شغلتنا أحداث ونتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل كأنها تجري في بلادنا، وإذ لم يتردد أحد منا في إحضار دلوه والإدلاء به، تبيّن هذه المرة أن أصحاب الدّلاء ليسوا هم السياسيون وحدهم، بل انخرط معهم وربما بحماس أكبر المواطنون العرب. واللافت أننا لم ننشغل في شأن انتخابات الدولة العبرية إلا بتحليل وتفحص الأحزاب ومرشحيها وصراعاتها مع طرح توقعاتنا لما ستكون مسالكها إزاء عملية السلام المتوقعة، فيما تجاهلنا، بعضنا عن عمد وأغلبنا عن سذاجة، حقيقة إنفراد دولة إسرائيل بهذه الظاهرة الديموقراطية على رغم أنه ليس في اسمها كلمة الديموقراطية أو كلمة الشعبية، وهي الكلمات التي تقترن بالاسم الكريم لكثير من الدول عندنا. لقد بدونا، ولعل ذلك من ثقافتنا، أننا نمعن النظر في الحدث الانتخابي الإسرائيلي بعين واحدة، فلا نرى منه إلا ما قد يترتب على وقوعه من نتائج تخص علاقاته الخارجية بنا. وذلك من دون أن يتنبه فينا حس المقارنة بين ما عندنا وما عندهم، ومن دون أن يتساءل أحد عما إذا كان أسلوب التعامل السياسي بين اليهود في إسرائيل هو أهم، أو على الأقل أحد، مصادر قوتهم، إذ ثبت أننا جرى تطعيمنا فتحصنت عقولنا ضد أية عدوى من هذا النوع. هذه مقدمة لاپبد منها للدخول في ما أرغب في الحديث عنه في شأن فرصة جديدة تبدو سانحة لتحقيق مزيد من المكاسب للفلسطينيين والعرب الآخرين الذين يعلنون رغبة في السلام، ذلك أن في المواقف المعلنة لحكومة إسرائيل الجديدة ما يلوّح برؤية مختلفة عن تلك التي ظلت تراها الحكومة السابقة، وبالطبع فإن هذا لا يعني استعداد إسرائيل في ظل أية حكومة أن تقدم لنا ما نطالب به ونتمنى الحصول عليه، لكن يمكن لنا، ونحن على ما نحن عليه، ألا نضيع فرصة الأجواء الجديدة لتحقيق منجزات واقعية. نحن إذا نظرنا الى وضعنا العربي والوضع الفلسطيني المحبوس بداخله، لاپبد واجدون أنه ومنذ زمن طويل ليس إلا تعبيراً عن ضعف أمام قوة. فالإمكانات الفلسطينية والعربية كلها لا تبرر سلوك طريق القوة والى زمن طويل مقبل، وإسرائيل تمتلك القوة التي تمكنها من حماية أمنها عسكرياً ولكل المستقبل المنظور. وعليه فإننا بعد أن اخترنا السلام بالتفاوض، لم نعد نملك اتخاذ موقف المفاوض الذي يستطيع زرع القلق في الخصم عند تهديده بالإنصراف في طاولة المفاوضات. نعم، كان لنا خيار آخر يمكن لمثلنا أن يتوجه اليه، وهو رفض التفاوض حتى نحقق توازن القوة، لكن، ونحن لا نفكر وحتى إشعار آخر في السعي الى امتلاك القوة لم يبق لنا سوى القناعة بالسلام الذي أعلنا أنه خيارنا الاستراتيجي، وفي مثل هذه الحال لا يصح أن نحدد نحن مطالبنا ونرسم شكل السلام الذي نريد، ثم نفاوض عليه من دون استعداد لتقديم التنازلات. إن الأخذ والعطاء أمر لازم حتى في التفاوض بين الأنداد. وتحديد القدر بين ما تأخذ وما تعطي لا تمليه البلاغة الكلامية، وإنما تمليه قدرتك على تخويف الخصم من مغبة مبالغته في رفض ما تعرض عليه. ولذلك سيكون من غير الصواب أن نتوقع من المفاوض الفلسطيني أو العربي تحقيق المطالب التي نعلنها. إن ظهور حكومة جديدة في إسرائيل تبدو وكأنها أكثر استعداداً للمضي في مسيرة السلام، هو فرصة تستحق أن ننتهزها، خصوصاً من قبل السلطة الفلسطينية، وإذا كان انتهازها لا يعني بالضرورة تحقيق نجاحات، إلا أن المضي إليها يعبر عن موقف جدي، فلم يحقق