاتب من مستقبل تتفكك فيه علاقة اليهودي بالأرض وتنحل بشكل مباشر. الخدمة في الجيش يشدد الكاتب في أكثر من فصل على علاقته بالجيش، بيته الأول والأخير. ويدّعي في الفصل الرابع ان "قصة كتيبة جولاني" التي تجند فيها ساغي سنة 1961، هي "قصة المجتمع الاسرائيلي"، ومن خلال تجربته هناك حيث عمل قائد سرية سنة 1965 عرف أهمية الجيش حيث لا شعور بالوحدة حين يكون مع فرقته. وهو يرفض فكرة تحويل الجيش الاسرائيلي الى جيش متطوعين، لأنه يرى في الجيش بالدرجة الأولى بوتقة صهر للمجتمع الاسرائيلي المهاجر ووسيلة لبناء وحدة قومية، وهذا يختلف جداً عن جيش من المرتزقة، الأمر الذي يرفضه الكاتب بالكامل. هذه هي بالفعل طبيعة العسكري الاسرائيلي "المباينيك" التابع للحركة العمالية أو الأصح لحركة "أحدوت هصفوداة"، التي تعطي أولوياتها للأرض والجيش والقومية، وتعتبر ان هذه العناصر الثلاثة مترابطة عضوياً. يتحدث ساغي عن تجربته العسكرية وعن انتقاله من الشمال بعد حرب تشرين الأول اكتوبر لقيادة فرقة مدرعة في سيناء وكان قد تجاوز الثلاثين من عمره، ولكنه ما لبث ان عاد الى الجولان والى الخدمة في فرقة جولاني - فرقته العسكرية الأصلية. ويرى ساغي ان هنالك شرطين لنجاح القائد العسكري: 1- الوصول الى الهدف مع الحفاظ على أكبر قدر من جنوده في النهاية - هو الشرط الأسمى. 2- ان يربي جنوده ليس على الطاعة العمياء، انما على تنفيذ الأوامر والقيم العسكرية. ربما كان في هذا بعض ما يميز ساغي عن كتّاب آخرين كتبوا عن الجيش مثل ديفيد بن غوريون في "مذكرات" وايغال ألون في كتابه عن "بناء الجيش الاسرائيلي" أو حتى رابين في كتابه "بطاقة عضو"، ففي كل هذه الكتب هنالك نظرة موضوعية ولو منحازة كلية، ولكن عند ساغي يدخل العامل الشخصي والرأي والمشاعر والثقة كلها في شخصنة "نظرته للجيش ودوره". في الفصل الثاني عشر يناقش ساغي الموضوعية وغير الموضوعية في البحث والتقويم، وهو على مدى صفحات طويلة يحاول ان يبرهن قصر نظر القيادات السياسية في فهم دور الجيش في تطبيق أهدافها السياسية أو في فهم المستجدات الاستراتيجية وأهميتها على المستويين السياسي والعسكري. وعندما تلقي الضوء على موضوع لبنان ستتضح الصورة أكثر. هذا لا يعفي ساغي من مشاكل داخل الجيش بدءاً بما يبدو انه فضيحة أثناء أحد التمارين في سنة 1971 في الجولان في فرقة جولاني وحتى اختلافه مع رئيس الأركان حينذاك أمنون ليبكين شاك والذي أدى الى اعفائه من الخدمة العسكرية في أواسط سنة 95. على أي حال، يلوم ساغي القيادات الاسرائيلية، خصوصاً السياسية منها وزير الدفاع وبالذات في حرب لبنان حيث أُخضِع الجيش الى قرارات الطاقم السياسي. وساغي في ما يبدو من كتاباته، يفضل ان يكون الجيش طرفاً كبيراً جداً في عملية صنع القرار السياسي، بل الطرف الذي يغذي الطاقم السياسي بالمعاني والمعلومات والاهداف المحددة. وهناك نقطة مركزية يشدد عليها ساغي هي عدم وجود وعي كاف لدى الطاقم السياسي لمعاني العملية العسكرية، خصوصاً في لبنان وحرب الخليج. ويبدو ان ساغي يقصد بصورة خاصة قيادات ليكود التي فرضت رأيها على مدار الثمانينات على الجيش وقيادته. وبناء على هذا، هناك محوران مهمان يحاول ساغي تحليلهما واستخلاص النتائج: الأول، ان حكومة اسرائيل لم تنجح في رؤية الصورة الشاملة لواقع الحرب في لبنان حتى 1985. الثاني، ان على سورية واسرائيل ان توسعا آفاقهما وتتوصلا الى اتفاق سياسي شامل يضمن الأمن الكافي لاسرائيل. غداً الحلقة الثانية.