الرجال غائبون تقريباً، سائق الشاحنة يتحول الى فتاة هوى، الأخت روزا تلد اسطبان الثالث من "لولا"، والممثلات يمثلن ادوار ممثلات. الرحلة بين مدريدوبرشلونة، هي بالأحرى رحلة هروب. والأب الغائب أب اسطبان لا يعرف ان له ابناً. اما الأب الغائب الآخر أب الاخت روزا فانه حين يرى ابنته بعد غياب يسألها عن عمرها وعن طولها ثم يتابع طريقه. للوهلة الأولى تبدو هذه العناصر جميعاً مضحكة وغير مترابطة. لكنها تحت ادارة المخرج الاسباني بيدرو المودافار او المدوّر تنتهي بأن تسيل دموعاً كثيرة في الصالة. هل نحن، في فيلم المودافار الجديد "كل شيء عن أمي" امام ميلودراما من النوع الذي كان يتقنه دوغلاس سيرك، مثلاً؟ اجل، ولكن في الشكل الخارجي للفيلم، وفي قوة المشاعر التي يحملها. اما واننا امام فيلم لواحد من سادة "الكولاج" والغرائبية في السينما الأوروبية، فان علينا ان نفرق بين "الشكل الخارجي" والعوالم الداخلية للفيلم. في فيلمه الجديد، والذي نال بفضله جائزة احسن مخرج في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان" السينمائي - وكان يستحق السعفة الذهبية دون تردد -، يبدو بيدرو المودافار اكثر نضوجاً من اي وقت مضى، وحتى لئن كان "كل شيء عن امي" يحفل بالعناصر الغريبة التي قد يصعب على مخرج عادي ان يقنعنا بصواب وجودها في فيلم، فانها لدى المودافار تبدو عادية نابعة من رحم الحياة نفسها. الحياة التي هي العنصر الأساسي في هذا الفيلم العذب والحنون. الحياة التي تحملها نظرات نساء يملأن الفيلم اشعاعاً وضوءاً، سواء أكنّ ممثلات، او عابرات للجنس او ممرضات او راهبات او فتيات هوى، المرأة هنا هي الحياة والأمل، تعيش آلامها وأحزانها وحرمانها دون ان يخلف لديها ذلك اي قسط من حقد او يأس، حتى وان كانت المرارة تشع من عينيها. واذا كان المودافار يهدي فيلمه الى الممثلات اللواتي لعبن، على الشاشة، ادوار ممثلات فانه في حقيقة الأمر يهدي الفيلم الى كل النساء. وذلك، ببساطة، لأن كل النساء، في رأيه، ممثلات قادرات على اعادة اختراع الحكايات وعلى اعادة اختراع الحياة نفسها. واعادة اختراع الحياة هو الجوهر الذي يبني عليه المخرج فيلمه. فاذا كان الذكور الثلاثة في الفيلم يحملون الاسم نفسه "اسطبان" فما ذلك الا لأن كل واحد منهم يأتي في الفيلم بديلاً عن سابقه: اسطبان الأول يتحول من صاحب مطعم الى امرأة، وابنه اسطبان الثاني يموت في حادث سيارة يوم ميلاده الثامن عشر، اما اسطبان الثالث فانه الطفل الذي تلده الأخت روزا قبل رحيلها، من رحم علاقة تقيمها مع اسطبان الأول/ لولا. وهذا الطفل نفسه ترثه مانويلا ليصبح لديها بديلا من ابنها اسطبان الثاني الذي شهدت مقتله بأم عينيها. كل هذا يبدو هنا كالكلمات المتقاطعة. وذلك لسبب اساسي وهو ان ما يقدمه المودافار في "كل شيء عن امي" رؤية سينمائية لا يمكن للكلمات ان ترويها. وان كان للكلام دور كبير في الفيلم. فجزء من الفيلم يدور في المسرح وعن المسرح. لأن الشخصية الثانية فيه، من بعد مانويلا، هي شخصية هوما روخو، التي نراها في الفيلم تلعب