النجاح إلا أولئك الذين أقدموا على ما ظنوا أنهم غير قادرين على الإقدام عليه. نحن لم تتسم سياساتنا منذ العام 1952 بأية جدية، فبعد قيام دولة إسرائيل ونجاح الملكين عبدالله بن الحسين وفاروق في اقتناص الضفة الغربية ونصف القدس وقطاع غزة، رغم كل ما اتهمناهما ونتهمهما به بعد ذلك، صارت سياساتنا التي قررتها الانقلابات الثورية بعيدة عن كل جدية. فعلى رغم أن ضجة طبول الحرب العربية ملأت اسماع الدنيا، لم يكن أحد يفكر جدياً في حرب، بل ولم يكن أحد يجري أي استعداد جاد لخوضها، وبقيت إسرائيل دولة مزعومة لدينا، لدرجة أن كانت الرقابات العربية تقص الصفحات الخاصة بها من الموسوعات الغربية التي تفد إلينا. وفيما كانت سلطات عندنا تكثف من جهودها لخنق أكبر قدر من حريات مواطنيها، كانت إسرائيل تزدهر وتقوى وتستعد وتحقق الانتصارات. لقد تعاملنا مع الرغبة في الحرب باستخفاف وفعلنا الشيء نفسه عندما قررنا اختيار السلام، إذ بدأ توجهنا الى المصالحة مع اليهود عقب حرب 1967 بكثير من التردد والمناورة، وكانت أدبياتنا وخطب زعمائنا تصور لنا أن إسرائيل عطشى الى السلام، وهي لاپبد مسلمة لنا بكل ما نطلب فور أن نلوح لها بأعلام التصالح، ولذلك أعلنا رغبتنا في السلام أولاً بلا تفاوض مباشر ثم قبلنا التفاوض المباشر، لكن، وعند قبولنا بسلام نتفاوض عليه مباشرة مع العدو لم نكن جادين حقاً، أو على الأقل هكذا ظهرنا. فنحن لم نختلف فقط على ما إذا كنا سنفاوض بوفد واحد أو عدة وفود بل كانت عين كل منا على عربي آخر حذراً منه أكثر مما كانت على إسرائيل، ولم نتوقف عن وضع العصي في عجلات بعضنا البعض. والحق أن إثنين من المسؤولين منا أدركا مواطن الضعف فينا وقررا المضي بجدية في ما أجمع عليه العرب من اختيار للسلام، ذلك السلام الذي يعرفون، أو كان يجب أن يعرفوا، أنهم يُقدمون عليه من موقع الضعف وليس من موقع القوة، وهما الرئيس الراحل أنور السادات والرئيس ياسر عرفات. إن مسلك الرئيسين المذكورين كان يمكن أن يكون قابلاً للانتقاد لو أن العرب كانوا في موقع قوة، أو لو كانوا يفكرون جدياً في اكتساب القوة. أما ونحن جالسون على رصيف الأحداث في زمن متسارع، فإن مسلك السادات ومن بعده عرفات، كان هو المسلك الجدي الواقعي الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العصر. بالطبع كان السادات أسبق في التصرف، لكني أعتقد أن عرفات كان محملاً بالاقتناع نفسه، سوى أن واضعي العصي في العجلات كانوا أكثر جرأة على عرفات الضعيف، فأوقفوا نمو الجدية عنده فيما لم يقدروا على ذلك مع السادات. ونحن نرى اليوم محاولات تنم عن سذاجة وأخرى عن سوء حسابات، للحيلولة دون مضي عرفات ومن معه قُدماً في طريق التعامل الجدي الواقعي مع مسألة السلام، الأمر الذي يهدد بإضاعة فرصة أخرى قد تتيحها الحكومة الإسرائيلية الجديدة أمام الفلسطينيين لاسترداد مزيد من الأرض والحقوق. إن الواقع الفلسطيني ومن حوله الواقع العربي يرسم لنا صورة الذين لا يقدرون على التهديد بالقوة، بل ، ولا يفكرون في اكتسابها، وهم يرغبون في استرداد حقوق لهم بالتفاوض وليس لهم من وسائل للضغط على الخصم سوى عمليات فردية تخل بالأمن، عالمين إن الإخلال بأمن الخصم قد لا يدفعه الى التنازلات بقدر ما يخيفه على سلامته فيصبح اكثر تشددا مع مفاوضيه. نحن نستمع اليوم الى اصوات فلسطينية وعربية تحذر من ان باراك