يتساءل كثيرون، ولا سيما من العرب: لماذا قدر لليهود وهم الذين لم يعرفوا وطناً خاصاً بهم ان يخلقوا وطناً سموه اسرائيل ومضى على وجوده الرسمي اليوم نصف قرن، بينما يفقد الفلسطينيون العرب - او غيرهم من بلاد العالم الثالث لو قدر للصهيونية العالمية ان تختار أرضهم لقيام ذلك الوطن - وطنهم عبر مجموعة من المناورات السياسية التي اختلطت فيها الحذلقة بآليات السياسة المعقدة للعالم الجديد المتحضر ومناوراته ومصالحه. وراح يتبخر هذا الوطن من بين ايدي اصحابه الاصليين الفلسطينيين قطعة قطعة وشبراً بعد آخر، ولم يبقَ غير حفنة قليلة من ترابه، تصيب القائمين عليها بغصة كلما تذكروا الوطن الذي كان، والممارسات التي صارت كائنة عليه. ويذرف البعيدون عن الأرض الدمع ويطلقون الآهات، وأمامهم معجزة واحدة - ان صح التشبيه - فزعيمهم "الرمز" هو الذي خاصم "درزنا" من رؤساء الوزارات الاسرائيليين، وفاوض ثلاثة منهم حتى الآن، وهو لا يزال على زعامته وحيداً من دون منازع، وممارساً بأساليبه القديمة نفسها ينتظر المعجزة او يزعم مجيئها ليبقى في موقعه. هذا التساؤل طرأ لي من جديد بعدما شاهدت كغيري من مواطني هذا العالم، الذي اصبح بحق قرية صغيرة بفضل وسائل الاتصال الحديثة، مقابلات السيد ياسر عرفات من جهة ومقابلات نتانياهو من جهة اخرى في اسبوع المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية الاخيرة في لندن. ولقد تذكرت لمناسبة ملابسات مكان المفاوضات القول المعروف "انك ان أردت ان تعرف تاريخ العالم فعليك بمعرفة تاريخ بريطانيا"، فقد كانت بريطانيا هي المالكة لمقدرات العالم لما يزيد على القرن، حتى اصبحت امبراطوريتها لا تغيب عنها الشمس جغرافياً وسياسياً. وفي كتاب صدر حديثاً عن الحرب الاسرائيلية - العربية، تحدث الكاتب عن ان بريطانيا عندما شهدت مقدار تعقد القضية بين اليهود والعرب والحرب الارهابية التي استهدفت جنودها، وكان لها حكم الانتداب على فلسطين "وضعت مفتاح فلسطين تحت دواسة الباب وخرجت"، وكان ان التقط المفتاح وقتها الأكثر تنظيماً وعلماً ببواطن السياسة الدولية، فقامت اسرائيل، وأصبح الفلسطينيون مجرد لاجئين. ولكن يبدو ان بريطانيا اليوم بعد تغيير جذري في طبيعة الحكم فيها، وبعد تغير الظروف الدولية والاقليمية، تبحث عن المفتاح من جديد، ولكنه مفتاح تغيرت طبيعته ايضاً فأصبح مفتاحاً رقمياً على شاكلة العصر، مفتاحاً عنوانه الصناعة والعلم والديموقراطية وحقوق الانسان، وهذا ما زالت اسرائيل تجيد معرفة ارقامه ولو من جانب واحد ويفتقده الى حد الألم الجانب العربي، خصوصاً قيادة السلطة الفلسطينية. عناصر هذا المفتاح قال بها الكثيرون من العرب المستنيرين لعل آخرهم - من اجل الاستشهاد بما قال لا حصر القول فيه - قسطنطين زريق الذي كتب في جريدة "الحياة" في 7 ايار مايو الجاري: "ان الفلسطينيين العرب ان ارادوا مقاومة المشروع الصهيوني مقاومة جدية تؤدي في نهاية الامر للتغلب عليه، لا بد لهم ان يقفزوا في حقول الثقافة العصرية، وفي حقول العلم النظري والتطبيقي بخاصة، قفزات واسعة وسريعة يقلبون بها حياتهم وفكرهم رأساً على عقب"، ولا تنطبق عناصر امتلاك هذا المفتاح التي حددها شيخ المؤرخين العرب على الفلسطينيين وحدهم، بل على العرب معظمهم، وليس في