دور بلانش، في مسرحية "قطار اسمه الرغبة" لتنيسي ويليامز، وهي المسرحية نفسها الذي سبق لمانويلا ان مثلت فيها، هاوية، قبل عشرين سنة. واسطبان الثاني يقتل وهو يحاول ان يحصل من هوما على توقيعها، هو الذي - بتأثر من مشاهدته للمرة الألف لفيلم "كل شيء عن حواء" لجوزف مانكفيتش - يبدأ قبل مقتله كتابة رواية عن امه تحمل تحديداً عنوان "كل شيء عن امي". ولكن هل يعرف اسطبان الثاني، حقاً، كل شيء عن امه؟ انه لا يكف عن سؤالها عن ماضيها وعن أبيه، وهي تتردد دون الاجابة. اخيراً حين تعلمه، بصدق، ان تروي له كل شيء حين يعودان الى البيت، تأتي حادثة السيارة القاتلة لتحول بينها وبين الافصاح عن "السر". المرأة وسحر سرّها بالنسبة الى المودافار، كل امرأة هي سر، وسحر هذا السر لا يتعين كشفه. من هنا، حتى حين تنكشف أسرار بعض نسائه، من هوما الى اغرادو الى الأخت روزا، تنكشف كل حكاية على شكل قدر من العواطف والمشاعر المدمرة. "انني احب دائماً ان اقول عن مجموعة من النساء اللواتي يتحدثن الى بعضهن البعض ان لقاءهن هو اصل الحياة وولادة الحكاية" هذا ما يقوله عن النساء، بيدرو المودافار، الذي لم يتوقف، منذ فيلمه الاول وحتى الآن، عن تقديم شخصيات نسائية تبدو ذات حياة وحيوية تفوق ما تسمح به الحياة العادية خارج الشاشة. من هنا تختلط الحكاية بالحياة لدى المودافار، ومن جديد في "كل شيء عن أمي" وهذا الاختلاط هو الذي يهز مشاعر المتفرجين، في فيلم يبدأ كحكاية معاصرة زرع القلوب، وكسرد لعلاقة فتى مراهق بأمه مانويلا واسطبان الثاني، ثم يتحول الى ميلودراما مبكية، قبل ان ينتهي على قطار عائد من مدريد الى برشلونة، وعلى متنه مانويلا تحمل طفل الأخت روزا تروي له ما حدث فيما هو ينظر اليها كأنه يفهم ما تقول، وقد فهمنا نحن ان احتمال اصابته بالايدز، الذي ورثه عن امه، الاخت روزا، الذي ورثته عن ابيه اسطبان الأول/ لولا، قد زال. وعن طريق هذا المشهد يضفي المودافار على نهاية فيلمه أملاً لم يكن معهوداً لديه في افلامه السابقة، ويجعلنا نجد انفسنا امام "امثولة" عن الكيفية التي تتوالد بها الحياة انطلاقاً من الموت. تماماً مثلما هو حال خلايا الجسد التي يقول لنا العلم انها تموت الف مرة في اليوم لتنمو بدلاً منها خلايا جديدة. ولأن سينما المودافار قائمة على الازدواجية، سرعان ما يذكرنا هذا المشهد بأن قلب اسطبان الثاني قد زرع لدى مريض قلب بموافقة الأم مانويلا، تماماً كما زرع لأسطبان الأول ثديان جعلاه يتحول من رجل الى امرأة. وهو نفس ما حدث لآغرادو… انها دورة مقترحة لحياة غريبة يصورها فيلم ساحر وغريب. فيلم تشع فيه ممثلات قويات، مثل سيسيليا روث، المنفية الأرجنتينية في دور مانويلا وما ريزا باراديس، احدى الممثلات الكبيرات في اسبانيا في دور هوما التي تلعب دور بلانش الى الفاتنة بنيلوب كروز في دور الاخت روزا ولا سيما انطونيا سان خوان "في دور آغرادو. عن طريق هاته النساء، اذن، قدم المودافار نشيداً في حب المرأة، ونشيداً في حب الحياة، لا يمكن للمتفرج مهما كان شأنه، ان يظل محايداً تجاهه. أ.ع