تراهن السلطات الألبانية على المشاريع التي يمكن أن تحملها خطط التنمية، التي سيتضمنها مشروع مارشال الأوروبي الجديد في البلقان، لتحسين البنى التحتية فيها وتطوير مرافق الخدمات الأساسية، لا سيما الطاقة والماء والطرقات، ما من شأنه أن يؤدي إلى تدفق المستثمرين وأصحاب التوظيفات الذين يرغبون في الاستفادة من الفرص الهائلة المتاحة في قطاعات عدة بينها قطاع السياحة. وأدت سنوات القطيعة الطويلة التي عاشتها ألبانيا على مدى أكثر من نصف قرن إلى بقاء أجزاء كثيرة من ألبانيا خارج إطار برامج التنمية الاقتصادية ومشاريع التطوير التي عاشتها البلدان المجاورة في أوروبا، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتعتبر اليونان المثال الأكبر على التطور الممكن والفرصة الناقصة التي خسرتها ألبانيا على مدى العقود الماضية. وكانت اليونان حتى مطلع السبعينات بلداً فقيراً يتميز بتدني مستوى الدخل فيه. وكما حدث مع أسبانيا التي انفتحت مطلع العقد الماضي على السياحة الجماهيرية وفورة بناء مرافق ومنتجعات شاطئية وترفيهية مخصصة للفئات الشعبية وأفراد الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، رأت اليونان نفسها تتحول في اقل من ربع قرن إلى سوق سياحية بامتياز يقصدها ملايين السياح كل عام وتدر عليها عوائد تبلغ بلايين الدولارات، من دون الحديث عن التأثير الاقتصادي المضاعف الذي تخلفه صناعة السياحة والسفر على صعيد توليد الوظائف ورفع مستوى الدخل وتنمية أكثر من 56 قطاعاً ونشاطاً اقتصادياً رديفاً في القطاعات الأخرى. ويشكل النموذج اليوناني، ومعه أيضاً النموذج الايطالي في المناطق الساحلية، مثالاً للتطور الذي يمكن أن تحظى به ألبانيا في مجال السياحة والسفر كنشاطين مورّدين للدخل، سيما وأن ألبانيا تشاطر إيطاليا البحر الأدرياتيكي، واليونان البحر الإيوني. وهي تملك مثلهما، مناطق جبلية ومناظر طبيعية ومسطحات مائية ساحرة تضاهي إن لم تكن تفوق جمال الطبيعة في إيطاليا واليونان. وتحتاج ألبانيا إلى تطوير خدمات النقل فيها، لا سيما النقل الجوي. وتتولى شركة "آدريا" وشركة "الخطوط الجوية لألبانية" تسيير رحلات منتظمة بين تيرانا والعالم الخارجي. إلا أن ضعف هاتين الشركتين وصغر حجم أسطولهما لا يجعلهما قادرتين على تطوير سياسة نمو بعيدة المدى يمكن لها أن تدعم قطاع النقل الجوي في ألبانيا. وتفتقد البانيا إلى المطارات الدولية المؤهلة لاستقبال حركة منتظمة وافدة. ويكفي ارتياد مطار تيرانا الذي يشبه مطارات الجمهوريات الافريقية الفقيرة لإدراك مدى الحاجة إلى تطوير هذا المرفق الحيوي في بلد يقوم على قطاع الطرق بين بلدان جنوب أوروبا وشرقها. ويعاني المسافرون في المطار من الحر اللاهب في وقت لا تستطيع المراوح الثماني الموجودة في صالتي الانتظار فيه تأمين أي تهوئة مناسبة أو تخفيف حدة الحر. أما الطائرات فيتم الصعود اليها بعد السير على المدرج. وثمة باصات لنقل المسافرين إلى أسفل الدرج المفضي الى الطائرات. إلا أنه يتم