ونتانياهو وجهان لعملة واحدة، وتدعو الى مزيد من التشدد مع دولة اليهود، وسنشهد قريبا مزيداً من العصي توضع في عجلات السلطة الفلسطينية بما قد يضيع عليها فرصة ليست هي فرصة العمر لتحقيق الآمال، بل هي فرصة لإنجاز مكاسب جديدة وجديرة بالمضي اليها على كل حال. إن الاعتراف بحقائق السياسة عندنا يملي علينا ان نقر بأننا لسنا في مركز المفاوض الذي يهدد، وإننا لم يعد امامنا الآن وفي المستقبل المنظور من خيار سوى خيار السلام بالتفاوض، ونحن اذ نفعل ذلك يصبح لزاماً علينا ان نشجع الفلسطينيين على التوحد وعلى المضي جميعا الى انتهاز فرصة وجود حكومة جديدة في اسرائيل، حتى وإن كانوا سيفشلون في تحقيق الجديد. لقد حان الوقت لكي نتجرأ على القول إن فينا من لا يشغله امر سلام مع اسرائيل، لكنه لا يفضل ان يظل وحده خارج دائرة السلام ويسعده ان يبقى الى جانبه آخرون، وفينا من لا يملك ارادة المضي في اي سلام، بل وفينا من لا يزال يعلن ان على اسرائيل ان تلبي كل مطالب من دون ان يسمح لها حتى بفرصة التحدث اليه. ان الواحد منا لا يتعذر عليه اكتشاف ان الاختلاف السياسي النوعي بيننا وبين دولة اليهود والذي يظهر جلياً في كل موسم عندهم للانتخابات، هو ما يجعل من مواقف معظم اصحاب القرار في شأن مسيرة السلام مواقف بالغة السيولة تنساب في جداول لا تتجه الى اي مصب. لكن، يجب ألا يجعلنا كل هذا نعزف عن التوجه الى اولئك المقررين ألا يكرروا إضاعة الفرص وأن يتعاملوا بالجدية الواقعية على مرارتها في حلوقنا، اذ تكفينا مواقفنا من انجاز السادات ومؤتمر مدريد واتفاقات اوسلو ومزرعة واي ريفر، وتكفينا مواقف الرفض من كل محاولة ثم الانخراط فيها بعد افسادها او بعد فوات الآوان. بالطبع، من حق كل عربي ان يتمنى الحصول على حقوقنا كاملة "غير منقوصة"، بل وما يزيد عليها، لكن من الحكمة ان نمد الأرجل موقتا على قدر اللحاف الغطاء، ومن الواجب القول ان التعامل بجدية مع فرصة التفاوض الجديدة، لا يعني التسليم لحكومة باراك بكل ما ترغب في فرضه، لكن يعني عدم التصرف وكأننا لا نقبل بالسلام الا اذا افرغنا جعبة اسرائيل من كل ما ضعته فيها من حقوقنا، فهذا امر قد نحرص على الاحتفاظ بالأمل فيه من دون ان تضعه شرطا لما نقبل بالموافقة عليه من سلام. لقد ظل البعض منا يطالب بسلام شامل وهو يعلم ان بين بعض الذاهبين الى السلام من الشكوك اكثر مما بينهم وبين اسرائيل، ويعلم ايضا ان هناك مفاهيم عربية يستحيل التوفيق بينها بشأن السلام ولعل افضل سلام شامل بيننا وبين اسرائيل هو حاصل الجمع بين سلامات عدة يتخذها كل طرف عربي حسب ظروفه وتركيبته السياسية وما يمليه عليه الرأي والمزاج، ومن الواقعية والجدية بلا جدال، ألا يعرقل طرف عربي طرفاً آخر، وألا يفسد عليه ما يتوصل اليه حتى يمكن تحقيق مجموعة السلامات التي تكون حصيلتها سلاماً شاملاً. إن فرصة محتملة لتحقيق انجازات في سلام ممكن، وإن كان ليس هو كل ما نصبو اليه، ومن الافضل لنا ان نجرب حظنا مرة اخرى بجدية وواقعية وألا نعرقل مساعي الذين يحاولون، خصوصا السلطة الفلسطينية، فليس في تجميد الامور من دون احتمال القدرة على الفعل في مستقبل منظور، اي نوع من الصمود، فالصمود هو الصبر على العجز مع التحفز للانطلاق، أما مجرد الجلوس في انتظار المجهول، فهو موقف لايتم بالقدر المطلوب من المسؤولية. * كاتب، رئيس وزراء ليبي سابق.