المجال العلمي فقط بل وأساساً في المجالين السياسي والاجتماعي. هناك فارق في ممارسة السياسة والحياة الاقتصادية بين العرب والفلسطينيين منهم على الأخص وبين الاسرائيليين، وقد آن لنا ان نعرفه ونضع الاصبع على موضعه وإن كان شديد الإيلام في جسدنا، فنحن وإن جاز لنا لوم المقاومين الفلسطينيين والعرب الأوائل على غفلتهم عن المفتاح ونقص معرفتهم به ومتطلباته السياسية. فلا عذر للمتأخرين لأنهم قد عرفوا وخبروا بما لا يدع مجالا للشك في العقود الخمسة الماضية اي المفاتيح يقود الى بناء مقاومة صحيحة، وهي بالتأكيد ليست الصياح والصوت العالي، او تزييف الحقائق للعامة والبسطاء، وإنما التنظيم الديموقراطي وتحكيم العلم والعمل بنتائجه. لقد ركز نتانياهو - وهو تركيز قد يكون تكتيكياً ان أسأنا الظن وغلبتنا العاطفة، وقد يكون حقيقياً - في مفاوضاته على ضرورة ان يعود للمؤسسات الديموقراطية في بلده لمشاورتها في كل خطوة يخطوها، فإذا قدم له مشروع لتطوير عملية السلام فإنه يطلب وقتاً للعودة الى المؤسسات المختلفة في الدولة الاسرائيلية، هذا بينما يسمع الفلسطينيون بقرارات قيادتهم وبقبولهم بالمشروعات المطروحة من الصحف والاذاعات العالمية، من دون ان تراجع القيادة الفلسطينية حتى المسؤولين المباشرين الذين تم اختيارهم بالملقط الدقيق، عدا ان تصغي الى، او تستفتي القوى المختلفة مع اهل السلطة من الفلسطينيين في الداخل، والتي لها وجهات نظر واجتهادات قد تكون مختلفة، وهذا موضوع ليس شكلياً فقط ولكنه جوهري في الصراع العربي - الاسرائيلي وهو فارق حضاري له معان كثيرة تفوق معناه الظاهري المباشر، فله علاقة بشكل الدولة المقبلة، كما ان له علاقة بأهداف التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني منذ نصف قرن على الأقل، وحقه غير المنازع عليه في الحصول على دولة ديموقراطية حقيقية، حتى لا تذهب كل هذه التضحيات عبثاً، لأن الشكل الديكتاتوري من الحكم هو جهنم او قريب منها واسألوا أهل العراق. تتكامل الصورة اذا اضفنا الى تلك الممارسات اللاديموقراطية الفضائح المالية والفساد المستشري مما ارتكبه بعض وزراء ومستشاري السلطة، وفاحت روائحه للداني والقاصي قبل اشهر، وسمعنا التهديد والوعيد حولها، وقد انتهى كل ذلك الى العدم من دون مساءلة او عقوبة، وأهيل عليه الكثير من التراب، وبعض أبطال هذه الممارسات بدلاً من محاسبتهم، صحبوا المفاوض الفلسطيني الى لندن بعد ان تحدث الجميع في ذممهم المالية، وهذا مظهر من مظاهر عدم الاكتراث بحقوق الناس العاديين فكيف الاكتراث بقضية شعب كامل؟! اما الموضوع الأخير في هذا الجانب فهو صحة الرئيس عرفات نفسه، إذ بدأ بعض المحاسيب يهونون من تأثير تدهور صحة الزعيم على قراراته، والصحة والمرض هما امران بيد الله، ولكنهما امران مهمان ان كان ذلك يتعلق بصحة وبمصلحة قضية أهدِر من الدم والثروات حولها ما لم يهدر قط في قضية اخرى. وكل من يسمع الزعيم او يراه على التلفزيون - وهو محايد - يتأكد من دون ادنى شك، انه على الأقل ليس في وضع صحي يسمح له بأن يفاوض لفترة طويلة في امر خطير كهذا، ومع مفاوض مصمم على استخدام كل خديعة ممكنة في كتاب المفاوضات للتسويق والضغط على الاعصاب واختيار التكتيكات المؤجلة للتفاوض والمراوغة ان امكن، وأفضل