أحياناً الاكتفاء بجعل المسافرين يقطعون المسافة إلى الطائرة سيراً على الأقدام. وعلاوة على ضيق مساحة المطار فإن أغلب المعاملات فيه، بما في ذلك معاملات تسجيل أسماء المسافرين الوافدين والمغادرين يتم يدوياً، وكذلك الاعلان عن مواعيد الرحلات. ويفتقد مطار ريناس الدولي، الذي يفصله عن العاصمة تيرانا طريق معتم طوله 28 كيلومتراً يخلو من مصابيح الإنارة، إلى موظفي الجوازات المدربين الذين يستطيعون التحدث بالانكليزية. وبعض هؤلاء الموظفين، كما شاهدت "الحياة" في مرفأ دوريس، ليست لديه حتى الخبرة الكافية لقراءة تأشيرة الدخول التي تُعطى للمسافرين وباللغة الألبانية وحدها. ويشكل امتلاك منافذ جوية وبحرية متطورة نقطة أساسية لتطوير صناعة السياحة والسفر في ألبانيا، ذلك أن تعذر تطوير هذه المرافق سيؤدى إلى اعتماد ألبانيا في صورة زائدة، ومعها أصحاب الاستثمارات السياحية، على السياح القادمين لفترة وجيزة من اليونان ومنتينيغرو المجاورتين. ومن شأن هذه الظاهرة إذا تكرست أن تعني تبعية ألبانيا الكاملة لصناعة السياحة في هذين البلدين ودورانها في فلك مؤسسات السياحة والسفر فيهما، علاوة على صناعة السياحة ومؤسساتها في إيطاليا. ويعتبر تحويل ألبانيا إلى وجهة سياحية منفصلة ذات هوية خاصة بها معقد رهانات أساسية على الصعيدين الاقتصادي والاستثماري، في المديين القصير والمتوسط. وتحاول تيرانا أن تنتهج سياسة إقليمية خاصة بها، إلا أنها تجد صعوبة في تحقيق هذا الهدف في ظل تبعيتها الكبيرة تجاه اليونان وإيطاليا، وفي ظل فشل سياسات التنمية السياحية التي اتبعتها دول أدرياتيكية اخرى حاولت تقليد النموذجين السياحيين في ايطاليا واليونان. ولا تتجاوز عوائد السياحة في ألبانيا في المرحلة الحالية دولارين للفرد الألباني الواحد. وبلغت هذه العوائد خلال الأعوام 1993 وحتى 1996 ثمانية ملايين وخمسة ملايين وسبعة ملايين وثمانية ملايين دولار على التوالي. أما عدد السياح الوافدين خلال تلك السنوات الأربع فبلغ 45 ألفاً و28 ألفاً و40 ألفاً و38 ألفاً على التوالي. وهذه جميعها أرقام متواضعة للغاية تكشف عدم وجود سوق حقيقية سياحية في ألبانيا، وغياب أي ترويج فعلي للإمكانات الكامنة والهائلة لقطاع سياحة السفر في هذا البلد البلقاني الساحر ذي المناظر الخلابة والطبيعة المدهشة. ووجد الصحافيون الذين تدفقوا إلى ألبانيا إبان الأزمة الأخيرة صعوبة في العثور على أماكن للسكن، في وقت رفعت الفنادق المحلية- وبعضها يدعي الانتماء إلى فئات نجوم أعلى تصنيفاً من الفئة التي ينتمي اليها في الواقع - أسعار غرفه وخدماته بمقدار يقارب الضعفين. وكانت تلك سانحة اقتنصها أصحاب المؤسسات الفندقية الذين يفرضون أسعاراً تضاهي بعض ما هو معمول به في عواصم أوروبية أكثر تقدماً على مستوى الخدمات. وكان الوافدون إلي تيرانا وغيرها من المدن يقبلون بهذا الغبن، على أمل أن يحظوا بخدمات المياه والكهرباء والهاتف على مدار الساعة. وهو أمر يفتقده سكان هذه المدن في شكل ملح أحياناً. ويصل