درج سياسيون عرب وفلسطينيون، ومعهم كُتاب ومفكرون، على انتقاد ما توصلت اليه منظمة التحرير في اتفاقات اوسلو من مسيرة مرحلية جرى بمقتضاها تقسيط السلام مقابل تقسيط الارض. ولعل ما أشعل نيران الهجوم على "عملية أوسلو وما تلاها" هو أنها اتفاقات غير كاملة ولا تضع تصوراً للنهايات التي يمكن أن تؤدي اليها. ومن ثم استثارت تلك "الأوسلو" كوامن السذاجة العربية التي تواصلت ممارستها إزاء القضية الفلسطينية منذ بدايتها وحتى اليوم، إذ تعذر علينا تصور القبول بحلول مرحلية في أي اتفاقات لا تحدد معالم النهاية، ولذلك تراكمت المطالبات العربية للمفاوض الفلسطيني بأن يعرف النهاية قبل أن يقدم على أي خطوات مرحلية، وأعلن الكثيرون اتهامهم لعرفات ومن معه بالتفريط حين قبلوا بالسير في طريق المراحل. نعم، من الأفضل أن يتأكد المفاوض من النتائج النهائية التي يحققها تجاه الخصم، وهذا ما فعلته سورية التي تصر على قبول اسرائيل بانسحاب كامل من الجولان قبل الشروع في التفاوض الذي يجب أن يقتصر في نظرها على ترتيبات الأمن والسلام. وبغضّ النظر عن مدى سلامة هذا الموقف فإنه يستحيل على المفاوض الفلسطيني أن يقوم بتقليده. فسورية دولة قائمة وحكومتها تجلس في عاصمتها، بينما كان، الفلسطينيون ولا يزالون في الشتات، وكانت سلطتهم تجلس في تونس على بعد آلاف الأميال من الوطن، فكان حرياً بهم القبول بأسلوب الحلول المرحلية. وحسناً فعلوا، فهم يجلسون الآن على جزء من أرضهم ويفاوضون اسرائيل على ما تبقى منها، ولعلهم ظلوا، لو لم يفعلوا، في المنافي حتى اليوم يأكلهم الزمن فيما ينعمون بندوات المفكرين وخطب الساسة العصماء. أقول هذا لأننا، باستثناء موقف مصر ودول معتدلة أخرى، نشهد تنافساً عربياً على عرقلة أي حل مرحلي آخر، بل إن موقف السلطة الفلسطينية ذاتها يبدو كأنه يميل الى المنادين بضرورة تحديد معالم الحل النهائي قبل القبول بأية حلول مرحلية جديدة. لدرجة أننا نظهر كالمتربصين بما يفعله الفلسطينيون لنهجم عليهم كلما انتقلوا من مرحلة الى أخرى. حقاً إن المأساة الفلسطينية هي من صنع طموحات اليهود، ولكنها مأساة أرضعها العرب، ساسةً ومفكرين، حتى نمت وكبرت واستعصت على الحلول. فلم ينشغل العرب في تاريخهم الطويل مثلما انشغلوا بقضية فلسطين ولم يتخلف عربي في السلطة أو خارجها عن الادلاء بدلوه في الشأن الفلسطيني، ولم يظهر علينا عسكري بإنقلاب إلا كانت أهم فقرات بيانه الأول تحرير فلسطين، ولم تخل خطبة زعيم او إمام، ولا مقالة كاتب ولا قصيدة شاعر من الغوص في قضية فلسطين كما لم تخلُ منها اناشيد المدارس ولا اغاني المطربين. لقد احترفنا القضية وأدمناها الى درجة أن اصبح يعزّ علينا أن نفقدها إذا ما توالت عليها الحلول، والى حد أن يصيبنا الهلع كلما تصورنا احتمال خلو خطبنا وأحاديثنا وخلافاتنا منها. إن أحداً لا يناقش في أن إسرائيل قامت على الظلم وولدت ويستمر وجودها بالقوة، لكن كل هذه الحقائق أمور معروفة لنا منذ، بل حتى من قبل، قيام الدولة اليهودية. وفيما تواصل صياحنا بحقوقنا في أرض الميعاد وتواصل دق طبول الحرب في عواصمنا لم يكن في نيتنا الاستعداد لأية حرب، وإذ أوقف حكامنا تنمية شعوبهم استعداداً لمعارك التحرير، لم يكن يدر في خلد أي منهم محاربة اليهود. وعندما غامر المرحوم السادات بما فعل معترفاً بالعجز العربي ومنطلقاً من الواقع بشجاعة لا تزال تميزه وهو في ذمة الله عن آخرين دانه من كانوا من العرب على الكراسي أو حولها، ثم لم يلبثوا ان توافدوا على طاولات المفاوضات. لقد ذهب هؤلاء الى مدريد، كما قالوا، من أجل البحث عن سلام عادل شامل، ولكنهم ذهبوا الى معركة السلام، كما كانوا يذهبون الى معارك الحرب. أما عرفات الذي خوّفوه من سلوك مسلك السادات ردحاً من الزمان انتهى به الامر ومن معه الى الجلوس في تونس بعيداً بآلاف الأميال عن وطن كان قريباً منهم، فإنه أدرك ان الواقعية تفرض عليه الانصراف عن أناشيد العرب وخطبهم فأجلس وفداً لمنظمة التحرير مع وفد اسرائيلي في أوسلو وقبل باتفاق مرحلي خوّله وضع الاقدام الفلسطينية على أرضٍ لها. والحق ان ما توصل اليه هو في حد ذاته مكسب حيوي حتى لو فشل في الحصول على المزيد. لقد