خدمة يستطيع ان يقدمها السيد ياسر عرفات للقضية بعد هذا العمر هو ان يكتفي بما قدم ويعترف بأن قدراته الصحية لا تؤهله للاستمرار في ادارة الامور اليومية والدقيقة والتي تحتاج الى قدرات جسمية وعقلية ثابتة، ويترك جيلاً جديداً يحمل الراية ويتقدم بها بنفس جديد وقدرات جديدة على الحشد والحوار والمناورة، خاصة ان تطلب الأمر حواراً مباشراً. لقد ظهر السيد ياسر عرفات اخيراً في التلفزيون الدولي مشتت الانتباه، مقتضب الحديث، وأكثر ما ردده من جمل هي "يا جبل ما يهزّك ريح" وهي اهزوجة فلاحية بسيطة تقدم للبسطاء من الناس وليس لعالم تتداخل فيه المصالح وتتعقد، ولا يوجد مثلها في قاموس السياسة الدولية اليوم. لقد اهتز الاتحاد السوفياتي وسقط، واهتزت امبراطوريات وسقطت عروش، وهزّ نتانياهو اتفاقيتي اوسلو حتى الاقتراب من التلاشي، فأي جبل يتحدث عنه السيد ياسر عرفات ذلك الذي لا يهتز؟ واتفاقيتا اوسلو بقضهما وقضيضهما هما أدنى مما عرض عليه في اتفاقات كامب ديفيد مثلاً. تتكثف روح عدم المبالاة التي تتشبث بالشكل وتفقد الجوهر - من بين أمور اخرى - في معنى تصريح فايز ابو رحمة النائب العام في الساحة، والحسابات السياسية الخاطئة تأتي بنتائج خاطئة، ان اعتمدت الفردية في اتخاذ القرار، وعلى العكس اليوم، او في التفاوض مع نتانياهو في الفترة الاخيرة، يبدو ان الدائرة تتراجع الى عكسها، ويستعاض عن التردد وتفويت الفرص السابقة، بپ"هرولة" حالية غير مبررة، قد يكون لسن السيد ياسر عرفات دخل فيها، ولعلها طريقته في اتخاذ القرار المنفرد، فلأول مرة في تاريخ الصراع يجمع المحللون - حتى الاسرائيليون منهم - على ان عدم اعطاء نتانياهو الفرصة لتحقيق شروطه لن يؤثر في المدى المتوسط على مسيرة القضية، فهو يريد ان يضغط الآن لتحقيق سلام على شاكلة تصوره، بفرض قيود منها عدم الاعلان عن الدولة الفلسطينية، وتحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية اي اخلال بالأمن، وعدم تقسيم القدس، وهذا كله مجرد معلوم من مجهول اكبر، ولو قدمت لنتانياهو هذه التنازلات فإن الشعبية في المجال السياسي الاسرائيلي، التي يلهث وراءها ستتحقق له، وربما تحمل اليه من جديد كرسي رئاسة الوزراء في سنة ألفين، عندها سيقول للجسم السياسي الاسرائيلي المناهض لسياسته ان الشدة لا اللين هي التي اجبرت الفلسطينيين على قبول كل الشروط، في حين ان المتابع للوضع الاسرائيلي الداخلي يرى بوضوح ان تيار السلام يتكاثر ويزداد زخماً، والدليل او احد الأدلة، ان ثمانية وسبعين صوتاً في الكنيست أيدت اتفاق الخليل في العام الماضي، بينما اتفاقية كامب ديفيد مع مصر حصلت فقط على أربعة وثمانين صوتاً، فهناك كما هو مشاهد تيار اسرائيلي يتوسع باتجاه التسليم بحقوق الفلسطينيين، على الأقل كما جاءت في اتفاقات اوسلو، ويضغط هذا التيار في الشارع الاسرائيلي بشدة وعلى نطاق أوسع في حمى التنافس الداخلي للدعوة الى السلام والمصالحة التاريخية، فلماذا العجلة في اتخاذ قرارات بتقديم التنازلات وقبول الاقتراحات والمبادرات حتى قبل الاعلان عنها رسمياً، ودون العودة للمؤسسات الفلسطينية؟ هل هي لانقاذ نتانياهو من ضغطين داخلي وخارجي ممثل بالتطور اللافت في توجهات الادارة الاميركية، حيث الانتقاد العلني لتصلب نتانياهو، والموقف الأوروبي الداعي لإحلال السلام وتحقيق الأمن في الشرق الأوسط؟ ام ان الأمر هو فقط الرغبة في ان يحصل ياسر عرفات بشخصه على اتفاق سريع يسابق فيه الزمن بصرف النظر عن حجم التنازلات التي يقدمها تحت شعور ضاغط بتحقيق شيء ما قبل حلول خطر شخصي داهم ربما لا يعرف كنهه الا ياسر عرفات؟ الوقت الذي يراد احراق مراحله، لأول مرة يعمل لمصلحة الحق الفلسطيني، فمن هنا الى الانتخابات الاسرائيلية، العادية او المبكرة، سوف تزداد قوى السلام الاسرائيلية حجماً وقوة ونفوذاً سياسياً، والموافقة على حرق المراحل الآن تسليم لا مبرر له فوق التسليم التاريخي الذي تم بالفعل، فتعقيد القضية الفلسطينية وإن كان احادياً في ظروفه التاريخية، الا ان تشابكاته السياسية ليست اكثر تعقيداً من نضال السود في جنوب افريقيا او نضال الايرلنديين الشماليين، ولكن مع ذلك فإنه بالتفاوض الصحيح والصبر على المنغصات والعقبات الآنية توصلت الاطراف الى حلول مرضية، وأفضل حليف للفلسطينيين الآن هو قوى السلام داخل اسرائيل، وهي قوى تتنامى مع الوقت وتكسب مريدين ومؤيدين جدداً مع اقتراب الانتخابات العامة التي تسعى للفوز بها، وأي تنازل لنتانياهو والقبول بشروط الصعبة، سوف يقلل من فرص القوى السلمية في المجتمع الاسرائيلي في الفوز بالحكم، ويعظم من فرص نتانياهو للاستمرار في سياسته التعنتية، كما ان العودة الى اشكال العنف الفلسطيني في الداخل الاسرائيلي هي افضل حليف لنتانياهو والقوى الاسرائيلية المؤيدة له، حيث ان ذلك سوف يعطي المتطرفين الاسرائيليين وحكومة نتانياهو المزيد من الوقود لنشر شعبيتهم والتدليل على ان موقفهم هو الصحيح في عدم التنازل عن الأرض الفلسطينية بدعوى الحفاظ على امن اسرائيل. بقيت نقطة تبدو شكلية لكنها في جوهرها ترتبط بأعمق اعماق ما يحدث في المسار الفلسطيني - الاسرائيلي بل والمواجهة العربية - الاسرائيلية عموماً. فالتهوين الذي يمارسه اي قائد مقللاً من شأن شعبه ومؤسساته يجعله هو نفسه هيناً قليل الشأن لدى الآخرين، والخسارة مزدوجة بالطبع على مستوى الشخص المعني ومستوى القضية التي يمثلها. وفي هذا الخصوص أشير الى الملاحظات الآتية: دعا بلير رئيس الوزراء البريطاني نتانياهو على الافطار ولم يدع عرفات، وانتقلت اولبرايت الى نتانياهو بينما انتقل عرفات اليها، وافق الفلسطينيون فوراً على الذهاب الى واشنطن وأعلن نتانياهو انه سيستشير حكومته، وأعلنت أولبرايت ان لقاء واشنطن ان تم يعني التفاوض على المرحلة النهائية، وكان من المفترض ان مفاوضات لندن هي الاخيرة في المرحلة الوسطى من الاتفاقات التي تجاوزها الزمن، وهكذا دخلت المنطقة فترة جديدة من الترقب. هكذا تعكس الترتيبات البروتوكولية والشكلية - في عالم سياسي محسوب الخطوات بدقة - مقياس احساس الغير بما هو اعمق من البروتوكول والشكليات. فعرفات ليس مجرد جسد متعب مرتعش، انه ايضاً رؤية قديمة مرتعشة، وهذا تناقض خطير، فالقضية الفلسطينية قضية مصيرية للشعب الفلسطيني وللعرب وللمنطقة، وما يحدث من اصرار عرفات على الهيئة هو نوع من دفع دماء راكدة في شريان حيوي مهم، وهذا الدفع الذي يتجاهل وجود دماء فلسطينية جديدة جيدة انما يهدد هذا الشريان بالانسداد ونشر تفسخ بعيد المدى في جسد القضية الفلسطينية التي اثخنتها الجراح.