عدد الغرف الفندقية في ألبانيا إلى 2300 غرفة. أما عدد الأسرّة فيقارب الأربع آلاف غرفة. وقال المدير المقيم للبنك الدولي في ألبانيا كارلوس إلبرت ل "الحياة": "يتميز القطاع الخاص الألباني بديناميكية كبيرة، وهو الذي سيتمكن من تطوير القطاع الفندقي في البلاد". ويجتذب قطاع الفنادق مستثمرين كثيرين. إلا أن أغلبهم من أصحاب الفنادق في إيطاليا واليونان. كما أن هناك مستثمرين عرباً مثل "مجموعة الخرافي" الكويتية التي تملك "الخطوط الألبانية" وبعض الفنادق والمنتجعات السياحية الضخمة في ألبانيا والتي ترغب في تطوير حضورها في هذا المجال في السوق الألبانية. وعانت المعالم السياحية والأثرية في هذه الجمهورية الصغيرة، التي تجهد للخروج من التأثيرات السالبة للحقبة الشيوعية البائدة، من عمليات تلاعب وفساد حكومي أدت إلى سقوط الكثير من المنشآت الترفيهية والثقافية، وحتى الأثرية، في أيدي مستثمرين جشعين وضعوا أيديهم، بموجب عقود مدبّرة، على مرافق وطنية عدة بدعوى استثمارها وتطويرها. إلا أنهم حولوها لخدمة أغراض ترفيهية رخيصة غرضها تحقيق أكبر جدوى اقتصادية منها، ومن دون الالتفات إلى دواعي تطوير صناعة السياحة والترفيه في البلاد أو توليد مزيد من الوظائف. وتنتشر مساحات شاسعة من المناظر الطبيعية الخلابة والساحرة أينما اتجه المرء في الربوع الألبانية. وتحمل دعة هذه المناظر الزائر على الظن لوهلة أنه في أحضان الطبيعة السويسرية أو الريف الانكليزي، إلا أن ميزة ألبانيا أن الطبيعة فيها تحمل مزيداً من الدفء ومن حرارة الشمس التي تغيب فترات طويلة عن شمال أوروبا ووسطها. ويقول المسؤولون في اللجنة الوطنية للسياحة في ألبانيا إن كلفة تطوير القطاع السياحي في البلاد تصل إلى 200 مليون دولارفي المرحلة المقبلة. وقدم البنك الدولي 20 مليون دولار للحكومة الألبانية بغرض إعداد دراسات جدوى، وأخرى تتعلق بكيفية المحافظة على البيئة في البلاد وحماية المواقع الطبيعية والأثرية التي تعرضت إلى تعديات كثيرة عليها، نتيجة سوء الادارة الحكومية وغياب سلطة الدولة النسبي، بعد الاضطرابات التي رافقت المرحلة الانتقالية التي أعقبت انتهاءالحكم الشيوعي عام 1991. ويبدي المسؤولون في البنك الدولي تخوفهم من أن تصبح ألبانيا مجرد سوق تابعة للأسواق السياحية في البلدان المجاورة، لا سيما اليونان المجاورة التي تعتبر سوقاً أكثر تطوراً. وأدى هذا الأمر إلى نوع من الخلاف مع السلطات الألبانية المختصة، التي تعتبر أن السياسات التي يقترحها البنك الدولي ستؤدي إلى تبعية ألبانيا للأسواق المجاورة في حين يقول البنك إن هدفه هو العكس تماماً. وحسب البنك الدولي فإن إيطاليا واليونان شهدتا على مدى السنوات الماضية مشاريع كثيرة لبناء فنادق ضخمة فيها مسابح ومنتجعات ترفيهية كبيرة، بالاضافة إلى بناء ملاعب غولف فائقة التطور، ما يعني أن على البانيا أن تتجنب بناء مثل هذه المنشآت التي لن تجذب الفئات نفسها من السياح نظراً إلى عدم توافقها، في المرحلة الحالية، مع