نفضت منظمة التحرير، بما توصلت اليه في أوسلو، عن كاهلها بلاغة العرب السياسية والحرص على كرامة الحاكم، ولو تضحية بمصالح الشعوب. ولذلك تواجه، وعلى رأسها عرفات، ما واجهه المرحوم أنور السادات. كان لدى عرفات من الإصرار ما يمكنه من المضي في سلام المراحل مدركاً ما يتجاهله كثير منا من انه ما على الذي لا يستطيع التهديد بالقوة حين تفشل المفاوضات، إلا ان يواصل التفاوض مستعيناً بكل ما يمكن الاستعانة به، علماً انه في النهاية لن يحصل على ما يحصل عليه المفاوض الغالب بالقوة أو المفاوض الذي يقدر على التهديد باللجوء حال انسحابه من المفاوضات. لقد نأى عرفات بنفسه عن عادة ألفناها من عدم الرغبة في الحرب حين الدعوة اليها وعدم الرغبة في السلام حين ذهابنا اليه، وسار في طريق السلام الممكن وفقاً للمعطيات القائمة تاركاً السلام المأمول لظروف هي غيب عند علاّم الغيوب. في دروس التاريخ أن الباطل قادر على الانتصار، وان مقولة إن الحق لا يضيع هي مقولة للتفاؤل ورفع المعنويات، فكم من مظالم صارت واقعاً وكم من حقوق جرفتها رياح النسيان ولعل معالم الفلسطينيين كانت ستختفي عبر المنافي وتعاقب الايام لو انهم لم يقبلوا بحل مرحلي أعاد بعضهم الى وطن سليب، خصوصاً وهم عراة الا من اصداء البلاغة العربية، وعرضة للذبح في لبنان و للإبعاد الى حدود صحراوية افريقية. وكانت العودة أفضل لمن عاد، أما من لم يعد فسيحمل جواز سفر تابع لوطنه. في أي حال، خيراً فعل الفلسطينيون الذين قبلوا بالحلول المرحلية وكان خيراً للمفاوض منهم ان يجلس الى اليهود وهو يملك عنواناً في فلسطين يعود اليه حال الفشل أو النجاح. وعلى عرفات ومن معه ان ينتبهوا الى اننا نحن الذين احترفنا القضية وبعدما مرت بنا وعلينا اتفاقات اوسلو وتوابعها لا نزال نتربص بما يجرونه من مفاوضات عائدين الى الاصرار على ان لا قبول بأي اتفاقات جديدة، إلا اذا كانت تمثل حلاً نهائياً يحقق كل المطالب، ولن يفعل عرفات اذا ما اخذ بهذه الرؤية اكثر من ان يوقف مسيرة المكاسب المرحلية بانتظار حل نهائي يرضينا رغم احتمال أننا قد لا نرى ذلك الحل متحققاً في أي مستقبل منظور. إن اسلوب الحلول المرحلية لقضية فلسطين وان بدا انه لمصلحة اسرائيل هو ايضاً لمصلحة الفلسطينيين، وهو اسلوب حقق لسلطة فلسطين وجوداً فعلياً مهما كان ناقصاً ومرتبكاً إلا أنه قابل للاكتمال، وهو على أي حال خير من المنفى ولو عند عرب أكرمين. وهو اسلوب انجح لمصلحة السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني من الاصرار على حل نهائي يصعب تحديد معالمه. ان افضل نصيحة للمفاوض الفلسطيني اليوم هي ان يمضي في سياسة المراحل خصوصاً ان هذه المرحلة من السلام تتعرض لأهم القضايا الخلافية مع اسرائيل وعلى رأسها، الحدود وعودة اللاجئين واقتسام القدس الشريف. ان المطروح للتفاوض في هذه المرحلة هي مواضيع يصعب على اليهود الموافقة على ما يرضينا بشأنها والإلحاح على انجاز حل نهائي في المواعيد التي يعلن عنها قد يدفع المفاوض الفلسطيني الى تقديم تنازلات من الافضل له ان لا يقدمها. إن على عرفات ومن معه ان لا ينجذبوا الى إغراءات الفراغ من القضية وان يقاوموا دعواتنا لهم للإصرار على انجاز حل نهائي للقضايا الباقية المطروحة، لأنهم اذا فعلوا سيواجهون احتمالين كلاهما لا خير فيه، فإما فشل المفاوضات واما تقديم التنازلات الضارة. وأي عيب يا ترى في ان يصل الفلسطينيون الى اتفاق مرحلة جديدة من دون تفريط في الاساسيات والى حين من الاحيان. ان السلطة الفلسطينية قائمة وان كانت منقوصة ووجودها يزداد رسوخاً كل يوم خصوصاً اذا ما اهتمت ونجحت في تشكيل مجتمع ديموقراطي ليس على الطريقة العربية تزدهر فيه الحرية وتقدس حقوق الانسان، وكل يوم يمضي يمنح تلك السلطة مزيداً من القدرة على التفاوض فمع وجودها حيث هي لن ينسى أحد قضية فلسطين وهي على ارضها اقدر على الاستقلال بقرارها واقل عرضة لهواة الشعارات وواضعي العصي في العجلات من ساسة ومفكرين وعرب وغير عرب من المسلمين، فما يسميه الفلسطينيون بالعمق الاستراتيجي العربي الاسلامي ليس باستثناء اقلّه الا مخزن العصي التي توضع في العجلات. * كاتب، رئيس وزراء ليبي سابق.