البنية التحتية السيئة التجهيز، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى استقطاب المستثمرين الذين يمكنهم توظيف أموالهم في القطاع السياحي في شكل أكثر استقراراً على المدى البعيد. الساحة الجميلة التي لا تنام وتبقى صورتها في الذاكرة اسكندر بيه، شخصية تاريخية قدمت الاستقلال للألبان قبل أكثر من خمسة قرون. تمثاله يعلو صهوة حصان برونزي قائم على جانب الساحة التي تحمل اسمه وسط تيرانا. السير في زحمة الساحة متعة يومية لكل من يرتاد العاصمة الألبانية. هذه المتعة أمر يتجدد باستمرار، لا سيما في ساعات المساء حينما تتدفق جموع السكان الألبان وأفراد العائلات للتنزه في جادة شهداء الأمة التي تمتد من اسكندر بيه حتى الساحة المقابلة وهي ساحة الأم تريزا، الراهبة ذات الأصل الألباني المقدوني. المنطقة هذه هي أجمل ما في تيرانا. بنى أغلب منشآتها الايطاليون خلال الحرب العالمية الثانية. على ضفتي الجادة وحول الساحتين عند طرفيها تتوزع مبانٍ جامعية ومقار الوزارات والبرلمان والسفارات والمنظمات الدولية والمتاحف التي تحمل بصمات الهندسة الستالينية. من الساحة تنطلق الشوارع كالعروق التي تبث الحياة في جسد المدينة التي تنمو كل يوم بثقة أكبر. هناك محلات تفتح أبوابها وهناك زوار كثيرون يأتون وآخرون يرحلون، لكنهم جميعاً يستسلمون لسحر هذه الساحة الكبيرة، ساحة اسكندر بيه، التي تبقى في مخيلتهم عنواناً لألبانيا وسكانها الذين يستفيقون على دوي الحياة القادمة اليهم من مختلف أصقاع الدنيا، بعد النسيان الطويل الذي أغرقتهم به الشيوعية. شراء تذاكر السفر في شارع مينابيزا يتم نقداً. أغلب الفنادق لا يقبل كذلك إلا الدفع نقداً، وسحب الأموال من بطاقات الائتمان ممكن في فندق "روغنر" ذي الادارة النمسوية، قريباً من مقر رئاسة الوزراء والبرلمان. ممكن أيضاً السحب في بعض الفروع الأخرى ولكنها ليست معاملات سهلة، لأن ألبانيا لا تزال تحبو حبواً في مدارج الرأسمالية وخدماتها السريعة. في كل مكان في الشوارع المحاذية هناك مكاتب سفر تتيح الوصول إلى اي نقطة داخل ألبانيا. المكاتب ترفع على الباب أسعار رحلاتها، وهي ليست غالية بالمقاييس الغربية. لكن على المرء أن يحذر في اختيار المواضع التي يتعين عليه الذهاب اليها لأن هناك أحياناً مواضع تعصى على القانون، ومن الأفضل تجنب المفاجآت غير السارة. أما المطاعم فالخدمة فيها ليست ما يمكن أن يتوقعه المرء. وأغلبها لا يملك لائحة طعام مترجمة إلي الانكليزية. والنادل عادة يجهل أي لغة غير الالبانية طبعاً. والتفاهم صعب أحياناً ، وليس هناك سبيل للحصول على خدمة سريعة لأن الخدم في المطاعم أقل من العدد المطلوب، علاوة على أنهم لا يردون غالباً على إشارات الزبائن. ولعل أفضل ما يمكن أن يحصل عليه السائح في هذه المطاعم هو السمك الألباني، لا سيما سمك كوران، الذي هو سمك محلي مميز الطعم. وألبانيا، بفضل تخلفها الاقتصادي، بعيدة بعض الشيء عن التلوث، وكذلك الامر مع منتجاتها الزراعية والحيوانية.